|
الفروق الاساسية بين حركة المجتهدين والاخباريين نظرية اشكالية قديمة .. (الحلقةالاولى)
احمد الحسني البغدادي الفروق الاساسية بين حركة المجتهدين .. والاخباريين !!.. لن نقف وقفة طويلة شاملة عند افراز كل الفروق بين الحركتين وتحليلها، كما تعرض لها العلماء والباحثون(1) قد تصل الى درجة التباعد، او التنافر، او درجة المعادلة .. بل كل وقفتنا لبيان الفروق التي لها علاقة وثيقة في عمق الاطروحة الاجتهادية . - الفرق الاول – في شجب الاجماع والعقل شجب الاخباريون دليل الاجماع والعقل، وانكروهما من اساسهما، واكتفوا بـ((القرآن والسنة)) .. بينما نجد المجتهدين اعتمدوا عليهما في عمليات الاستنباط بوصفهما مصدرين من مصادر التشريع الاسلامي الاربعة الاصيلة . اما دليل الاجماع .. فقد اعتبره الاخباريون من مبتكرات الفكر السني، وزعموا امتناعه وتعذره .. في نفس الوقت نرى المجتهدين اعتبروه من مصادر التشريع، وصرحوا: بان المناط في حجية الاجماع هو: كشفه عن قول المعصوم ((عليه السلام)، او فعله، او تقريره .. في ضمن الآراء المتفقة بين المجتهدين . وقد ذكروا وجوهاً متعددة في مدرك حجية الاجماع، وطرق الكشف عن قول المعصوم ((عليه السلام)، او فعله، او تقريره المستند الى اتفاق الفقهاء . اذن فازالة دليل الاجماع من قبل الاخباريين مجازفة سافرة، وذلك لأن الاجماع ليس من مختصات موارد الفقه الاسلامي، بل هو موجود في كل المعارف الانسانية، والعلوم الصناعية، بل في كل المذاهب الحديثة والقديمة، المؤمنة منها والملحدة .. حيث نلاحظ في هذه الواجهات اتفاقاً (من قبلهم) على شيء معين.. سواء من الاشياء البديهية، او من المنطلقات النظرية . وفي الحقيقة ان الاجماع ليس دليلاً مستقلاً بذاته، بل هو كاشف عن السنة الكريمة . قال المحقق الحلي (ت676) في هذا الشأن: ((وأما الاجاع .. فعندنا هو: حجة بانضمام المعصوم (عليه السلام)، ولو خلا المائة من فقهائنا من قوله (عليه السلام)، لما كان حجة، ولو حصل في اثنين لكان قولهما حجة لا باعتبار اتفقاهما، بل باعتبار قوله (عليه السلام))(2) . واما دليل العقل .. (3) فانا نجد ان قد وقع بين الاوساط الاصولية ارتباك واضطراب في اعطاء صياغة محددة لشتى موارده، وذلك لمكان الخلط منذ قرون متطاولة . قال المحقق البحراني: ((المقام الثالث في دليل العقل: وفسره بعض بالبراءة الاصلية، والاستصحاب .. وآخرون قصروه على الثاني .. وثالث فسره بلحن الخطاب، وفحوى الخطاب، ودليل الخطاب .. ورابع: بعد البراءة الاصلية والاستصحاب بالتلازم بين الحكمين المندرج فيه مقدمة الواجب، واستلزامه الامر بالشيء النهي عن ضده الخاص، والدلالة الالتزامية ))(4) . ومن الوضوح بمكان.. ان نرى جملة من هذه الاقوال المطروحة يستفاد منها: ان الدليل العقلي ليس دليلاً مستقلاً حيال القرآن، والسنة، وانما هو: أصل من الاصول العملية التي تعين وظيفة الانسان المكلف عند الشك بالحكم في مقام الجري العملي، او تكون داخلة في حجية الظهور .. كبحث المفاهيم . ومهما يكن .. فاحسن من كتب في تحديد دليل العقل هو: صاحب القوانين .. حيث ذهب قائلاً: ((والمراد بالدليل العقلي هو: حكم عقلي يتوصل به الى الحكم الشرعي، وينتقل من العلم بالحكم العقلي الى العلم بالحكم الشرعي ))(5). وهنا .. ينقسم الدليل العقلي الى قسمين: مستقل .. وغير مستقل .. والمقصود بـ((الدليل العقلي المستقل)) هو: ما يكتشف بذاته الحكم التشريعي من دون توقف على صدور الدليل الشرعي .. كقاعدة: التحسين والتقبيح العقليين .. كادراك العقل بحسن شيء، او قبحه، ثم ادراكه بانه كل ما ادرك به العقل حكم الشارع بوجوبه، او حرمته . والمقصود بـ((الدليل العقلي غير المستقل)) هو: عبارة عن ادراك العقل المتوقف على صدور الدليل الشرعي .. مثل: ادراك الملازمة بين وجوب الشيء، ووجوب مقدمته .. كما يدرك العقل وجوب المقدمة عند نهوض الدليل الشرعي بوجوب ذي المقدمة . والواقع ان ما يرجع الى المستقلات العقلية .. وخاصة قاعدة: التحسين والتقبيح .. ليست لها اهمية فاعلة في مجال استنباط الاحكام التشريعية، اذ لها موارد قليلة في هيكل الفقه الاسلامي من قبيل: حسن العدل، وقبح الظلم . واما المستقلات غير العقلية ... فهي: ترجع في حقيقة الامر الى الدليل الشرعي .. فحينئذ لا يكون دليل العقل دليلاً مستقلاً حيال القرآن، والسنة . أجل .. الدليل العقلي اذا كان قطعياً ومؤدياً الى القطع بالحكم الشرعي يكون حجة، لان القطع الطريقي حجة بنفسه، وغير قابل للجعل نفياً، ولا اثباتاً . وعلى هذا المبنى لا فائدة لتقسيم الدليل الى المستقل .. وغير المستقل . والآن سوف نتحدث عن القسم الاول من الدليل العقلي، لكي تنكشف حقيقة عنصر الافتراق بين الحركتين، ولو على سبيل الاختزال: 1- قاعدة: التحسين .. والتقبيح العقليين: ويقع الحديث حول هذه القاعدة في عدة جهات: -الجهة الاولى- العقل النظري والعملي: ينقسم العقل الى رافدين احدهما: العقل النظري .. وهو: عبارة عن ادراك العناصر الواقعية .. كادراك العقل استحالة اجتماع النقيضين والضدين، وان الكل اعظم من الجزء .وثانيها: العقل العملي .. وهو: عبارة عن ادراك ما ينبغي ان يقع في الخارج، وما لا ينبغي ان يقع في الخارج .. كادراك حسن الفعل ينبغي وقوعه في الخارج، وادراك قبح الفعل لا ينبغي وقوعه في الخارج، لأجل ذلك يسمى بـ ((العقل العملي)) . ثم انه: لا فرق بين العقل النظري، والعقل العملي في مرحلة الادراك، وانما الاختلاف يكون بينهما بلحاظ المتعلق . -الجهة الثانية- في معنى الحسن والقبح: قال الاستاذ الاكبر جدي السيد البغدادي: ((فهنا مواقف: فتارة ترى توجه المدح، او الذم على الفعل الاختياري، واخرى لا ترى ذلك .. وتارة ترى ترتب الجزاء عليه ثواباً، وعقاباً، واستحقاق احدهما، واخرى لا ترى ذلك .. وتارة ترى الفعل ملائماً، او منافراً، واخرى ليس كذلك .. وتارة تراه واجداً للمصلحة والغرض، واخرى لا تراه كذلك .. وتارة تراه موصوفاً بالكمال، او النقص، واخرى لا تراه كذلك . وهذه كلها دالة على مطلوبنا ورجوعها الى معنى واحد .. وليست منافية له . فاتضح لك من هذا خطأ تخلص الاشعري من الحسن والقبح العقليين بذلك، فهذه المواقف على تشقيقها من اوضح الادلة على المختار )(6). -الجهة الثالثة – في نظرية الامامية والمعتزلة والاشاعرة: (( قال الامامية .. ومن تابعهم من المعتزلة: ربّ فعل يدرك العقل حسنه، او قبحه .. بمعنى استقلاله بذلك من دون مراجعة الشرع مستدلين على ذلك: بقيام الضرورة عليه، بل ليس ذلك باشد خفاءً من سائر احكامه .. كامتناع اجتماع النقيضين، وتوقف المعلول على علته، بل ليس ذلك أشد خفاء من ادراك كل منافر وملائم من الاشياء الخارجية على اختلاف انواعها، ومراتبها، ومراتب ادراكها .. خلافاً للاشاعرة، فانه يعزى اليهم منع ادراكه، بل عن بعضهم انكار الحسن والقبح من اصلهما .. بمعنى ان الحسن ما حسنه الشارع، والقبح ما قبحه . وعليه فليست الاحكام تابعة للمصالح والمفاسد، بل للشارع الاقتراح، ولما في ذلك واضح الفساد، التجأ بعضهم الى كفاية المصلحة والمفسدة في النوع، ولكن الشارع تخصيص تكليفه بالشخص .. وهذا واضح الفساد بعد الاعتراف بهما كذلك، فلا وجه لتعيين احدهما، بل لما انكشف فساد ذلك لبعضهم التزم قيامها بنفس الامر والنهي قياساً على التكاليف الامتحانية التي كانت مصلحتها في ابراز نفسها وتوجيهها، وهذا باطل بعد قيام الضرورة على قيامهما في متعلقاتها، ولا سيما الادلة السمعية ))(7) . أقول: ان الحسن والقبح من العناصر التكوينية والواقعية، وان العقل يدرك حسن الافعال وقبحها، ومع قطع النظر عن حكم الشارع الاقدس . فالعقل له القابلية في ادراك ما ينبغي ان يعمل، او لا ينبغي ولو على سبيل الموجبة الجزئية، ووظيفة العقل هو: ادراك الحكم، وليس هو: منشيء الحكم .. ويعبر في بعض المقولات عن هذا الادراك بـ((الحكم العقلي)) اتساعاً ومجازاً . ان الحسن والقبح من الضروريات الاولية، بل الوجدان شاهد بقبح الكذب الضار، وحسن الصدق النافع، ويستحق فاعلهما المدح والثواب، والذم والعقاب .. عند العقلاء كافة على مختلف تجاهاتهم الفكرية والعقائدية . وقد تقول: ان الحسن والقبح ليسا عنصرين واقعيين تكوينيين، بل هما مجعولان ببناء العقلاء، وفقاً لما يدركون من المصالح والمفاسد .. كسائر المجعولات العقلائية، لاتفاق العقلاء عليها على أساس صيانة النظام وبقاء النوع الانساني، ومن أجل ذلك تكون قضية الحسن والقبح من القضايا المشهورة . ونجيب على ذلك: 1- ان الحسن والقبح ليسا امرين مجعولين من العقلاء، وذلك لان العقل بالضرورة يدرك قبح اظلم، ويدرك حسن العدل .. وان لم يكن بناء من العقلاء، وهذا الادراك لا يتوقف على جعل العقلاء . 2- ان الحسن والقبح ليسا تابعين دائماً للمصالح والمفاسد، فالعقل يحكم بقبح ضرب اليتيم بدون مبرر، اذا فرضنا ان المصلحة مترتبة على هذا الضرب، وتكون المصلحة اكثر من هذه المفسدة .. مع ذلك يكون هذا الضرب قبيحاً على الرغم من ان المصلحة اكثر بكثير من المفسدة . قد تقول: انه قد صرح بذلك فريق من المعتزلة .. وفريق من متأخري الامامية: بان الحسن والقبح دائران مدار الوجوه والاعتبارات، فان الكذب تارة يكون قبيحاً، واخرى يكون حسناً، فاذا كان موجباً لاتقاذ مؤمن من القتل يكون حسناً .. والا يكون قبيحاً . ونجيب عن ذلك: بان الكذب من حيث هو .. هو .. قبيح حتى في صورة وجوبه فان الكذب لا يخرج عن كونه قبيحاً حتى في صورة الانقاذ، الا ان ترك الانقاذ اقبح منه .. فحينئذ، يجب ارتكاب اقل القبيحين طرداً للاقبح . واما نظرية الاشاعرة .. فالرأي السائد فيما بينهم هو: ان الافعال لا حسن، ولا قبح في ذاتها، بل ما امر به الشارع .. فهو: حسن، وما نهى عنه .. فهو: قبيح، فالحسن والقبح شرعيان لا محال، ولا حكم للعقل اطلاقاً . وهنالك راح حشد من حركة الاخباريين الى: شجب ادراك العقل للحسن والقبح الواقعيين، ولو على سبيل الموجبة الجزئية . -الجهة الرابعة- في ادلة العدلية ((قيام الضرورة على مذهبنا .. وهي من وجوه: الوجه الاول: بداهة حسن الصدق النافع، وقبح الكذب الضار، وذلك واضح في انه لا يرتبط بالشرع. الوجه الثاني: لو كانا شرعيين لما حكم بهما من ينكر الشرع .. كالبراهمة . الوجه الثالث: قبح العبث ضروري، كما لا يخفى على من تتبع موارده . الوجه الرابع: انهما لو كانا شرعيين لجاز له تعالى مخالفة اوامره ونواهيه .. فيأمر بالزنا، وينهى عن الصلاة . الوجه الخامس: لو خير العاقل الذي لم يسمع بالشرائع، ولا علم شيئاً من احكامها بين الصدق والجزاء عليه .. وبين الكذب والجزاء عليه .. لاختار الصدق على الكذب . الوجه السادس: الضرورة قائمة بالفرق بين مَن أحسن الينا دائماً .. وبين من أساء الينا كذلك . الوجه السابع: لو كانا شرعيين لسقط وجوب المعرفة من اصلها، بداهة توقف الايجاب على معرفة الموجب . الوجه الثامن: (( لو كانا شرعيين لزم توقف بعض الواجبات على ورود الشرع، فلو كان الامر كذلك لزم افحام الانبياء (عليهم) اذ النبي (صلى الله عليه وآله) انما اذا ادعى النبوة، واظهر المعجز اجابه المدعو بانه: يجب علي النظر في معجزتك بعد معرفة انك صادق، فلا انظر حتى اعرف صدقك، ولا اعرف صدقك الا بالنظر، وقبله: لا يجب عليَّ امتثال الامر بالنظر، فينقطع النبي، ولا يبقى له جواب. الوجه التاسع: لو كانا بالشرع لما قبح منه تعالى شيء، وعليه فله اظهار المعجز على يد الكذابين، وتجويز ذلك يسد باب معرفة النبوة، فكل نبي اظهر المعجز امكن تجويز كذبه . الوجه العاشر: حسن الاحسان، وقبح الظلم .. اوضح شاهد، واظهر برهان . الوجه الحادي عشر: لو كانا بالشرع لاحتملنا وجود من يعتقد حسن مدح المسيء، وذم المحسن، ونحوهما .. كما نحن اعتقدنا بخلافه، وكل عاقل ينفي هذا الاحتمال، فجزمنا باستناد ذلك الى العقل دون الشرع(8). ----------------------------------------------------- الهوامش (1) انظر الكتب الآتية: أ- الحق المبين، ص:4 . ب- روضات الجنات في احوال العلماء والسادات، محمد باقر الموسوي، ج:1، ص:35، ط: حجرية 1367 . جـ-الحدائق الناضرة،ج:1، ص:14، 167 ز د -الدرر النجفية من الملتقطات اليوسفية، يوسف البحراني، ص: 167، 256، 258، ط: حجرية 1314 . هـ-التحصيل ... ج:4، الورقة: 1134 . و-منية الممارسين في اجوبة مسائل الشيخ ياسين، ج:1، ص:167 . ز-دموع الوفاء، موسى بهية، ص:55 . د-فاروق الحق، محمد بن فرج، ط: بهامش الحق المبين . (2) المعتبر في شرح المختصر، ابو القاسم نجم الدين بن الحسن الحلي، ص:6، ط: مجمع الذخائر الاسلامية، 1318 . (3) بيد اننا نلاحظ اختلاف تصريحاتهم في ذلك (نقصد المذهب الاخباري ) على نحو يجعلنا نطرح ما تطرق اليه الشيخ جعفر الكبير في مؤلفه: (الحق المبين) اذ كتب في الصفحة العاشرة .. قائلاً: ((اختلفت كلمتهم: فيظهر من بعضهم انكار الاسباب، ومن بعض انكار العقل، ومن بعض انكار التعويل على ادراكه، لكثرة كذبه، فاشبه قولهم بذلك قول العنادية، ومن بعضهم تسليم ادراكه وصوابه وانكار الملازم بينه، وبين الشرع)) (4) الحدائق الناضرة، ج: 1، ص: 40. (5) القوانين، ج:2، ص:2 . (6) التحصيل: ج:2، الورقة: 738 . (7) المصدر السابق،ج: 2، الورقة: 738 . (8) المصدر السابق، ج:2، الورقة 739 .
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |