|
قضية العلم .. مجموعة بحوث في التفسير الفلسفي للعلم وفق نظرية التجرد
د. وليد سعيد البياتي/ لندن العلم: " بالكسر وسكون اللام مصدر علم يعلم بمعنى اليقين الذي لايدخله الاحتمال، وكثيرا ما يطلق على الاعتقاد الراجح سواء كان يقينا او ضنا ويأتي بمعنى المعرفة، كما جاء بمعناه لاشتراكهما ولكون كل منهما مسبوقا بالجهل لان العلم وإن حصل عن كسب (بالاكتساب) فذلك الكسب مسبوق بالجهل " 1. قد لا يفسر هذا الرأي حقيقة العلم الكلي، لكنه يقترب الى حد معقول من مفهوم العلم الاكتسابي كما اشار اليه التعريف. فالبحث في العلم يتجاوز الاني الى الكلي فلا قيمة للمفهوم العلمي خارج معايير التوصيف الشمولية انطلاقا من كون ان الاصل العلمي يقع خارج دائرة الاني. لكن في نفس الوقت يمكن ان يصبح الاني تاسيسا لمفهوم علمي يبقى محصورا في دائرة الاني وإن سعى إلى ان يبحث في الكلي (المطلق). التفسير الفلسفي للعلم: غير ان تفسير العلم وفق المفاهيم الفلسفية سيقدم لنا فهما لايخضع للترتيب اللغوي بقدر خضوعة للترتيب الادراكي مع ان الاخير يفسر في بعض الاحيان الاول من منطلقات كلية، ومن هنا فان التفسير الفلسفي يجب ان يلاحظ حقيقة العلم كجوهر مستقل بذاته كما يلاحظ اعتمادا على مصادره. رأيي في العلم: في بحثي الفلسفي يكون العلم: "نور قائم بذاته متجرد عن مقولات الاخرين، وإنما حقيقته هي مبدأ إنكشاف الاشياء وظهورها من حيز العدم الى الوجود بأن يكون هو نفسه مظهر او مصداقا لحملها، أي بمعنى ان تكون حقيقته دالة على انكشاف الاشياء من العدم ". من هنا يصبح للعلم حقيقة ترمي إلى تبيان ماهية الاشياء وتفسر عمليات التحول والخروج من اللاشيئية (العدم) إلى الحقيقة الوجودية، أي يصبح للاشياء كيان وجودي قائم في حيز الوجود لكن هذا الكيان لايقوم بذاته وانما هناك منطلقات أساسية لقيامه. العلم والقرآن: وردت مادة (ع. ل. م) في القرآن أكثر من ثلاثمائة مرة هذا غير المفردات المرادفة لها. ومن اسماء الله تعالى (العليم)، والعليم لغة هو : (كثير العلم) وتاتي في محل الاطلاق أي انه (كثير العلم مطلقا ) فقد جاء في قوله تعالى: " ربنا تقبل منا إنك انت السميع العليم" 2. وقال ايضا: " لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم " 3 . وايضا في قوله عزوجل " كذلك يبين لكم الايات والله عليم حكيم " 4. وليس آخرا قوله تعالى: " وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم " 5. وإني أقول: " فالعليم، عليم بذاته، وعليم بخلقه، وعلمه متجرد عن المقولات لايخضع لأهواء المخلوقات، وهو ليس حاجة ذاتية فالخالق تعالى شانه غير محتاج لشيء، وانما اوجد العلم لطفا منه ورحمة، وليعلم المخلوق انه هو من يحتاج إلى العلم الالهي ". وقد قال الحق سبحانه في مراتب العلمماء: " يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين اوتوا العلم درجات " 6. وقال ايضا: " قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لايعلمون " 7. ملازمة العلم والحكمة: يكشف القرآن المجيد عن ملازمة بين العلم والحكمة في قوله: " وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تعلم " 8 بل قد تكون الحكمة أحد مصاديق العلم أو ربما احد مصادره، وقد تقدم على العلم كما يرى بعض المفسرين كما في قوله: " ولقد آتينا لقمان الحكمة أن أشكر لله ومن يشكر فانما يشكر لنفسه ومن كفر فان الله غني حميد " 9. فالحكمة او ما يسميها الفلاسفة (الفلسفة) وهي: " علم البحث في ماهية الاشياء "، ويمكن أن أسميها: " عملية تفعيل المقدمات للحصول على النتائج ". وفي قرائتنا للآية الكريمة فالحكمة علم من العلوم الالهية وهو منزل من الحق سبحانه، والحكمة الالهية علم إلهامي يختص الله به مجموعة من الناس ليكونوا مثالا للبشرية ومعيارا للاداء الانساني، فلقمان عليه السلام لم يكن نبيا مرسلا بل كان عبدا لله الهمه الله الحكمة وجعله مثالا يقتدى، فكان لقمان ينظر إلى العلاقات الوجودية والترابطات الحياتية من معيار الحكمة الالهية. ومما يميز العالم عن غيره هو ان غير العلماء يبحثون في النتائج وينشغلون بها دون الاعتبار بالعلل والاسباب المؤدية اليها، بينما العلماء ينشغلون في تبيان العلل والبحث فيها وصولا إلى النتائج، ولهذا فان لقمان في حكمته ووصاياه لولده كان يبين العلة وهو عندما يأمر إبنه باقامة الصلاة والنهي عن المنكر يردف ذلك بأنه " من عزم الامور ". وعندمايأمره أن لايصعر خده للناس ولايمشي في الارض مرحا تكون العلة " إن الله لايحب كل مختال فخور ". وعندما يأمره في القصد في مشيه والخفض من صوته لانه " إن أنكر الاصوات لصوت الحمير " وهو لم يصف صوت الحمار بالعالي أو القوي لكنه يصفه بالمنكر أي القبيح. فالعلة هنا في القبح اي انه غير مقبول للسمع. أبواب العلم: عن أهل البيت عليهم السلام العلم علمان: أولا: العلم الضروري: مما يحصل في العالم باحداث الله تعالى من تخليقه المخلوقات وأيجاده الموجودات من غير فكر وكسب من جهته. وهو يسمى أيضا بالعلم الحضوري كمافي بعض مقالات الفلاسفة. فالله عزوجل ينشيء الاشياء من العدم دون الحاجة إلى مسببات إولية باعتبار ان الخالق غير المخلوق، فالخالق غني عن المخلوق، وهو لايخضع للكيفيات ولا للآنيات فكما قال امير المؤمنين علي عليه السلام في تبيان قدم الخالق حيث قال: " كان حيث لا أين ولا كيف " وهو الموجد حيث لا وجود، والمكون حيث لا تكوين، تعالى أن يكون له مثيل أو كفؤ، سبحانه يقول للشيء " كن فيكون " بدون ابتداء أو علة. هو الله بارئ الخلق: " وهو على كل شيء قدير". غير ان الله عزوجل أبى إلا ان يجعل وجود الموجودات مسببا وأن خفيت علته عن مدارك الانسان غير المعصوم. ثانيا: العلم الاكتسابي: وهو قسمان: 1- عقلي: مايحصل بالتامل والنظر بالعقل المجرد، كالعلم بحدوث العالم وثبوت الصانع (الخالق) وبوحدانيته وقدمه. وهو ما يمكن ان نسميه بالفطرة الاولى وهي اساس إعتراف العقل بالله تعالى شانه وهي أول الهدايات كما جاء في بحوثنا السابقة. 2- سمعي: ما لايحصل بواسطة العقل بل بوجود واسطة غير العقل كالعلم بالحلال والحرام وسائر ما شرع الله من الاحكام التي جائت بها الرسالات السماوية فهو علم لايستحصل عليه بالتفكر والامعان العقلي بل بواسطة الانبياء والرسل والاوصياء. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله: " تعلموا العلم، فان تعلمه لله خشية، وحسنة، وطلبه عبادة، ومذاكرته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه لمن لايعلمه صدقة، وبذله لاهله قربة، لانه معالم الحلال والحرام ومنار سبيل أهل الجنة وهو الانيس من الوحشة، والصاحب في الغربة، والمحدث في الخلوة، والدليل إلى السراء والضراء، ، والسلاح على الاعداء، يرفع الله به أقواما فيجعلهم في الخير قادة، وأئمة تقتفى آثارهم، ويقتدى بفعالهم، ترغب الملائكة في خلتهم، وبأجنجتها تمسحهم، ويستغفر لهم كل رطب ويابس، وحيتان البحار " 10. ومن هنا قال صلوات الله عليه وآله: " لا كنز أنفع من العلم " 11. حقيقة العلم الفلسفية: يضع الفلاسفة والحكماء في مدرسة أهل البيت عليهم السلام تفسيرات لحقيقة العلم وماهيته اعتمادا على ما ورد في الاخبار عن الائمة الاطهار عليهم السلام، فيتم تقسيم العلم الى علمين: أولا: العلم الحضوري: هو: " ان تكون الصورة العلمية فيه عين لصورته الخارجية، فيكون المعلوم فيه بعينه وذاته حاضرا عند المدرك لا بصورته ومثاله، كما في علم الانسان بذاته وصفاته والذهنية القائمة بالنفس فالعلم بها أنما بحضور ذواتها عند المدرك لابحصول صورتها عند النفس في إدراك الصورة الذهنية ولذا لاتحتاج إلى صورة أخرى منتزعة من الاولى ". ثانيا: العلم الحصولي: هو: " الذي لايكون إلا بحصول صورة المعلوم فتكون الصورة العلمية فيه غير الصورة الخارجية ويقال له الانطباعي أيضا كما هو في إدراك الاشياء الخارجية عند المدرك، أي الاشياء التي لاتكون عينه ولا قائمة به " . وقد قال أمير المؤمنين عليه السلام: " العلم علمان مطبوع ومسموع، ولاينفع المسموع إذا لم يكن المطبوع " 12. ومن هنا فان حقيقة العلم الفلسفية يمكن ان تتجلى في المقولات التالية: 1- أن العلم أمر وجودي لاعدمي لأن الضرورة تحكم بان وقت الانكشاف (الخروج من العدم إلى الشيئية) يحصل شيء، لا أنه يزول منه لكنه لم يقم عليه برهان قاطع. (باعتبار العدمية نفسها شيء قائم بذاته وإن لم تتحقق ماهيته). 2- أنه شامل للحضوري والحصولي، والعلم الواجب والممكن، والكليات والجزئيات، في الالات أوفي نفس النفس. 3- شامل في الجزئيات، احدهما أن مدركه هو النفس وثانيهما أن مدركه هو الحواس. 4- أنه شامل لمذهبي إرتسام صور الجزئيات والحواس وكلمة (عند) لعند ولفي والحضور والحصول كالمترادفين. في ضوء المعطيات السابقة فان حقيقة العلم تبقى وجودية غير عدمية، وهي عملية انكشاف الوجودات من العدم، وبالتالي فان الانسان يبقى في جهالة وظلمة من الشيء حتى يعلمه، فان علمه اصبح لديه انكشافا في ماهية الشيء، فخرج في هذه الحالة من الظلمة إلى النور، والعلم كوجود مادي ينتقل ويخزن، ويحفظ ويطور، وفيه الصالح والطالح، والضار والنافع، فالسحر علم لكنه علم ضار، فحقيقة العلم تكمن في إيجابيته وفي ما يحققة من خير للانسانية. .................... 1- دائرة المعارف الشيعية العامة، 13/ 93 . 2- البقرة/127. 3- الانعام/115. 4- النور/58. 5- الانعام/101. 6- المجادلة/11. 7- الزمر/9 8- النساء/113. 9- لقمان/12. 10-البحار/ 7 /277. 11-المصدر السابق/ 1 /156. 12- المصدر السابق/ 1 /218.
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |