ثورة تموز و آمال الفقراء المجهضة (بمناسبة الذكرى الخمسين لثورة الرابع عشر من تموز المجيدة)

 

 

سناء صالح /هولندا

 sanaelgerawy@hotmail.com

في صبيحة يوم صيفي والشمس مازالت في خدرها كسلى ترسل خيوطها الذهبية فتتسلل عنوة من خلال الشقوق الى بيوت متآكلة السقوف المصنوعة غالبا من جذوع النخيل, أو عبر فتحات ضيقة هي نوافذ عارية من الزجاج,  لتذكر سكان هذه البيوت بميلاد يوم جديد و تمنحهم شيئا من الإحساس بأنهم أحياء يرزقون. بيوت من الطين والآجر أو الطابوق تتوسط أزقتها الضيقة المياه الآسنة وننحني جدرانها من القدم , يومها استفاق الناس الذين فتك بهم الثالوث اللعين فتركهم منكسرين ,

أفاقوا على صوت جهوري معلنا ساعة الصفر و مبلغا  بقيام الجمهورية العراقية ونهاية عصر كان الإقطاع له القدح المعلى والأجنبي الذي ربط العراق بسلاسل من المعاهدات التي ارتهنت استقلاليته وهيمن على ثروات ومقدرات شعب وأرض تعد من أعرق الحضارات في العالم   ,تسرب الخبر كالبرق وخرجت سيول البشر  المقهورة , خرجت من قمقمها ,ماجت بها الأرض وناءت بحملها  وهي تعلن ولاءها (هذا اليوم الجنة نريده ).

يومها كان عرسا شعبيا استقبله الناس بحماس كيف لا!! وهي الثورة التي تركت تأثيراتها على العراق والمنطقة والعالم .

تتالت منجزات الثورة التي أرادت أن تعيد للعراقي كرامته وأن تتيح له فرصة اللحاق بالأمم الأخرى فتحت أبواب المدارس والجامعات لأبناء العمال والفلاحين, وسنت القوانين والقرارات الجريئة التي كانت جميعها تصب في خدمة الشعب العراقي كقانون الإصلاح الزراعي وقانون الأحوال الشخصية والخروج من حلف بغداد والكتلة الإسترلينية  وخرجت  المنظمات الجماهيرية والنقابات لتعمل في النور. كل هذه الخطوات الجريئة التي أقضت مضاجع الرجعية المحلية والعربية والدولية التي شعرت بالخطر المحدق بها فتكاتفت وتآزرت لتخنق الثورة الوليدة التي كانت تنبئ عن خير قادم لشعب ووطن جذوره ضاربة في عمق التاريخ.

 لو رجعنا بالسنوات الخمسين الى الوراء لنراجع الأحداث  ومكامن الضعف التي أودت بالثورة فمن جملة الأسباب.افتقار القوى المتحالفة التي دعمت حركة الضباط الأحرار وساهمت في التخطيط للثورة وحشد التأييد لها  لبرنامج واضح يحدد الأولويات والمشتركات بينها إذ أنها لم تستعد لهذه المرحلة الهامة  الفاصلة بين نظامين  فسرعان ماغاصت في صراعات جانبية حادة ودموية , وتغلبت لغة العنف بديلا عن الحوار والبحث عن التناقضات عوضا عن المشتركات وضعفت الجبهة الداخلية فقد أصبح حلفاء الأمس أعداء ودخلوا نفق المهاترات والسباق في تبني شعارات رنانة جوفاء لاتناسب المرحلة وزج الناس في هذا الصراع فكانوا يرددون تلك الشعارات المطروحة كببغاوات دون أن يفقهوا منها شيئا  ومن دون أن يعلموا أسباب الخلاف .لقد كان لهذه الثغرة في الجبهة الداخلية أثرها في إضعاف قدرة هذه القوى في التأثير على الناس وتثقيفهم ورفع وعيهم بالقوانين التقدمية والقرارات التي اتخذتها حكومة الثورة. كل هذه الخطوات الشجاعة لو فهمها الشارع ووعاها لدافع عنها وحماها وتصدى لأعدائها. ويعتبر فشل القوى السياسية التي كان لها تأثير على الجماهير في السيطرة والتحكم بالشارع الغاضب وتوجيهه الوجهة السليمة إحدى السلبيات التي أثرت على الثورة وأدت الى وقوف بعض القوى والناس الغير منحازة ضدها لالعداء للمبادي التي جاءت بها الثورة ء وإنما  مجريات الأحداث إذ ترك الحبل على الغارب وفي فورة الفرح العارم ارتكبت أخطاء (من وجهة نظري الخاصة ) مازال أعداء ثورة تموز يستخدمونها كذريعة  ووصمت بالهمجية , كالتمثيل بجثث رموز النظام الملكي السابق وسحلها (نوري السعيد وابنه وعبد الإله ) وقتل الملك وتدمير القصر الملكي  (الرحاب) الذي يمكن أن يكون معلما سياحيا يدر أموالا كما هي حال قصور الملك فاروق في مصر .

لقد فسحت هذه الأوضاع المجال للقوى الرجعية وبمساندة ودعم خارجي أجنبي وعربي بأن توجه ضربتها لهذه الثورة إذ استثمرت الرموز الدينية ووظفت بعض علماء الدين والمرجعيات في حربها ضد القوانين التي كانت تريد وضع العراق وشعبه على طريق التقدم فاستثمروا مواقعهم المعنوية بإصدار الفتاوى واستغلال مكانتهم للتأثير على المواطن البسيط, فوجهوا نيرانهم ضد الحزب الشيوعي العراقي الذي كان يتصدر الشارع ولفقوا له تهما رخيصة بالخروج على الشريعة  والتعرض للقرآن والدين وخرق الأعراف (التابو )وسموه ( الفوضوي). وفي الوقت الذي توحدت كل القوى المناهضة للثورة من مؤيدي الحكم الملكي والقوميين والبعثيين  الذين لحقوا بركب معاداة ثورة الرابع عشر من تموز لاحقا بدعوى وقوفها ضد الوحدة العربية تساندهم قوى خارجية فاستمروا في محاولاتهم للقضاء على حكومة الثورة باذلين شتى الوسائل , وفي المقابل لم تكن جبهة المدافعين عن الثورة متماسكة قوية   ولم تكن مستعدة للمواجهة الجدية بمستوى العداء الذي أظهرته القوى المعادية للثورة فعلى سبيل المثال حينما اكتشف ضلوع عبد الناصر في التخطيط للمؤامرة (حركة الشواف ) للأطاحة بعبد الكريم قاسم ما  الذي تم القيام به لوقف هذا التدخل !!سوى اللجوء الى المنولوجات التي كان يظهر فيها فاضل رشيد وهو يضع أنفا طويلا مستعارا لإثارة السخرية أو التظاهرات التي كانت تحمل صور لوجه عبد الناصر  مركبة على جسد راقصة وغيرها من ردود انفعالية ليس لها تأثير سوى تبديد غضب وتنفيس . أما المعسكر الأشتراكي وفي طليعته الإتحاد السوفيتي فلم تقف وقفة فعلية في مساندة للثورة ورد العدوان عنها رغم أنها آنذاك كانت  تعلن في شعاراتها عن دعمها للدول الفتية التي حصلت على استقلالها.وهكذا مهد الثامن من شباط الأسود يوم وئد لأحلام البسطاء في حياة حرة كريمة

لقد بقيت قيم هذه الثورة رغم مار افقها من سلبيات الى يومنا هذا  مفخرة يعتز بها كل من شهدها ومازالت القوانين التي وضعتها مبعث قلق وخوف تؤرق أعدائها حتى اليوم فيبذلون جهدهم في طمس معالمها ولو بعد أكثر من أربعة عقود فهاهو أحدهم أراد أن تكون بصمته في العهد الجديد (مابعد التاسع من نيسان)أن يقتل آخر وأهم منجز وهو قانون الأحوال الشخصية فحاول إلغاءه مستخدما الذرائع نفسها وكأنما يريد رد اعتبار أسلافه ممن تلطخت أياديهم بدم ثورة الرابع عشر من تموز المباركة فلم يفلح .

 هامش: في زيارتي لباريس قبل أيام كانت الاستعدادات للاحتفال بذكرى الرابع عشر من تموز (الثورة الفرنسية )على أوجها فساحة الكونكورد والأماكن المجاورة لها تهيئ لهذا اليوم المشهود لحظتها سألت نفسي هنا تحتفل الحكومة الفرنسية أيا كانت يمينية , يسارية أم وسط  بهذا اليوم وحضرني سؤال لماذا  تتجاهل حكومتنا هذا اليوم ؟.يوم الثورة العراقية ... 

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com