ثورة الرابع عشر من تموز.. العبر والدروس والعراق الجديد
د. تيسير عبدالجبار الآلوسي باحث أكاديمي في الشؤون
السياسية\ ناشط في حقوق الإنسان tayseer54@hotmail.com
في اليوبيل الذهبي للذكرى الخمسين لثورة الشعب العراقي الوطنية الديموقراطية يستعيد العراقي ذاكرة صبيحة بزغت فيها شمس الرابع عشر من تموز 1958 لتعلن عن انطلاقة مسيرة التحولات الجدية في حياة البلاد والعباد. ويستعيد أيضا توكيد أنّ تلك الثورة كانت قد عبرت عن نضج الحركة الجماهيرية وتعاظم تأثيرها من جهة وعن موضوعية الخيار الشعبي للحركة الوطنية في حسم أمر الصراع مع النظام السياسي الملكي الذي بقيت إجراءاته بين تلك الضعيفة الهزيلة بما لم يَرقَ لتلبية مطالب العراقيين وحاجاتهم وبين الرجعية المرتبطة بمصالح وأجندات أجنبية تعارضت والمصلحة الوطنية بكل ما تضمنته إجراءات النظام تلك من عداء للشعب ومطامحه وصولا في عديد من المراحل إلى درجة ممارسة العنف تجاه الشعب وتجاه قياداته الوطنية النزيهة كما في حال الإعدامات التي طاولت قيادات حركة اليسار الديموقراطي أو توجيه البنادق والمدافع الرشاشة بوجه المنتفضين...
لقد كان لحال القصور الفادح في تلبية حاجات الناس وعمليات استغلالهم الفاحش ومن ذلك ما طاول المعدمين والكادحين في أثناء الحرب الكونية الثانية وبُعيدها فضلا عن قمع إرادة الحركة الاجتماعية السياسية المتنورة بخاصة منها اليسارية الديموقراطية والإفراط في قمعها الدموي العنيف إلى جانب عملية ربط البلاد بالأجنبي وبأحلاف مسَّت السيادة والمصالح الوطنية العليا، لقد كان لكل ذلك أثره البالغ في تنامي الرفض الشعبي وحركات الاحتجاج كردّ فعل اعتمد وعيا ثوريا وقرارا مصيريا مهما بضرورة حسم الأمور لصالح الأغلبية المسحوقة من العمال والفلاحين والطبقة الوسطى ومن كوادر علمية وتكنوقراط ومثقفين ومبدعين...
وهكذا كانت ثورة الرابع عشر من تموز ردا قويا وصارما على أساس من حقيقة أنّ لكل فعل ردّ فعل مساوِ ِ أي أنَّ الشعب وقواه من أحزاب سياسية كانوا قد وجدوا أن العمل السياسي البرلماني قد استنفد إمكاناته عندما جرى تزوير إرادتهم وقمع أي احتجاج على فرض القوى المرغوب بها بالحديد والنار كما في مثال المدفعي وقمع الاحتجاجات الشعبية.. وعليه فالثورة تظل استجابة منطقية لواقع العراق باتجاه تحقيق تطلعات أبنائه وأهدافهم في التحرر واستكمال السيادة وبناء مؤسسات الدولة على أساس وطني ديموقراطي حقيقي.. ولم يكن خيار القوى الديموقراطية للحسم بهذه الطريقة إلا كخيار أخير وقسري تفرضه طبيعة الحدث وجوهره...
وبالفعل فإنَّ مَن يقرأ منجزات ثورة الرابع عشر من تموز يوليو بموضوعية وحيادية سيجدها تغييرا جديا ونوعيا في مسيرة العراق ومرحلة جديدة لم تقف عند حسم الضباط الأحرار للموقف في رأس هرم السلطة بل ظهرت الثورة وبدت بفعاليات اقتصادية واجتماعية وسياسية عريضة وعميقة في الحياة العامة وكافحت كل محاولات جرها للعنف الدموي حتى وصل الأمر في محاولة تفادي العنف لاستخدام شعار (عفا الله عمّا سلف) حتى تمَّ الإيقاع بقيادتها وبمنجزاتها ووقف التحولات الثورية بمجزرة معدّة مطبوخة ساهمت فيها جهات داخلية متضررة من سلطة الشعب والثورة بالتنسيق وبدعم فعلي مباشر من قوى أجنبية باتت معروفة تماما.
ولمن يقرأ سلطة سياسية ومفردات أنشطتها ومنجزاتها لا يقرأها من عدد من الضحايا أو بعض خسائر بطريقة تصيّد الأخطاء والثغرات وحتى هذه الأمور يعترف بها الثوريون وقوى اليسار الديموقراطي وهم يرفضونها قطعا ويعملون على تأمين عدم الوقوع بها بشتى ما يمكنهم من وسائل وكثيرا ما وقعوا ضحية هذه السياسة الإنسانية في جوهرها بسبب من طبيعة العنف والغدر في القوى المعادية لمطامح الشعب.. وبخلاف هذه الثغرات فإنَّ الثورة تُقاس بالقوانين العامة لمجريات مسيرتها وما حققته مثلما يمكن دوما التوكيد عليه في منجزات ثورة الرابع عشر من تموز من مثل:
1. إنجاز الإصلاح الزراعي وضرب النظام الاقطاعي المتخلف والنهوض بالريف وتحديث الزراعة وتحسين حياة الفلاحين سواء لسن القوانين الحارسة لمصالحهم أم بتوزيع الأرض على من يزرعها أم بتقديم الخدمات وتكوين الجمعيات والاتحادات القطاعية المعنية..
2. الشروع بثورة صناعية حديثة مع استجابة لمطالب الشغيلة ومصالحهم وتطلعاتهم وسن قوانين العمل وتعديلها بما يتلاءم والمتغيرات واطلاق الحريات النقابية وتعزيز أدوار الشغيلة في الحياة العامة...
3. انتزاع النسبة العظمى من الأرض العراقية من أيدي الشركات الأجنبية وتشريع قانون نفطي هيأ لتأسيس شركة النفط الوطنية ولتعديل موازين الأمور في هذا الشريان الحيوي..
4. تعزيز فرص العمل السياسي والمهني الجماهيري وتشريع قانون الأحوال الشخصية الذي فتح المجال واسعا لتعزيز دور نصف المجتمع المعطل (أي المرأة) في الحياة العامة وإنصافها وتحقيق الانقلاب الاجتماعي المناسب لانعتاقها من القيود التي أنَّت بوطأة نيرها واستعبادها...
4. الشروع بالعمل من أجل التحضير للانتقال للشرعية الدستورية والعمل المؤسساتي باتجاه مجلسِ ِ وطني منتخب إلى جانب هيئات القضاء العادلة والجهاز التنفيذي المنضبط بقوانين تخدم مصلحة الشعب والوطن.. على الرغم من التلكؤ الذي صادف الأمر نتيجة الخشية والقلق من مظاهر الاحتراب التي طفت بسبب اندفاعات بعض القوى السياسية وتنفيذ أخرى لأجندات أجنبية...
5. الخروج من كتلة الأسترليني وتحرير العملة والاقتصاد العراقيين وإنعاشه (معروف شعار عاش الزعيم الزيَّد العانة فلس أي زيادة قيمة العملة وقدرتها الشرائية) فضلا عن التحسن في الخدمات وأمور السكن والمعاشات والتعليم والصحة...
6. الخروج من حلف بغداد ورفض سياسة الأحلاف المخلة بالسيادة وبمصالح البلاد...
إنَّ هذه الدروس بكل ما حملته من إيجابيات ومن ثغرات ونواقص وعثرات سواء منها الذاتية أم الموضوعية، تعيد للذاكرة أهمية أن يعمل العراقيون بعد هذي العقود الخمسة على استعادة مسيرة ثورتهم الوطنية الديموقراطية ونهجها التحرري وعملهم على توكيد التوجهات الرئيسة لها في تحرير الاقتصاد ومفرداته من أية ارتباطات مخلة، كما في توكيد جوهر مفردات قانون النفط واعتماد الطاقات والكوادر الوطنية والخطط الاستراتيجية والتنفيذية التي تتناسب وتحقيق أفضل الخدمات للمواطن العراقي. والامتناع عن إدخال العراق بارتباطات أمنية عسكرية تتعارض مع مصالحه حاضرا ومستقبلا..
وسيكون لمسيرة استكمال بناء مؤسسات الدولة والاستجابة لتطلعات الجماهير وحاجاتها وإطلاق الحريات الديموقراطية والعمل من أجل إنجاز المصالحة الوطنية بلا تلكؤ وجعلها أولوية تحدد من يدخل في طريق بناء العراق الجديد ومن يقف في صفوف أعداء تقدمه ومصالح أبنائه.. [سيكون لذلك كله] أبلغ الأثر في إعلان الانتصار لجهود أبناء الشعب العراقي اليوم لتحقيق المصالحة مع الذات ومع المحيطين الإقليمي والدولي بما يعيد الاستقرار والأمن ويكفل شروط مسيرة بناء سلمية وطيدة الأركان...
إنَّ خمس سنوات لثورة تموز كانت وافية للانتقال لمرحلة بناء المؤسسات ولكنهم ذبحوها بمجازر دموية في شباط الأسود الملطخ بأحمر دماء أبناء الشعب بخاصة من اليسار الديموقراطي وحينها لم تكن فعاليات القمع الدموي ومجازر دفن الأحياء قد تمت بيد الفاشست ومن وراءهم من خلف الحدود لوحدهم بل شاركت في ذاك الهولوكوست الدموي السياسي الأول في التاريخ العراقي قوى الفتاوى المبرقعة بنقاب التضليل لا الدين ولا شرائع السماء والأرض وبدأت من يومها بعد خمس سنوات الثورة خمسين سنة من عمر المذابح التي حلت بشعبنا حتى جاءت السنوات الخمس الجديدة لعراق آخر كما يقول واقعه إنَّ الصراع فيه على أشده كونه الصراع الأشد والأعلى ذروة لأنه يمكن أن يكون للمرة الأخيرة وإلى الأبد عندما يهزم الطغيان ومخلفاته وعناصره الشاذة المرضية الممثلة بأرضية فكرية وتنظيمية من الطائفية والتكفيرية التي تهيئ للفاشستية الدموية التي لا كابح لها إلا إزالتها نهائيا...
وبالضد من هذه الغمة السوداء المبرقعة مرة أخرى بزيف الادعاءات الدينية الكاذبة والمضللة فإنَّ القوى الشعبية وفي مقدمها المثقفون والكتّاب والأكاديميون والتكنوقراط العراقيون من المؤمنين بمسيرة وطنية ديموقراطية ليشددون على رفض مشروعات التشرذم والتشظي الطائفية العرقية ورفض قيم المحاصصة المرضية ومحاولات مصادرة التحولات وتجييرها بعيدا عن مصالح أبناء الشعب؛ ويعملون من أجل عراق ديموقراطي فديرالي موحد يمثل بفلسفته هوية إنسانية الجوهر يفتخر بها جميع العراقيين أخوةَ َ متساوين متحدين من جميع المكونات والأطياف القومية والدينية والمذهبية والسياسية...
وهكذا فإنَّ عراقا جديدا لا يمكنه أن يقوم من غير تحقيق مبادئ بشرت بها ثورة الرابع عشر من تموز وافتتحت مسيرتها لولا جرائم الفتك بقياداتها الوطنية وطبعا ذلكم لن يتحقق إلا بالانتصار لفلسفة التنوير على أحابيل الظلام وادعاءات قواها وإلا بالانتصار لتفعيل دور العلوم والمعارف والفنون على أدوار الجهل والتخلف والأباطيل بإعلاء شأن الثقافة وقيم الإبداع الفكري الفلسفي والجمالي الفني والأدبي ووضع أدوات أجهزة التعليم والإعلام بأيدي المتنورين من أبناء شعبنا... مدركين اليوم ما للثقافة والمعارف من دور خطير الشأن في مسيرة حاضر الإنسانية ووطننا وشعبنا وفي بناء المستقبل الأفضل، متطلعين وعاملين من أجل سيادة ثقافة وطنية إنسانية مشرقة متنورة حيث ميدان العقل ميدانها لا ميدان الضلال والظلامية وفكر التحجر ومجاهل القرون الوسطى وعتمة التخلف وزمن العته والتردي... ولأن التعليم والإعلام وغيرهما من أدوات هي بيد من يسيطر على رأس المال وينهبه ليل نهار وبيد من يسطو على السلاح في زمن ضعف الدولة وانحلالها فإنَّ تنظيميا شعبيا متينا وصحيا صحيحا يمكنه أن يخوض معركة انتصار نور العلم والمنطق العقلي على الجهل والتخلف؛ ولكن بقاء التنظيم كلاسيا في كل أمراضه وثغراته يبقيه هو أيضا أداة أخرى بيد قوى العتمة والظلام وتحت عباءتها وفي ظل مخططاتها ومفردات مسيرتها... فهل نعي الدرس ونخرج من شرنقة الطيبة حدّ السذاجة في تنظيم جهودنا الوطنية؟
وبعدُّ، قد ينتهي أي خطاب سياسي أو فكري بالهتاف لشعار أو مبدأ أو هدف وغاية ولكن في مثل هذي القراءة [وإنْ كانت العجلى] سيكون مفيدا القول: إنَّ العمل [وليس الاكتفاء بالهتاف] لدروس [ومبادئ] ثورة الرابع عشر من تموز هو ما يمكنه أن يحقق هدف الوطن الحر والشعب السعيد.. وطبعا لا يتم ذلك إلا في ظل دولة مدنية علمانية معطاء تلتزم أسمى ما أسفرت عنه نجاحات عصر النهضة وما أسست له مبادئ تراث الإنسانية الوليدة هنا بين جوانح وادي الرافدين السومرية فيما غزوة الظلمة الهمجية القادمة من منابع أو مهالك القفر الفكري إلى زوال بقدر تمسك أبناء شعبنا بتاريخهم المجيد في حمل راية اليسار والبرنامج الوطني الديموقراطي له وهو برنامج العلم والثقافة وعطائهما في مسيرة البناء حيث نؤكد جميعا وسويا أننا لا نسمح بتكرار لدغنا واستباحتنا ونؤكد تمسكنا بمبادئ ثورة تموز وتجاريبها الغنية لنبني العراق الجديد بحق بعيدا عن تضليل من بدأ الجريمة يوم ساهم في اغتيال الثورة بنفس خطابه المدعي قدسية التديّن ومن ثم حربه التكفيرية سواء التي ترفع راية سوداء أم خضراء والعبرة لمن اعتبر...
العودة الى الصفحة الرئيسية
في بنت الرافدينفي الويب