14 تمّوز 1958: اسئلة التاريخ المثيرة
 

 

 د. سّيار الجميل

www.sayyaaljamil.com

مقدمة

بعد مضي نصف قرن كامل بالضبط على فجر يوم 14 تموز / يوليو 1958، ينبغي ان اسجل بعض التساؤلات التاريخية، لا السياسية، ولا الايديولوجية، سيّما وان العراقيين قد انقسموا على انفسهم في تقييم هذا الحدث التاريخي الكبير الذي لم يزل بحاجة الى ممارسة المنهج التاريخي في دراسته ومعرفة ابعاده، وفك تناقضاته، وتتبع آثاره .. فكل ما كتب عنه حتى يومنا هذا بالرغم من ركامه الكبير لا يستوي وحالات الغموض التي تلف جوانب اساسية منه .. دعوني اثير بعض التساؤلات التي ازعم انها مهمة جدا في ترسيخ المعرفة التاريخية وتكوين وعي عراقي جديد بعيدا عن المزيدات والاطناب والتكرار والعواطف والالتباسات واعادة الشعارات .. وبعيدا عن الانطلاق من زوايا محددة منها ما هو مبارك للحدث ومصفق له ومتعاطف معه، ومنها ما هو مضاد ومعارض تماما لما حدث ومسّفه ليوم 14 تموز 1958 .. ويندر ان أجد حتى الان اي موقف عقلاني متوازن يعيد قراءة الحدث على ضوء العقل والتفكير النسبي لا المطلق، ويعيد الرؤية من جديد للعراق وتاريخ العراق على ضوء متغيرات العصر .

ان هذا " الحدث " التاريخي الفاصل بين زمنين، وبين ظاهرتين، وبين تاريخين ينتظر الاجيال القادمة التي ستكون لها رؤى مختلفة جدا في تقييمها له . ان التساؤلات التي سأطرحها الان، هي حصيلة تفكير طويل ورؤية ثاقبة ومقارنة لبعض الوثائق التي اكتشفت مؤخرا .. ناهيكم عن كونها حصيلة نقاشات وحوارات في قاعات تدريس وسيمنارات اكاديمية .. ولا يمكننا البقاء من دون اثارتها بعد مضي نصف قرن على اقوى حدث تاريخي ليس في تاريخ العراق المعاصر وحده، بل في حياة الشرق الاوسط كله، اذ انه هز العالم اجمع ليس بسبب مفاجأته العالم وقت ذاك، بل بسبب ما رافقه من وقائع تراجيدية كان لها وقعا كبيرا في مشاعر كل الشعوب مقارنة بغيره من الاحداث .. فضلا عن كونه حدث رافقه تغيير جذري ليس في سياسة الدولة ومؤسساتها وانقلابها من ملكية الى جمهورية، ومن تشريعية الى ثورية، بل ما حدث في المجتمع من تغييرات جذرية هائلة .. وهذا ينقلنا الى طبيعة التغيير الذي اصاب الثقافة العراقية في الصميم .. وسواء كان " التغيير " بمجمله نحو الاحسن او نحو الاسوأ، فان محاولة الاجابة على التساؤلات التاريخية، ستمنح كل العراقيين الفرصة كي يتبينوا من خلال المقارنة بين زمنين كيف هي طبيعة التغيير ! وستمنحهم الفرصة ايضا كي يجيبوا من خلال المقارنة ايضا بين العراق وغيره من دول المنطقة في القرن العشرين !

دعونا نتوقف قليلا عند هذه التساؤلات، ونتأمل قليلا او كثيرا .. ونحاول البحث عن اجوبة تحدد موقفنا التاريخي من 14 تموز العراقية :

1/ ثورة .. انقلاب

يسأل المؤرخ : لماذا كل هذا الاختلاف حول المصطلح ؟ هل هي " ثورة " ام " انقلاب " ؟ والمعنى واحد، بل ان " الانقلاب " هو الاقوى تاريخيا، وهو المستخدم في عدة لغات وادبيات شرقية بنفس معنى الثورة كالفارسية والافغانية والاوردية وغيرها ؟ وما الضير اذا وصف يوم 14 تموز بالانقلاب، فالثورة حالة مستمرة ربما تدوم اياما وشهورا وسنين، اما الانقلاب، فهو يبدأ وينتهي في لحظة تاريخية معينة . صحيح ان 14 تموز العراقية قد ترجمت مشاعر ملايين الناس من العراقيين بالوقوف معه او ضده باعتباره من اهم احداث العراق قي القرن العشرين، ولكنه يقع ضمن سلسلة وسيرورة احداث الانقلابات العسكرية التي مرت بها دول المنطقة والعالم، وان تنفيذه قد جرى عسكريا على ايدي حركة الضباط الاحرار، وقد اعقب ذلك ثورة في العلاقات والقيم والتربية والمفاهيم .. استخدمتها كل القوى السياسية الراديكالية والقومية والدينية العراقية المؤثرة .

2/ الوثائق البريطانية .. الامريكية

ويسأل المؤرخ : لماذا لم يكشف حتى اليوم عن مجموعة وثائق بريطانية مهمة في دائرة التسجيلات التابعة لوزارة الخارجية البريطانية (RRO).. بالرغم من مرور اكثر من خمسين سنة على ما حدث لما قبل فجر 14 تموز ؟ ونسأل ايضا : اين هي ـ أيضا ـ مراسلات السفارة الامريكية ببغداد عشية ذلك " الحدث " ؟ ولماذا لم تظهر للعلن حتى يومنا المكاتبات السرية حول اوضاع العراق بين بريطانيا والولايات المتحدة الامريكية ؟ ان حاجة المؤرخين ( وبالذات العراقيين منهم ) لتلك " الوثائق " ضرورة أساسية لتوضيح الصورة كاملة عن هذا " الحدث "، وخصوصا الدور الدولي .

3/ اسرار الطبخة مكشوفة

وأسأل : اذا كان كّل من الملك حسين وشاه ايران ورئيس الحكومة التركية عدنان مندريس قد علموا بحدوث " انفجار ثوري قريب في العراق، او محاولة انقلابية في العراق . فهل من المعقول ان كلا من بريطانيا والولايات المتحدة الامريكية لم تعرفا ما الذي كان يجري ؟ وما سر الطبخة ؟ وما كان يصاغ بين بغداد والقاهرة ؟ وهل هي لا تدري بتحركات الضباط الاحرار كلهم ؟ وهل هي لا تدري بما ستكون عليه اوضاع بغداد بمرور لوائين عسكريين عبرها فجر الرابع عشر من تموز ؟ وهل كانت مخابرات دول اخرى لا تعرف بحدوث اي حركة انقلابية ؟

4/ انتظار 14 تموز

ويسأل المؤرخ نفسه قبل ان يسأل الاخرين : ما سر تأخير او تأجيل سفر القادة العراقيين الثلاثة الملك فيصل الثاني والامير عبد الاله ونوري السعيد الى استانبول من يوم 8 تموز الى يوم 9 تموز .. ومن ثمّ الى يوم 14 تموز ؟ لماذا كانت مقترحات تأجيل السفر تأتي من واشنطن عبر شاه ايران حتى يمكنه الالتقاء بهم في استانبول ؟

5/ الاتحاد الهاشمي

لماذا يكتب الملك حسين بن طلال ملك الاردن الراحل في مذكراته انه اكتفى بتنبيه رفيق عارف رئيس اركان الجيس العراقي الى وجود مؤامرة لقلب نظام الحكم ؟ وانه متأكد من حدوثها واكتفى بجواب الاخير عليه، الم يكن باستطاعته ان يطير الى ابن عمّه فيصل الثاني كي يعلمه بما سمع ؟ او ان يتّصل به اتصالا شخصيا وهو نائبه على رأس دولة الاتحاد الهاشمي ؟

6/ ملئ الفراغات

واذا كانت سياسة ملئ الفراغات ضمن سياسة واستراتيجية الحرب الباردة وقت ذاك قد جعلت بريطانيا تنسحب شيئا فشيئا من ميادين الشرق الاوسط لصالح الولايات المتحدة الامريكية عملا بمشروع روزفلت لما بعد الحرب الثانية .. فلماذا جرى التغيير بتلك الصورة الدموية في العراق، ولم يكن شبيها بالتغيير الذي حدث في مصر عام 1952 وبتلك الصورة البيضاء ؟ وكلّ من الحدثين يرتبط احدهما بالثاني اعتمادا على خطط المشروع المذكور .

7/ بين القومي والاقليمي

ويسأل المؤرخ أيضا : لماذا خفيت عن اعين الناس والاجيال الاسباب الحقيقية لحدوث ذلك التغيير الجذري المفاجئ ؟ وهنا اقصد دور كل من الولايات المتحدة وبريطانيا، وكانتا من اعضاء حلف بغداد الذي كان قد بدأ ميثاقا اقليميا بين العراق وتركيا عام 1955، ثم دخلته ايران والباكستان وبريطانيا .. ليتكلل عام 1957 بدخول الولايات المتحدة الامريكية عضوا فيه ؟ ما دور الولايات المتحدة في تغيير المشهد الاقليمي لصالح الثورة القومية العربية ؟ ما تأثير الدور القومي باسقاط ما سمي بالاتحاد الهاشمي بين العراق والاردن لصالح الجمهورية العربية المتحدة بين مصر وسوريا بزعامة عبد الناصر ؟ ولماذا قضي على دولة الاتحاد قبل القضاء على دولة الوحدة ؟ وما موقف اسرائيل من المشهد التاريخي كله ؟

8/ اسبقيات في الداخل

ويسأل المؤرخ : هل كانت الاسباب داخلية بحتة بحيث سبقت احداث 14 تموز / يوليو 1958، أية هياجات جماهيرية ؟ او انتفاضة شعبية ؟ او انقسامات في الجيش العراقي ؟ او حدثت اية ازمة قوية بين البلاط والسلطة التنفيذية ؟ هل كان العراق يمر بازمة دولية كالتي عاشتها ايران ايام مصدّق ؟ هل كان هناك اية اسباب مباشرة اشعلت الاوضاع كالتي عاشتها ثورات كبرى كالثورة الفرنسية او الثورة البلشفية او الثورة الجزائرية او الثورة الكوبية او الثورة الايرانية .. الخ

9/ ضربة مفاجئة

ربما كانت هناك اتفاقات بين كتلة المنصورية التي يقودها الزعيم الركن عبد الكريم قاسم وجبهة الاتحاد التي ينضوي فيها عدد من الساسة العراقيين المعارضين الكبار، ولكن الحركة كانت ضربة مفاجئة لكل المجتمع العراقي الذي استيقظ فجر الرابع عشر من تموز ليسمع بالبيان رقم واحد ونشيد الله اكبر واهزوجة : يا ويل عدو الدار من ثورة الاحرار .. وصراخ العقيد الركن عبد السلام عارف في دار الاذاعة في دعوته الشعب للهياج .. وكل العالم يدرك ما يفعله الهياج في غياب القانون !

10/ أبعدوا الموضوع عن الذات

ويسأل المؤرخ : اليس من العقل ان نبعد الذات عن هذا الموضوع الخطير ؟ لماذا يقترن دوما بحث هذا " الموضوع " بالذات والشخوص وافتراق الفرقاء على من هو الاعظم ؟ ومن هو الاشرف ؟ ومن هو الاوحد ؟ ومن هو الاشجع ؟ ومن هو البطل ؟ ومن هو الوطني ؟ ومن هو الخائن ؟ ومن هو العميل ؟ ومن هو المسؤول عن التصفيات ؟ .. الخ من دون اي رؤية موضوعية للاحداث وسيرورتها .. ؟؟

11/ لعبة التوازنات

الظروف الدولية والاقليمية وفق مجريات ذلك الوقت دوليا ضمن لعبة التوازنات في قمة الحرب الباردة، او اقليميا ضمن تطلع العراق لمساحة اوسع وما كان له علاقة بشأن الكويت بالذات، او عربيا، ضمن حلبة الصراع والنفوذ القومي بين قوتين جغرافيتين واساسيتين، تاريخيتين وحضاريتين، تتمثلان بكل من مصر والعراق .. ووجود قوة سياسية عربية نافذة ومستقرة وقوية استطاعت ان ترسخ علاقاتها بالولايات المتحدة الامريكية منذ زمن طويل على يد مؤسسها وزعيمها الاول ممثلة بالسعودية .. ما الذي ارادته الولايات المتحدة الامريكية ؟ وما الذي حققته ؟

12/ العراق بين زمنين

وأخيرا، يسأل المؤرخ، وليس آخرا : هل من محاولات مقارنة بين زمنين تفصل بينهما 14 تموز / يوليو 1958 ؟ هل من محاولات لرؤية بعيدة المدى عن العراق في القرن العشرين بثورة او حركة او انقلاب 14 تموز / يوليو 1958 او من دونها ؟ ما الذي يخرج به اي عراقي، ومن اي جيل، وهو يفكر تفكير العقل بعيدا عن اي عاطفة حزبية، او عائلية، او ذاتية، او سياسية، او ايديولوجية كي يرسم صورة العراق في زمنين مختلفين ؟ وانني اعتقد ان الاجيال الجديدة ستنظر مستقبلا لتاريخ العراق في القرن العشرين نظرة مختلفة تماما عن كل النظرات التي الفناها في القرن العشرين، وخصوصا عندما سيرحل جيل الافتراق، ويرحل كل الفرقاء .. عند ذاك، سيقول التاريخ كلمته على ايدي مؤرخين مختصين لا كتّاب عاديين، واذا كان الفرنسيون قد قالوا كلمتهم في 14 تموز / يوليو 1889 بعد مرور قرابة مائة سنة على احداثها المريرة التي استمرت سنوات طوال، فان العراقيين سيقولون كلمتهم في 14 تموز / يوليو 1958 بعد مرور مائة سنة عليه، مع الفارق التاريخي الهائل بين الحدثين الكبيرين في كل من فرنسا والعراق !

 العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com