|
الديمقراطية .. (15)
هلال آل فخرالدين (15) الفلاسفة ونظام الحكم: لقد تبنى الفلاسفة نظام حكم قائم فلسفة النظام من منظور مثالي على اساس (المدينة الفاضلة ) التي يحكمها الفلاسفة ويعاونهم العلماء وقوام نظامها العدل والتعاون بين افرادها يجللهم الامن والسلام ولوئام خالية من العنف والاستبداد وهذا المشروع اليوناني طوره الفلاسفة المسلمون واضافوا عليه ليتوائم مع النظرية الاسلامية وقد كتب فيه الفيلسوف الفارابي في مدينته الفاضلة كما تناول الفلاسفة المسلمين نقد النظام الاستبدادي التسلطي اكثر من غيرهم من العلماء والفقهاء ولعل هذا راجع الى عدم تقوتهم على موائد الخلفاء والامراء او لاستقلاليتهم عنهم وقد افرد فلاسفة العصر العباسي كتابا يفلسف نظرية الحكم وهو ياخذ من الفكر اليوناني ويطعمها بالفكر الاسلامي فخرج نتاجا جديدا لاهو يوناني محض ولا هو اسلامي محض كما في (رسائل اخوان الصفا) ونحن سنقتصر في هذا البحث على فكر فيلسوف المعي وهو ابن رشد وذلك لانه عاين اثار فترة من الاستبداد وظلامية التطرف لحكم (المرابطين) وثانيا معايشته لنظام حكم (الموحديين) وثالثا لعمله في المباشر في المجال السياسي لدولة الموحدين ورابعا لكونه فقيها ايضا اي انه نبغ في المنقول والمعقول وخامسا لنقده الشديد للتطرف والاستبداد وسادسا مالحقة من الاذى نتيجة للاعيب سياسة الحكام وصبره وصموده وسابعا لان له الفضل في الحفاظ على فلسفة الاغريق بالشروح والتفصيل واخراجها بحلة قشيبة وثامنا لان نظرياته وافكاره وفلسفته اصبحت قطب الرحى الذي قامت عليها فلسفة الغرب في التنوير والتصدي للتخلف ولاستبداد والتطور المعرفي وتاسعا سببا لتخلف المسلمين لمطاردته وحرق اثاره وعاشرا لكونه عاش في بيئة منفتحة هي الاندلس وقد تمازجة فيها روحية الشرق مع مادية الغرب ...على الرغم من ان مسيرة الحياة الثقافية قبل ابن رشد بنحو قرن من الزمان ومع حكم المرابطين قد صبغت المجتمع الاندلسي بصبغة الجمود والتخلف إذ اندثرت العواصم العلمية والثقافية وصمت الشعراء والادباء واهمل المرابطون الثقافة والعلم ورفضوا العلوم اليونانية وخاصة الفلسفة وعلم الفلك فانطفأ شعاع الحضارة ونور المعرفة في مدن الاندلس ..كماهو حال التنظيمات المتطرفة والمذاهب المتشددة المتزمة في عصرنا الحاضر. وعلى الرغم من ان الناظر الى الحياة السياسية او الاجتماعية او الفكرية في تلك الحقبة من الزمان لم يكن يتوقع بصيص أمل أو شعاع نور إلا أنه كان يلوح من حين لاخر بريق بشير إنقاذ بثير في النفوس الامل والتفاؤل بفجر جديد يعود على الامة الاسلامية مجدها وعظمتها ولم يكن ظهور دولة الموحدين سوى ذلك الشعاع الذي اضاء سماء الاندلس واستمر مايقارب من قرن وربع قرن من الزمان إذ انتعشت في ظلها الحياة الاقتصادية والاجتماعية وهدأت الثقافة الاسلامية وسيطرة العقلية العلمية المتأثرة بفكر ابن تومرت وابن باجة وابن طفيل على السطوة الدينية والفقهية للمتزمتين من الفقهاء مما ادى الى السماح باستيعاب المفاهيم الفلسفية والتي كان لها اثرها في تغيير الخطوط العريضة لتلك السطوة الدينية فنجد عبد المؤمن الكومي يحاول إصلاح التعليم وتأسيسه على العقل فيسند هذه المهمة عام 1152م الى ابن رشد الفيلسوف الشاب ولم يسندها الى فقيه من الفقهاء. حرية الفكر: تحت رعاية أبي يعقوب يوسف بن عبد المؤمن وبتأكيد منه ينعم ابن رشد (520- 595 هـ=1126-1198م) في بلاطه بالحرية الفكرية والامن السياسي وينطلق بعقلية فاحصة نقدية ينهل من معين الفلسفة الارسطية ويقرب عباراتها المختلطة المشوشة بعد تصحيحها فيبداء بازالة ما ختلط بالفلسفة الارسطية من اضطراب واختلاط نجم عن المترجمين والشراح ثم يشرع بنفسية المطمئن المملوء بالامل بعد ان وكل اليه الخليفة مهمة تصحيح مسار الفكر والثقافة فيالمجتمع الاندلسي في وضع قواعد ترسيم الشكل الاساسي للمفكر العصري على عهده بروحه الحرة وقدراته التفسيرية فيعيد بذلك الاعتبار لمعايير الاستقلال الفكري والاخلاقي للفيلسوف ضد التدخلات الخارجية سياسية اكانت ام دينية مستهدفا وضع اسس قيام (حكومة الحكماء). كما راى ان اصلاح العقيدة وتخليصها من تخليط المفكرين والاشاعرة هو اهم مراحل الاصلاح كان هدف ابن رشد ينحصر في تأسيس مستقبل معرفي تلتقي فيه الفلسفة والسياسة والعقيدة بدأ تحقيق هذا المشروع بوضع مختصرات لكتب ارسطو في فترة سادها اليأس والاضطراب والتشأم في المجتمع الاسلامي ثم تلاها بالجوامع (جوامع كتب ارسطو في الطبيعة وما بعد الطبيعة )وهي تلخيص القول البرهاني من القول الجدلي في فترة ساد فيها الاحباط والصراع السياسي بين الامارات الاسلامية من جهة وبين الامارات والفرنجة في الاندلس من جهة اخرى .ثم بدأ ابن رشد إعلان أولى مراحل التصحيح بحدود المسموح مثل تلخيص الخطابة لارسطو ثم تلخيص الاخلاق وفي هذه الفترة كان هم ابن رشد تحقيق حياة سياسية صحيحة تسود فيها القوانيين وضع كتاب (الكليات) في الطب وكتاب (بداية المجتهد ونهاية المقتصد) كان هدفه وضع دساتير وقوانين للقول الطبي والاستنباط الفقهي وبالخصوص فقد كان كتابه في الفقه كتاب اصول لاكتاب فروع يقول في مقدمته(فإن كتابنا هذا إنما قصدنا فيه أن نجعله كالدستور والقانون لمن أحب ان يستوفي أجزاء الصناعة على هذا التقسيم والترتيب)وكثير ما نبه ابن رشد في هذا الكتاب الى ان غرض منه أصول العقائد والاحكام (وليس قصدنا تفصيل المذهب ولاتخريجه في هذه المسائل وإنما هو الاصول الضابطة للشريعة لا إحصاء الفروع ) كان هدفه لتلك المرحلة الانتقال من مستوى المعارف المستتة والمتعمدة على بادىء الرأي إلى مستوى المعرفة العلمية المنظمة بجملة من المبادىء والاصول والمعارف. الاخلاق والسياسة علم واحد : قسم ارسطو العلم الى قسمين 1- العلم النظري 2- العلم المدني وهو محل بحثنا ويضم العلوم التي من شأنها أن يعملها الانسان ويعلمها وان هدفها هو العمل مثل علم الاخلاق وعلم السياسة واهتم ابن رشد في سياسته من الاهتمام بالعمل وهذا العمل مؤسس على مبادىء العلم المدني وعلم الاخلاق وكلاهما في رايه يعتمد على علم النفس لان موضوع الاخلاق هو (الملكات والافعال الارادية والعادات وغيرها ) ويرى ان الاخلاق والسياسة قسمان لعلم واحد هو علم السياسة والقسمان يرتبط كل منهما بالاخر ارتباط المبدأ بالمضمون او النظري بالممكن والعملي. العلم السياسي إذن مرتبط بعلم الاخلاق ارتباطا وثيقا ولما كانت الاخلاق في الاسلام مؤسسة على الشريعة والملة من هنا كان اهتمامه بالشريعة (الملة الاسلامية) واضعة القيم والمبادىء الاخلاقية . نقد الاستبداد: صحيح ان ابن رشد كانت انظمة الحكم ماثلة لديه من خلال شرحه وتعليقه على جمهورية افلاطون التي تكون اكثر مناسبة للمجتمع الاغريقي عنها للمجتمع العربي الاسلامي إلا أنه كان في تحليله إنما يضع الواقع العربي والاندلسى نصب عينيه اذ يقارن بين انواع هذه السياسات ويوضح كيف تتحول الواحدة منها الى اخرى ويحلل شخصية الرئيس في كل منها وسلوك الافراد وطباعهم ..ويشير في تعليقاته على جمهورية افلاطون الى ىالنظم السياسية المضادة للمدينة الفاضلة كاالنظام الاستبدادي او النظام القائم على الجاه او مايجمع بين النظام القائم على الجاه والنظام القائم على الثراء ويشير كذلك الى هذه الانظمة قد مارسها الساسة والامراء والخلفاء في الاندلس وعلى زمانه بل إننا نؤكد ان ابن رشد في رؤية فلسفية للتاريخ يعرض لاسباب سقوط دولة المرابطين وقيام دولة الموحدين على انقاضها وكيف سقطت ويعزو ذلك الى ابتعادها عن دولة الشرع حيث تحولت بعد تسعين سنة الى دولة المال ثم بعد عشرين سنة اخرى الى مدينة الاستبداد ويعلل سبب فنائها بظهور حركة سياسية مضادة للاستبداد قائمة على الشرع ويقصد بها دولة الموحدين ثم يضيف بعد ذلك في تحليل سياسي عميق ما جرى عند قيام دولة الموحدين وكيف أنها اعتمدت في أول امرها على الشريعة الاسلامية غير انه يرى انها تحولت بعد فترة الى مدينة الجاه والشرف ثم الى مدينة الاستبداد . ثم يتحدث باستفاضة عن انواع الساسة الى اربعة انواع هي 1- السياسة الكرامية والمدن الكرامية وهي التي يتعاون افرادها على طلب الشرف والمجد 2- فهي سياسة الخسة والمبالغة في الخراج والاسراف في النفقة 3- السياسة الجماعية او مدينة الحرية 4- سياسة التسلط او مدن التغلب ويجتمع اهلها على غاية واحدة هي شهوة التسلط وحدها ويستفيض فيها وان الاستبداد يبدأ في هذه المدينة عندما يرى المستبد او المتسلط في أول امره جماعة تطيعه بالحاق الضرر بمن يرغب هو في إيذائه وزجره بالاكراه والفتك بمن يرغب ولايزال يسلط جماعة من الناس على اخرى ليكشف الناس وخاصة ذوي اليسار ويظل يفعل ذلك إال أن يصبح عدوا لغالبية أهل المدينة وفي هذه الحالة إما انهم يجمعون على قتله أو ان يبسط سلطانه عليهم ويتغلب على الجميع ويصير وحداني التسلط ويضرب مثال في اخر ايام المرابطين وقيام الثورة عليهم التي تزعمها القضاة والفقهاء وقد انتهت تلك الثورة باستيلاء ابن غانية وهو من بقايا المرابطين على قرطبة عام 543 هجرية وقد مارس حكما استبداديا عانت منه قرطبة الامرين وكان ينهب الاموال بحجة الحرب على الفرنجة ولكن ياخذها لنفسه ظنا منه انه اذا سلبهم اموالهم فانهم لن يستطيعوا خلعه فينشغلوا بانفسهم والبحث عن قوتهم اليومي وكان يزيد من حراسه ويجزل لهم العطاء ليكونوا له اكثر امنا وحماية. لقد دان ابن رشد الوضع السياسي الاستبدادي القائم على عهد المنصور كما دان الدولة كلها وما الت اليه من فساد واستبداد مشهرا بانحرافها عن المقاصد التي اعلنت عنها عند قيامها ولم يستثني من أهلها إلا من كان منهم على الخلق الفاضل ومن كانت به فضيلة الشريعة القرانية . ازمة الفيلسوف مع المستبد : في الوقت الذي بلغ فيه ابن رشد القمة في خطوات النجاح بدأت ملامح اضطراب وياس إذ اخذ الواقع السياسي لدولة الموحدين على عهد المنصور في التفكك واخذت الازمة السياسية في التفاقم خاصة بعد هزيمة الموحدين في تونس اثناء مطاردة ابن غانية من مخلفات المرابطين وتوالت الهزائم والفشل في استرجاع المدن الاندلسية التي استولى عليها البرتغال لا ولاشك كان اشتداد الصراع بين الموحدين والنصارى في الاندلس وراء ازمة ابن رشد النفسية إذ اضطر المنصور الى التقرب الى الفقهاء والعامة والتملق لهم فتنبه ابن رشد ان مشروعه الاصلاحي في مهب الريح وان ما كان يحلم به من تغيير وجه الحياة الثقافية في الاندلس قد أوشك على الضياع فكانت ان حلت به النكبة ونفي الى (السانة) وقد شملت هذه الحملة غيره من المفكرين لانهم اشتغلوا بالحكمة من امثال ابي جعفر الذهبي وابي عبد الله قاضي بجاية. وقد اشتدة محنة ابن رشد بعد موت صديقه حاكم قرطبة ابي يحيى اخو المنصور الموحدي واشتداد قوة وعنف خصوم الفكر والفلسفة ونصبوا انفسهم حراسا للفكر. وهكذا وجد ابن رشد نفسه بين خصوم المعرفة والفلسفة من جهة والمتفلسفين المسيئين اليها من جهة اخرى في اشتداد وطاة ازمته النفسية وربما استعاد ما حدث لابن ماجه الاندلسي وكيف تكالب عليه حساده مما ادى الى وفاته مسموما وهو صاحب الفكر العقلاني الحر الجريء واعتبر نفسه انه يعيش وسط وحوش ضارية عبر عنها بقوله :(وإذا اتفق ونشأ في هذه المدن فيلسوف حقيقي كان بمنزلة إنسان وقع بين وحوش ضارية فلا هو قادر على ان يشاركها فسادها ولا هو يامن على نفسه فيها ولذلك فإنه يفضل التوحد ويعيش عيشة المنعزل فيذهب عنه الكمال الاسمى الذي إنما يحصل له في هذه المدينة). وللفيلسوف ابن رشد قول مأثور في كتابه المعنون «فصل المقال»: «لا يقطع بكفر مَنْْ خرق الإجماع في التأويل»، ومعنى هذا القول أنه لا تكفير مع التأويل ولا إجماع مع التأويل، وكان يعني ابن رشد بالتأويل إعمال العقل في النص الديني من أجل الكشف عن المعنى الخفي، الأمر الذي يفضي إلى تعدد التأويلات، وبالتالي إلى مشروعية هذه التأويلات. قوله المأثور الثاني في كتابه «تهافت التهافت»: «فمن رفع الأسباب فقد رفع العقل»، ومعنى هذا القول أنك عندما تريد البحث عن سبب حادث ما، فعليك البحث عنه تحت مظلة العقل وليس تحت أي مظلة أخرى، وإلا تكون قد خلعت العقل، وشغلت مكانه بكل ما هو مضاد للعقل. أن هذين القولين وما شابههما من أقوال قد أديا إلى اتهامه بالكفر والزندقة والإلحاد، وقد تبع هذا الاتهام حرق مؤلفاته ونفيه إلى أليسانه بإسبانيا. ومن يومها والفلسفة في الشرق الأوسط مطاردة، والعقل في حالة غيبوبة.مقال في جريدة مصر اليوم د.مراد وهبة .
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |