المجنون والنفط...!

 

 

د-مراد الصوادقي

alsawadiqi@maktoob.com

عدت إلى صاحبي المجنون بعد أشهر عديدة فرقت بيننا المقاساة المشتركة والظروف المعقدة، وقد نسيته, لكنني وجدته صدفة هذه المرة، بعد أن تمكنت من السير في الشارع الذي توطنه, وما حسبته حيا إلى اليوم. لكنه ظهر أمامي كما تركته من قبل. وهذه المرة قد كسا صخرته بأسلاب البشر المعفرة بالدماء، فازدحم الذباب عليه كأنه غيمه سوداء تمنع عنه الشمس.

وجدت صاحبي المجنون يداعب لحيته ويضرب أخماسا بأسداس. فسلمت عليه وأنا أحاول تجنب صولات الذباب، لكنه لم يرد على سلامي، وكررت السلام ثانية وثالثة لكنه لم يجبني. فخطوت قليلا إلى الوراء وأخرجت "كامرتي" لألتقط له صورة، فلاحظ ذلك ونهض نحوي منزعجا وهو يقول: لا ...لا يا ولد

فوضعت "كامرتي" في جيبي وعاد إلى صخرته فدنوت منه

وقلت: لماذا لا ترد على سلامي

فقال: لا أريد الانقطاع عن أفكاري

فقلت: وكيف أنت الآن

قال: كما تراني...دعني أفكر

قلت: وبماذا تفكر

قال: كم هو سعر برميل النفط

قلت: أكثر من مائة دولار

قال: وكم عدد نفوس العراق

قلت: يقولون خمسة وعشرين مليون

قال: وكم ينتج العراق من النفط يوميا

قلت: أكثر أو أقل من ثلاثة ملايين برميل, أما غير المحسوب فقد يكون أكثر من هذا

قال: أعطيهم مليونين "طرح"

قلت: الباقي مليون

قال: اضرب مليون في مائة

قلت: مائة مليون

قال: اقسم الناتج على خمسة وعشرين مليون

قلت: أربعة

قال: اضربها في ثلاثين

قلت: مائة وعشرين

قال: هل فهمت

قلت: لا أدري ما تريد قوله

قال: أنا المسكين الجائع البائس الفقير، أتوسد صخرتي، وأعيش تحت خيمة من الذباب وأفترش أسلاب الجثث المتناثرة على الأرصفة, أريد مائة وعشرين دولارا شهريا. أريدها لكي أعيش مثل المخلوقات الغير بشرية في العالم المتقدم. أليس الفقير عندهم مَن يقل دخله السنوي عن عشرة آلاف دولار, أو أكثر. فماذا يسمونني ، وأنا دخلي المفترض بعد "الطرح" يساوي ألف وأربعمائة وأربعين دولارا, هل تسميني عُشر فقير؟

قلت: لقد أصبتني بالدوار، لأنه حقي أيضا

قال: وحق الملايين المقهورة من أبناء بلدنا

ومضى غاضبا :

لتأخذ الكراسي ما تأخذ وتترك لنا مليون برميل يوميا, سنبني بها المدارس والبيوت والمدن وكل ما نحتاجه ونعيش مثل البشر في بلدٍ زاهرٍ سعيد.

قلت: وهل سيدركون ما تقول؟

قال: تخيل أن كل فرد في العائلة يحصل على مائة وعشرين دولار شهريا، إضافة إلى ما يحصل عليه من عمله إذا كان موجودا لأن البطالة متفاقمة كما تعلم.

قلت: هل سيسمعون؟

قال: أنت مثلهم لا تريد أن تعرف الحقائق لترحم الناس وتساعد أمثالي ...أنت مثلهم.

وإذا به يمسك بأسلابه وينثرها حول الصخرة ويطرد الذباب بواحدة منها ثم يجلس على الصخرة العارية مهموما, وهو يصرخ في الذباب : أريد حقي من النفط، أريد حصتي من النفط، ألم يجعلوها حصصا...., فلكل منا حصته....وأنا أريد حصتي من النفط؟!

لكن الذباب تراكم عليه وراح يلسعه, فانشغل بنفسه وانكب على صخرته مستسلما لمجتمع الذباب الذي يتلذذ بدمه المحقون بالغضب والحسرات. ونظرت إليه مودعا وقد فاضت دموعي فهاجمني الذباب وأخذتني خطواتي إلى حيث المجهول المعبأ بالانفجارات والاتهامات والظنون والبؤس واليأس والحرمان. وأصبحت قدماي أثقل من الجبال فتجمدت في مكاني أسأل رحمة مفقودة في طرقات الموت السعيد. 

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com