|
قال أحد الفلاسفة قديما: "سيءٌ هوالذي لا يؤمن بالله، لكن الأسوأ منه هوالذي يؤمن بالله ولا يؤمن بحكمته، والأسوأ من كليهما هوالذي يؤمن بالله وبحكمته ثم يظن أنه يستطيع أن يخدع الله بذبيحة وقربان". إن هذه الكلمات ذات مغزى ومعنى كبيرين، فالدين هوسبب تفرقة ومشاكل بينما الإيــــمان سبب وئام وسلام، الدين يهتم بالقشور مثل العبادات والشعائر والطقوس التي لا يكون لها أي تأثير على المتعبد وذلك الذي يوغل في الطقوس إما تهربا من الواقع المؤلم والظالم وظنا منه بأنه يمحي ذنوبه وجرائمه التي يقترفها كل يوم، فالدين هنا هومجرد "مساحة" ليس له أي هدف ومبرر سوى التبرير للمجرم والمخادع والمستبد، فالشفيع في الآخرة سيضمن ويتكفل بإدخال العابد ـ الذي يخدر ضميره بهذه الطقوس ـ إلى الجنات لينعم بين الحور العين والولدان المخلدين بما لا يخطر على قلب أحد. لكن الدين العقلي الذي ينظر إلى الدين كأداة حقيقية لإصلاح الفرد وتوجيه الإيمان توجيها فلسفيا يجعل من المواطن شخصا يقظا غيورا على تطبيق القانون ونظام الحقوق البشرية، حرية الفرد تحديدا الذي يجب أن يكون من ضمن المقدسات خصوصا في مجتمعاتنا الشرقية التي تعتبر الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان تلي الطحين والدهن وسائر قائمة الأرزاق من حيث الأهمية، لأن الدين في شرقنا المسلم أصبح مجرد أداة تبريرية للفساد والطبقية المجحفة والعنف وكبت الحريات من قبل الحاكم ووسيلة للارتزاق من قبل رجال الدين الذين هم في الغالب ـ وليس كلهم طبعا ـ يشترون بآيات الله ثمنا قليلا. حينما كان الشيعة والمعتزلة يتناقشون مع الحنابلة ومدرسة الحكومة ـ عابدي النص والسلف ـ حول عذاب القبر، وكان الحنابلة يصرون على أن عذاب القبر هوأمرٌ حقيقي مادي يشعر به الجسد البشري، كان الشيعة والمعتزلة يبحثون هذا الموضوع من زاوية عقلانية ترى أن العقل له مهمة في استكشاف النص الديني فرأوا أن العذاب والنعيم هما مسألة روحية لأن الجسد يفنى، كالشخص الذي أكلته أسماك البحر وصار رمادا بفعل النار، وبقدر ما لهذه المواضيع من قلة فائدة فعلية على أرض الواقع، إلا أن المنهج الذي يعتبر أن العقل حاكم على الشرع هوأقدر على تجاوز الخرافة، فالدين كونه حقيقة غيبية مهدد دوما بأن يختلط مع "الخرافة" و"الأسطورة" وبدون العقل الفلسفي لا يمكن التمييز بينهما، وهذا الخلط بين مهام الدين والعقل ودورهما في إنضاج العقل الفردي هوالذي يبقى على المشكلات العقلية ـ الفلسفية ـ في منظومتنا الاجتماعية تخلق نفسها باستمرار وتكرار، يقول الفيلسوف هيجل: "الخرافة الدينية هي جنون الاعتقاد بأن الإنسان يستطيع بأعمال الجوارح في العبادة أن يفعل شيئا تبريرا لنفسه أمام الله. والوهم الديني هوأن يخدع الإنسان نفسه بالوصول إلى هذه النتيجة ويحاول أن يدّعي تجارة مع الله. وأنه لمن الجنون أن يريد إنسان إرضاء الله بأفعال يستطيع كل فرد القيام بها دون أن يكون بالضرورة رجلا ـ إنسانا ـ خيرا. إن الخداع الديني الوهمي هومن وجهة نظر الأخلاق موت للعقل الذي بدونه لا يمكن أن يوجد دين" ـ في الفكر الغربي المعاصر: حسن حنفي ص 142. لطالما طعن وعاظ الخلفاء والسلاطين ـ والملوك والرؤساء في عصرنا ـ في صحة أحكام العقل، كما فعل الغزالي وابن تيمية اللذين تسببا في حلول كارثة فكرية حقيقية في العالم الإسلامي، وكان العراق وهومركز العالم الإسلامي من أكبر المتضررين في هذا الشأن، فقد شكك الغزالي في كتابه "تهافت الفلاسفة" ـ ومعناه سُخف الفلاسفة وتناقضهم ـ بقيمة العقل من خلال تناقض الأحاسيس والمشاعر التي تحس بها الذات البشرية تجاه الأشياء، ولكن هذا التناقض الظاهري والسطحي هومن ضمن سمات العقل الذي ليس مطلوبا منه الوصول إلى المعرفة المطلقة، التي هي من اختصاص الإله وحده، إلا أن ذلك الطرف المتعلق بصلة الدين بالماديات وتأثير الدين على الواقع المنطقي، هذا الجانب من الدين يجب أن يكون خاضعا من دون قيد وشرط للعقل واجتهاداته حتى لوكانت مخطئة. والمؤسف أن المذهب الشيعي أُصيب بنوع من داء الحنابلة حيث يقوم بعض رجال الدين بتقديس العقل ـ ظاهريا بحيث لا يتناقضون مع المأثور الديني ـ لكنهم يخرجون العقل من الباب الخلفي بمجرد أن يتناقض العقل ويصطدم بظاهر حديث ونص مقدس، مثاله أن هناك أحاديث ذات مضمون غريب تقول: "من قال في القرآن برأيهِ فهومخطئ وإن أصاب"!! وحقيقة الأمر أن مثل هذه النصوص تناقض أساسيات الدين أولا ـ كون العقل له دور في فهم النص الديني سواء كان مخطئا ومصيبا ولأن الخطأ والصواب ليس قطعة قماش ومادة يمكننا أن نقيسها بالأمتار وما إلى ذلك هوحقيقة بديهية لا ينكرها إلا من يعاني خللا في الإدراك ـ ولأن هذا النص يستصحب التسلسل في أن يكون لكل نص من النصوص نص آخر يشرحه إلى ما لا نهاية، وهذا يتناقض مع أساسيات كل الأديان الموجودة. إن الضابط الحقيقي لكل مشاكل الدين وتوجيهه نحومجاله الحيوي في الفعل والإنتاج والعمل الخيري إنما ينطلق من إتاحة فهم النص لكل أحد وكل شخص يمكنه ومهما كانت معلوماته أنه يحاول فهم دينه من خلال الحرية المتاحة له ولا يصبح هذا الأمر ممنوعا عليه إلا حينما يحاول تحويل النص إلى مشروع وسبب ينتج عنه العنف، لكن لا يمكن اتهام أي طرف ومذهب ودين بأنه متطرف إلا حينما يشرع فعلا في ذلك، كأن يفرض أمرا ونمطا من العيش على أناس معينين بالإكراه ورغما عن إرادتهم، والمؤسف أن عصر المأمون العباسي كان أكثر عقلانية من مجتمعاتنا الإسلامية الحالية فكان مدّعوا النبوة يناقشون الفقهاء والمأمون شخصيا دون خوف من أن تقطع رؤوسهم، لكننا في عصرنا الحاضر نعاني من أزمة حقيقية في إتاحة المجال أمام كل فرد ليفهم النص المقدس وقديما قيل: رُبّ حامل فقه إلى من هوأفقه منه..".
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |