زهير المخ/ كاتب وأكاديمي عراقي

zmuch@hotmail.com

ترسو الهوية، إذاً، على مقولة الصراع، فالهوية، كتعبير مكثّف عن تشكيلة أو وحدة اجتماعية، تنطوي، بذاتها ولذاتها، على فوارق نوعية تبعاً لخطوط استقطاب اجتماعية متباينة. في مقدم ما يجدر التشديد عليه هو الحيز الجغرافي الذي يلعب، في الآن نفسه، دوراً حاسماً في بلورة الكثير من مفردات الهوية وتركيباتها، ويقوم بدور الحاضن الطبيعي للذات الجماعية، فهو في هذه الحال يكتسب معنى وجودياً يتغلغل خلسة إلى الوعي الجماعي لإنتاج إيديولوجيا تصعيد الخوف من الآخر يسمح للهوية بأن تحقق ذاتيتها المجتمعية. إنها بالأحرى تراكم حثيث تقوم به جماعة ما دون أن تعيه تماماً في أول المطاف، ثم تعيه وتتمسك به، فيصبح عندذاك عنصراً مكوناً من عناصر الهوية الجماعية.

غير أن الذات المجتمعية للهوية لا تقتصر فقط على الأساس المادي أو الحيّز المكاني لها، بل تتعداها إلى معطيات هذه الأخيرة الديمغرافية باعتبارها عاملاً حاسماً ربما في دينامية الصراع الذي يكتنف الذات الجماعية. وبالطبع، لا يمكن إغفال تجليات عناصر الهوية الاجتماعية الأخرى بمعناها الحصري سواء بتكتلاتها ذات الأساس الطائفي أو القومي أو الاقتصادي – الاجتماعي أو السياسي التي تلعب، شئنا أم أبينا، دور الكاشف الكيميائي الذي يسمح بتحديد العناصر الطبيعية عند مزجه بها.

وإذا كان ثمة مجال لتمييز اللحظة السياسية العراقية الراهنة فهي، بين أمور عديدة أخرى، مرحلة تصادم الهويات، ليس فكرياً فحسب، بل هو في آن معاً سبب ونتيجة لحالات متزايدة من الدم المراق على أرصفة الطرق وفي المقابر المقفرة، مما يشير إلى أن مسألة الهوية ما زالت، على الرغم مما يتردد يومياً، ذات طابع تصادمي، وأن المحاولات الراهنة لحلها باتجاه أو بآخر تؤدي عملياً إلى تعقيدها وتزايد حدّة الخلاف بشأنها.

من هنا ذلك التشويش في تحديد مفهوم الدولة، لأن ما هو عميق ومكثف الحضور، هو في الوقت عينه ما هو مسكوت عنه. لا بد إذاً من طرح إطار لهذا الموضوع عبر الإشارة إلى ضرورة التمييز بين فكرتي الانتماء والولاء وتحديدهما، حيث يطرح موضوع الولاء الطائفي أو العشائري أو القومي بشمولية وغموض وإطلاقية وكأنه حقيقة ثابتة ومستمرة وغير متغيرة زمانا ومكانا، ويجري تحليل الواقع انطلاقا من هذه المسلمة وتستخلص النتائج في المعالجة انطلاقا منها. ولفهم خصوصية مستويات الانتماء المتعددة المذكورة يجب أن نفرق معه بين مفهومي الانتماء والولاء الذي ينقلنا إلى ما يتجاوز الانتماءات الاجتماعية كافة ويدخلها في سياق ارتباط وطني وتابعية وحماية. ففي زمن التأسيس الأول للدولة الحديثة في عشرينات القرن الماضي، دولة المواطنة والحقوق، كان المواطن العراقي يخضع للقانون، مهما علا شأنه الاجتماعي أو منزلته الدينية. فالانتماء إلى الطائفة أو القومية أو العشيرة كان نوعاً من المشاركة الوجدانية على مستوى الحياة الواقعية. أما الانتماء إلى الدولة فيمكن أن نعده كتمثل افتراضي وإرادي بمعنى الخضوع القائم على مفهوم عقلاني لتنظيم العلاقات بين البشر والتي كان يحددها عقد اجتماعي ينظم علاقات الأفراد ويضبطها عبر القوانين النافذة.

إن الولاء الجوهري والأهم للمواطن تجاه بلده هو أساسا، الولاء السياسي. وفي مجتمع تعددي، كالمجتمع العراقي، يمكن لهذا الولاء السياسي أن يتعايش مع أنواع أخرى من الولاءات، ولنفرقها عن الولاء للدولة سوف نطلق عليها كلمة انتماء. إذاً يمكن أن ينتمي المواطن إلى العائلة أو المسجد أو الكنيسة أو المجموعات الخاصة أو التنظيمات السياسية والاجتماعية وحتى الانتماء لمؤسسات سياسية أو تنظيمات حزبية أو منظمات مدنية أو أي تعبيرات بديلة أخرى، وقد تقود كل واحدة من هذه الانتماءات إلى النزاع مع الولاء للدولة الجامعة، ولكن ذلك لن يحصل بالضرورة عندما تعطى الأولوية للولاء للدولة حصرياً.

لكن تعدد مصادر الانتماء العراقية يشكل ميزة أساسية وايجابية. لماذا؟ لأنه يبنى على الاعتدال والتسوية والتواصل. فالبغدادي السني الذي يقطن في حي السيدية، على سبيل المثال، وهو متزوج من شيعية أو كردي متزوج من عربية في كركوك ينحوان بفعل هذه الانتماءات المتداخلة إلى التوفيق بينها، وتاليا إلى الاعتدال إذا تعارضت هذه الانتماءات. وعلى العكس من ذلك هي حالة شخص كربلائي أو موصلي ينتمي إلى طائفة مذهبية ويقطن في حي جماعته ويدرس في مدرسة جماعته ويتزوج من ابنة جماعته ويعمل في مؤسسة تابعة لجماعته وهو عضو في حزب أكثرية ساحقة من أبناء طائفة واحدة... قد يكون هذا الشخص اقل انفتاحا واعتدالا في الموقف أو في أقصى الحالات منغلقا ومتعصباً كما هو الحال لدى معظم أطياف التركيبة السياسية الحالية.

وإذا كان الانتماء إلى حضن حام وجالب للأمن من الحاجات الأساسية لدى الفرد كالحاجة إلى الطعام أو التناسل، فأن أريك فروم عالج هذه المسألة من زاوية أكثر التصاقاً بعلم النفس فقال:"إن التماهي مع الطبيعة، مع العشيرة، مع الدين يعطي الفرد شعوراً بالأمان، فهو ينتمي إلى كلّ منظّم ويشعر بجذوره فيه ويعرف أن له فيه مكاناً أكيداً. قد يشعر بالجوع أو الحرمان، لكن لن يبتلى بأسوأ الأوجاع وهي العزلة الكلية والشك".

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com