ما أحوجنا اليوم لـ "تحفة"

 

د. حامد العطية

 hsatiyyah@hotmail.com 

يقال بأن تاريخ البشرية سجل لحروب وأعمال عنف، والقوة والسلطة متداولة بين الأمم، يوم لك ويوم عليك، إلا فقراء العراق فالأيام كلها عليهم، وكما أن وقائع التاريخ نقش في الحجر فإن لها تأثيرات على النفوس يصعب محوها، والذي لا يتعلم من التاريخ يلقنه التاريخ دروساً بليغة، وما مقولة أن التاريخ يكرر نفسه سوى شاهد على حماقة الإنسان، فلو تعلم الإنسان من أخطاءه لما كررها، وإذا كان ثلة من الأولين وقليل من الآخرين فقط يمتلكون إيماناً كافياً لكي لا يلدغوا من جحر مرتين، فماذا نفعل حيال الجحور العديدة في وطننا، ويؤكد المثل العراقي بأن الفرد لا يتعلم إلا من كيس نقوده، أليس الدم أثمن من النقود بالرغم من اضطرار الفقراء لبيع دمائهم بأبخس الأثمان؟ ألم يحن الوقت للعراقي الفقير ليتعلم من سيول دماءه المسفوحة ظلماً كل يوم؟

في المجتمعات الذكورية يتنافس ويتصارع التوافه من الرجال حول مصادر القوة، الكامنة في المناصب السياسية والرتب العسكرية والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة، وقلة منهم يفوزون بها، فأقل من عشرين بالمئة من البشر يمتلكون ثمانين بالمئة من ثروات الأرض، أما الرجال المتسامون فهم الطالبون للمعرفة، المقرون بقلة علمهم،المحبون للخير، المكنزون للحسنات، الذين لا يريدون علواً في الأرض، المتواضعون لله، الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر، الذين يفضلون الموت على العار، والنساء كذلك نوعان، متساميات وتافهات، ولمرأة متسامية أفضل من أمة من الرجال التوافه.

لله له الأسماء الحسنى، اما الأصنام الحجرية فهي أسماء سماها بشر ما أنزل الله بها من سلطان، وبئس الأسم الفسوق للطغاة الظالمين، أما "تحفة" فقد كانت اسماً على مسمى، لو كانت هذه التحفة صورة أو رسماً، لاستحقت الاستنساخ، وتعليق نسخة منها في كل بيت عراقي، وبالأخص البيوت المتواضعة، والآيلة للسقوط بفعل زعزعة مدافع ومقاتلات الأمريكان لا نتيجة صولات وجعجعة أدواتهم، لكن هذه التحقة غادرتنا، منذ زمن غير قصير، ولم تخلف لنا سوى الذكرى، لذا يجدر بنا جميعاً تخليد هذه التحفة، ولو بطريقة رمزية، وليكن رمز هذه التحفة مهداً أو صورة لمهد، نكتب تحتها وبخط عريض "تحفة"، ونعلقها في صدر حجرة المعيشة، بحيث نراها كل يوم، وعندما نصبح جديرين بـ"تحفة" نستطيع تسمية مدينة وشوارع وساحات على اسمها.

قبل نفاذ صبر القاريء على هذا المقدمة الطويلة، أبين له بأن "تحفة" امرأة قبلية، من عشيرة الحميدات، القاطنة بجوار مدينة الشامية، في جنوب العراق، وتحفة زوجة وأم، شهدت أفول قوة عشيرتها، واذلالها من قبل عشيرة مجاورة، غزتها في عقر دارها، واستباحت أرضها، وسخرت رجالها ونساءها لخدمتها، كانت حقبة مريرة في تاريخ العشيرة، سبقت هجرتهم إلى الشامية، فعندما يقتحم الذل نفوس الرجال، ويصبحون ويمسون على الاذعان لمشيئة الأغراب، فقد يعودون فكرهم على ذلك، ويقنعون أنفسهم بقلة الحيلة، وقد تسمع بعضهم مردداً بأن كتبت عليهم الذلة والمسكنة، وبأنهم باؤوا بغضب من الله لعصيانهم أوامره، وما هي في الحقيقة سوى ذرائع واهية، يقنعون بها هزيمتهم، التي سرت عدواها من سواعدهم إلى نفوسهم وفكرهم، وأفصحوا عنها باللسان المنافق المزيف للحقائق وباليد العاجزة إلا من رفع اليد بالاستسلام للمعتدي الغاصب والمسرعة لخدمته وتنفيذ مشيئته، ولكنهم عندما يجن الليل، وتوضع الأقنعة جانباً، وتصفى العقول، مدركة مرارة الهزيمة، يسكبون عبرات الهوان، أما النساء فيشحذن قريحتهن لتأليف قصائد ندب جديدة.

في خضم تلك الفترة المظلمة، شهدت "تحفة" هزيمة قبيلتها، واحتلال أرضها، وذل أهلها، واختزن عقلها الصدمة والغضب، وانتظرت انتفاضة الرجال، وطال انتظارها، وآثرت الصبر، لا خوفاً ولا املاً، بل لأن أبناءها صغار، فلما تخطوا سنوات الطفولة، خرجت من بيتها، مقتحمة مجالس الرجال، لتذكرهم بأمجادهم، وتوقظ حميتهم، وتحي هممهم، وتحضهم على مقاومة الغزاة المحتلين، لعلهم في البدء اغتاظوا منها، وزجروها، ومنعوها، وعابوا على أهلها، واستعدوا عليها نسائهم، واطلقوا عليها كلابهم، ولكنها ظلت صامدة، وعلى أهدافها مثابرة، تحملت مضايقات المتخاذلين وتخرصات مستجدي فتات الغزاة، ولم يتوقف تحريضها حتى قاموا من رقدة الأحياء الأموات، وقالوا: "لبيك!"

لكن ألف لبيك لم تكن كافية في عين "تحفة"، فما أكثر الكلام وأقل الأفعال، سألوها: "ما العمل؟" وكان لديها الجواب، بعد أن حرضت "تحفة" خططت ودبرت، واختارت التوقيت، يوم العيد موعدهم، لله درك يا "تحفة"! قضت خطة "الجنرال تحفة" بالهجوم على القبيلة المعتدية يومي العيد، فقد كان للأعداء موقعان رئيسان، يصعب التغلب عليهما بهجوم واحد في ذات اليوم، لذا سألوا "تحفة": ولكن سيسمع الأعداء المتواجدون في الموقع الثاني أصوات العيارات النارية عندما تدور رحى المعركة في الموقع الأول؟ فأجابتهم: سيفترضون بأنها احتفاءً بالعيد، فقد كان ولا يزال من عادة القبليين الاحتفال بالأعياد بإطلاق نار كثيف.

نفذ مقاتلو عشيرة الحميدات خطة "تحفة" بحذافيرها، وانتصروا على الغزاة، في الموقعين، نصراً مبيناً، ووولى الأعداء الأدبار، لتعود الأرض لأصحابها الشرعيين، وليرفعوا رؤوسهم بين القبائل من جديد، أسياداً كراماً، وتعود لهم ثقتهم بأنفسهم، وقد كرم أفراد القبيلة "تحفة" أعظم تكريم، لا يحلم به حتى كبار مشايخهم، ومنذ ذلك الحين صارت نخوة القبيلة: "أخوة تحفة"، بالإضافة إلى نخوتهم المشتركة مع أخوانهم من قبائل بني مالك وهي "أولاد صقر"، واندثرت اسماء رجال ابطال كثيرين، لكن اسم تحفة ظل باقياً، شاهداً على أن الحرية أثمن من الماء والهواء، وبأن لا حياة لجماعة بدون العزة والكرامة، وبأن أعظم البشر بعد المصطفين هم الأحرار في الفكر والإرادة، من الرجال والنساء، الذين يقودون أممهم وشعوبهم من ظلمات عبودية وذل الغزاة المعتدين إلى نور العيش الحر الكريم.

لم أفقد الأمل نهائياً من العراقيين المستضعفين، من الرجال والنساء، فلا يحسبن أعداءهم أن سكوتهم علامة رضا، بل هو الصبر الذي تعلموه عبر قرون الظلم والجور والقتل الجماعي والتهجير، وسيفرغ هذا الصبر، عاجلاً لا آجلاً، وآنذاك لا يلوم أعداؤهم إلا أنفسهم، غداً سنشهد ظهور "تحفة"، بل تحفاً من الرجال والنساء، ليقودوا العراقيين، في صولتين، واحدة ضد المحتلين وأعوانهم والمراهنين عليهم، والأخرى ضد بقايا الإرهابيين وحماتهم في الداخل والخارج، ليحتفل العراقيون يومها بأعظم الأعياد.

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com