|
لا توقعوا الإتفاقية الأمنية قبل قراءة هذا المقال!
د. حامد العطية قص القصص بغرض الاتعاظ حكمة ربانية قرآنية، أحسن القصص في كتاب الله العزيز، وتغني القصة الواقعية عن ألف عظة، بافتراض أن السامع واع ومستعد للاتعاظ من أفعال ومصائر غيره، أما المقفلة عقولهم على القليل المتحجر من الفكر والتدبر فلا أمل من استفادتهم من قصص التاريخ الماضي والأحداث المعاصرة، وإن قال أحد لم تعظ إناساً اختاروا الضلالة على الهدى أقول معذرة إلى الله، لئلا يشملني بغضبه معهم. الوطن كيان واسع، فيه ما تحب وتكره، والوطنية مفهوم مطلق، لأنه أقرب للعاطفة منه إلى العقل، ولعل أقوى الروابط بالوطن هم أعزتنا، من الأهل والأصحاب، وراوية هذه القصة واحد من هؤلاء الأحبة، هو خالي، رحمه الله، سيد علوي، تيتم في الصغر، عاش ومات مستوراً، استولى اقطاعيو الشامية من أقاربي على ميراثه الزراعي، فاعتاش من الفلاحة ومن ثم النقل النهري والطحن، كان كريماً حليماً، وترك في نفسي أعظم الأثر، لم يكن له اهتمام بالسياسة ولكنه بالتأكيد كان رافضاً للطغيان، بمختلف أنواعه، المحلي والأجنبي. تذكرت روايته قبل أيام لدى قراءتي تقريراً صحفياً عن عراقيين لاجئين في أمريكا، عملوا في وظائف مترجمين مع القوات الأمريكية المحتلة، وبعد استغناء الأمريكيين عن خدماتهم خشوا من نقمة العراقيين، فلاذوا بحمى أمريكا، كافأتهم الحكومة الأمريكية بالسماح لهم بالإقامة في أمريكا والتجنس بجنسيتها، يدرك هؤلاء اليوم بأنهم أخطأوا مرتين، الأولى في عملهم لدى قوات الإحتلال والثانية في افتراضهم بأن أمريكا جنة الميعاد الأرضية، وتحدث بعضهم للصحافة عن خيبة أملهم وصدمتهم لدى اكتشافهم بأن وعود أمريكا سراب بقيعة، واشتكوا من قلة الدخل وضيق العيش ومرارة الغربة في "جنة" أمريكا. لكل قصة بداية تمهد لأحداثها، وتبدأ القصة مع حلول القرن العشرين، عندما تحركت أطماع الدول الأوروبية الإستعمارية بالمشرق العربي، وطفقت كل واحدة منها في التهيئة لاستخلاف دولة العثمانيين "المريضة" في المنطقة، ونشطت أجهزة الاستخبارات البريطانية بشكل خاص، فأرسلت كبار جواسيسها لاستطلاع أوضاعها والاتصال بزعمائها وبالطبع توظيف عملاء لها، ومن أبرز هؤلاء الجواسيس المس بيل وفلبي وتشرشل. مع بداية الحرب العالمية الأولى استعدت بريطانيا لاحتلال العراق، والصفة المشتركة –ولعلها ليست الوحيدة- بين الحكومة البريطانية والحاكم الأموي معاوية بن أبي سفيان العمل بالقاعدة الماكيافيلية: بالبرطيل تربح المعركة حتى قبل نشوبها، لذا اهتمت الحكومة البريطانية بالاتصال بقادة العشائر العراقية، لكسب صداقتهم وتعاونهم مع البريطانيين، وبسرية بالطبع لأن العراق ما زال تحت السلطة العثمانية، لذا قرروا الاستعانة بعراقي لأداء المهمة نيابة عنهم، وبعد بحث متآني ودقيق وقع اختيارهم على تاجر متجول، يمتهن التجارة من على ظهر بغلته، يجوب أرجاء العراق من جباله الشمالية حتى أهواره الجنوبية، يبيع بضاعته من القماش وغيرها مما خف حمله واعتدل ثمنه على القبائل العربية والكردية، ونتيجه رحلاته المتواصلة اكتسب معرفة موسوعية برؤساء وأغوات القبائل العراقية ووجهاء المدن والقرى، زياراته مترقبة، وبضاعته مزجاة، وجلساته ممتعة، وجعبته عامرة بالأخبار الطريفة والقصص المسلية. قدم البريطانيون للتاجر المتجول عرضاً مغرياً، وعدوه بالجاه والمال، إن هو نفذ المهمة الموكلة إليه، وتغلبت أنانية التاجر وجشعه على إخلاصه لدينه وقومه، فارتضى لنفسه الضعيفة العمالة لدى البريطانيين، شرحوا له المطلوب، وزودوه بالأموال، ليرات ذهبية بالطبع، وباشر التاجر العميل بتنفيذ مهمته، جال على المدن والقرى والقبائل العراقية، اتصل بالقادة والوجهاء، ناقلاً لهم عروض الصداقة من الحكومة البريطانية، وسلم المتجاوبين منهم براطيل البريطانيين، وما أن استكمل مهمته حتى كانت القوات البريطانية قد وطأت الأرض العراقية، وبعد شهور أكملت احتلالها للعراق. في الفصل الأخير من الرواية حضر التاجر العميل إلى مقر القيادة البريطانية، وهنالك إلتقى بالجاسوس البريطاني الذي اتفق معه على أداء المهمة، كان العميل فرحاً ومبتهجاً باقتراب حصوله على المكافأة المجزية التي وعده المسئول الاستخباراتي البريطاني بها، كانت المقابلة مقتضبة، فما أن رأه الضابط البريطاني حتى استدعى أحد معاونيه، ووجه إليه أمراً باللغة الإنكليزية، التي لا يفهمها التاجر العميل، ولكنه افترض بأن المعاون سيسلمه المكافأة، اقتاده المعاون إلى ساحة داخل المعسكر، وهنالك سحب مسدسه وأطلق النار على رأس التاجر العميل فأرداه قتيلاً، تلك كانت مكافأة العراقي العميل لبريطانيا، واليوم نقرأ عن معاناة المترجمين العراقيين الذين عملوا مع القوات الأمريكية فهل نسمع غداً عن "مكافآت" مماثلة لأنصار المشروع الأمريكي الصهيوني الأعرابي في العراق والمروجين للإتفاقات والبروتوكولات المفرطة بسيادة واستقلال بلادنا أم أنهم سيتعظون؟
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |