|
د-مراد الصوادقي ونحن ندوس العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، بسنابك المآسي والأحزان وسفك الدماء، من واجبنا أن نرى بوضوح لنخرج من معصرة الفوضى وطاحونة الضياع التي تسحقنا بشراسة ثقيلة ودوافع متوحشة الطباع والأخلاق. ومن الأجدر بنا أن نرتقي إلى منطق العصر ونتفاعل معه بوعي وعقلانية وتبصر وحكمة وإصرار على الإبداع والعطاء الأصيل. كما أن من حقنا أن نعبر عن أفكارنا وتطلعاتنا وطموحاتنا وفقا لمقاييس الزمن الذي نعيشه وليس وفقا لزمن الأجداث والأموات وتوجهات الظلام البعيد. وعندما نقرأ الكثير مما نكتبه، نكتشف أننا نرسخ في وديان العبث و اللاجدوى، التي تجعل كتاباتنا بلا قيمة كأحاديثنا وتفاعلاتنا السلبية المتنوعة، والتي لا جدوى منها لأنها "مجرد كلام", فأرخص بضاعة في تجارة الحياة عندنا هو الكلام منطوقا ومكتوبا, وهذا ما يميزنا بقوة ووضوح عن العالم المتقدم وعن أبناء القرن الحادي والعشرين. فعلامتنا الفارقة هي " رخص الكلام" وعبثية الكتابة وعدم جدواها وضياع قيمتها، بسبب فقدان منطق القول وضياع مسار الزمن الذي نعيشه. فنحن نتناول موضوعات عديدة وننشر في الصحف والصفحات الإليكترونية ونقول أشياء كثيرة، لكن الجامع المشترك في معظمها، أنها كتابات بلا بوصلة علمية ورجاحة منطقية تساهم في تحقيق منطوق مفيد ومؤثر في مسيرة الحياة. فهي ليست بحثية، ولا ذات إمكانية على الصمود بوجه الآخر الذي يواجه الحجة بالحجة وفق منطق ومنهج دقيق. فالكثير من كتاباتنا يمكن وصفها بالفوضوية والمزاجية، لأنها لا تخدم إلا تأكيد تلك الحالة التي تتناولها، والإمعان بتوفير العوامل اللازمة لنمائها وتأجيجها على مختلف المستويات. ولهذا فأنها لا تشير إلى بوصلة بحار يحاول أن يتحكم باتجاه سفينته وفقا للهدف، وإنما هي كتابات أقلام شراعية، تخضع لهبات الرياح وحركة الأمواج، فتراها تتخبط وتتحير ولا تجد لها مخرجا من المأزق الذي هي فيه. فما هو منهج الكتابة وما هو الطريق الأصلح للتقدم, أسئلة بحاجة إلى أجوبة قبل الشروع بالكتابة عن أي موضوع. ففي زمن محكوم بالبحث العلمي الدقيق والدراسات المعمقة التي تستخرج جوهر العوامل الفاعلة في الأحداث، ما عاد هناك مكان للكتابات والأقوال الاعتباطية والطروحات الانفعالية، وإنما كل ما يُطرح مبني على أسس البحث العلمي وأساليب الوصول إلى النتائج الدقيقة والصحيحة. فالقصيدة بحث والمقالة بحث والقصة بحث والرواية بحث وكل ما تنتجه الأقلام أصبح بحثا يؤدي إلى نتيجة، ولا يمكن أن ينتمي أي عطاء إلى القرن الحادي والعشرين، إذا تجرد من صفته البحثية وخصائصه الدراسية العلمية ذات القدرة على الاستيعاب الشامل للموضوعات التي يتصدى لها أو يتناولها. فليس من المقبول أن نكتب كما نشاء في زمن كل شيء فيه محسوب بدقة متناهية وفقا لقدرات الحاسوب التحليلية ونظريات الفهم الجديد للظواهر والموضوعات. فنحن نعيش في عصر الثورات المعلوماتية التي تعني أن العالم بأسره قد أصبح لعبة رياضية، لا يمكن للمعادلات المتفاعلة فيه أن تؤدي إلى غير النتائج المحسوبة من تفاعل عناصرها. عالم من الممكن أن تسقط فيه الشعوب والأمم والأفراد في لعبة المعادلات الرياضية الجبرية والهندسية لتحقيق النتائج المرجوة. وفي هذا الخضم المعقد والمركب والمتجدد كأمواج المياه الجارية، لا بد من الدقة والحذر في الكتابة والتفاعل مع الوقائع والمستجدات بمنطق بحثي علمي دقيق. ومن المفيد أن نتعلم مناهج البحث العلمي لكي نطبقها على الموضوعات التي نتناولها وأن لا نميل إلى الطرح اللامنهجي الذي لا يحقق إلا حالة سلبية ذات ضرر كبير على الواقع. ففي عالم أصبح البحث العلمي فيه قوة وقانون، يتوجب على المبدعين أن يخبروا هذا الأسلوب وأن يطرحوا أفكارهم وفقا له، وإلا فأنها تبقى "عبث كلام" يعبر عن الانفعال، فلا يحفز العقول وينور الأعماق البشرية. وبسبب ذلك فأننا نقرأ العديد من الردود المنفعلة على هذا الطرح أو غيره، ولا يحقق ذلك فائدة أو تأثير بقدر ما يكون نوعا من الخصام الجديد بأدواتنا المعاصرة التي فرضت نفسها علينا بقوة فائقة, ونحن نحاول تسخيرها لتحقيق المؤهلات السلبية لتفاعلات غير مثمرة, ومشاكسة لمصلحة الأجيال القادمة. وفي الختام فأن أي كلام أو إبداع يخرج عن أصول البحث العلمي، فأنه لا يفيدنا, وربما يضرنا كثيرا, وعلينا أن نعي حقيقة مفردات القرن الجديد الذي نحن أول ضحاياه بسبب غياب العقل العلمي ومناهج البحث في حياتنا العامة.
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |