|
ولكن صدام حسين لا يزال حيّاً
محمد عبد المجيد/ رئيس تحرير مجلة طائر الشمال/ أوسلو النرويج الأيديولوجيات لا تموت بموت أصحابها، والمجرمون كالمصلحين يتركون خلفهم بعد رحيلهم مؤمنين بقناعاتهم. عندما دخلت القوات السوفيتية والحلفاء برلين بعد هزيمة المشروع النازي العنصري، تم اغتصاب مليون امرأة وفتاة ألمانية، فهنا تساوت قسوة تلاميذ ستالين مع أتباع هتلر مع منتصرين من الناحية الغربية. صدام حسين الذي شنقوه بعد محاكمة أمريكية بلسان عراقي غير مُبْين، لم يصنع ملائكةً، ولم يَقُم بانشاء مدارس لتعليم السلوك القويم، وجعل كلَّ اثنيّن من العراقيين جاسوسيّن على الثالث حتى لو كانوا في عائلة واحدة، بل في أسرة واحدة، وربما من رحم أم واحدة. صدام حسين لا يزال حيّاً في السجون والمعتقلات والانتهاكات، وروحه تراقب المقابرَ الجماعيةَ في عالمنا العربي، وهي تُحلّق فوق قصور سادتنا، وأحيانا تنزل لتلقينهم دروسا في الطغيان، وتقوم بتعليمهم سفك الدماء وتربية العبيد من رجال الأمن وكلاب السلطة. صدام حسين لا يزال حيّاً بيننا، فأنا أراه في آلاف الصفحات على النت، ثم أدير مؤشر التلفاز فيُخرج لي لسانه من وجه أحد ضيوف الفضائيات التي كانت تدعمه حيا، ويرزقها بعد موته. قضى ثلاثين عاما أو أكثر في الحكم وأصبحت له مدرسته الخاصة في تعليم الطغاة، فقد كان بحق طاغية تشهد له كل الشياطين أنه تفوق على أقرانه من هيلاسلاسي إلى منجستو هيلا مريم، ومن فرانكو إلى سالازار، ومن سوموزا إلى ستالين، ومن القذافي إلى مبارك، ومن الأسد إلى زين العابدين بن علي، ولعل هتلر وستالين هما اللذان تفوقا عليه. في طريق السلطة لم يكن لأحد أن يُحرك لسانه بغير مشيئة القائد المهيب، فقام بتصفية الدكتور إبراهيم رياض وزير الصحة، والدكتور هشام السمان، والدكتور إسماعيل التاتار، وكذلك أمر بقتل والديّ أحفاده، وزوجيي ابنتيه رنا ورغد بعد أن وعدهما بالعفو، وهل يعرف صدام الرحمة؟ تاريخ طويل من المذابح والقسوة والوحشية، وضرب أبناء شعبه بالأسلحة الكيماوية، والتسبب في حربين مجنونتين خرج من الأولى بنصف مليون قتيل ومعاق، ومن الثانية بعشرات الآلاف من جنوده المنهزمين في الصحراء يرفعون ملابس داخلية بيضاء لعل القوات الأمريكية تكون أرحم عليهم من رئيسهم وعدوهم. صدام حسين لا يزال حياً، فالانتخابات التونسية حصل فيها الرئيس على نسبة 99%، والمصرية في ولاية خامسة دفع فيها منافس الرئيس ثمنا غاليا بين جدران السجن، وضحك الرئيس علي عبد الله صالح على شعبه، وأقسم أنه لن يجدد بعد ثمانية وعشرين عاما من الحكم، فلما جلس اليمنيون يمضغون القات ويخزنون السُمَّ الجماعي، لم يستوعبوا مزحة الرئيس فجدد لنفسه ولاية أخرى. صدام حسين لا يزال حيا، فالإعلاميون الذين كان يُطعمهم ويأويهم، ويشتري لهم سيارات مرسيدس سوداء يعملون بجد ونشاط في خدمة أسياد آخرين، وأصبحوا الآن جماهيريين أكثر شهرة من نجوم كرة القدم، ويُطِلّون علينا من الشاشة الصغيرة، ويمتدحون أسيادهم على الانترنيت، ويفتتحون مانشيتات صحفهم بأحاديث مقززة ومقرفة عن البطل المغوار الذي تنكمش أمامه إسرائيل، ويتدارس العالمُ نهجه وعبقريته، وهو الأب الحنون الذي لا ينام الليل من أجل رعاية مصالح شعبه. صدام حسين لا يزال حيَاّ، فكوبونات النفط صنعت وجوها احتضنتها فضائيات، فظلّوا على الوفاء بالعهد، وهم طابور ساتلايتي خامس، جندتهم أجهزة الأمن لتلميع القادة والزعماء، واستدراج من أرادوا احراقه، فلا فرق بين الاستديو في أهم فضائية عربية وبين مكتب مدير الأمن، أو بين الاحراق على الهواء ومثيله في التخشيبة. صدام حسين لا يزال حيّاً، وأتباعه جعلوا منه شهيدا مع الصِدّيقين والأنبياء والرسل والمبَشَرين بالجنة. إذا كانت المقابر الجماعية وحكايات ملايين من العراقيين لعَنوه حيّاً وميّتاً، ووثائق ومستندات وأحياء تشهد أن جرائم صدام حسين لو ضمتها مجلدات فإن صفحاتها تمتد بطول نصف الكرة الأرضية، ومع ذلك فعالَمُنا العربي يضم بين بَحْرّيّه ملايين من الأسياد والعبيد، من الحكام والشعوب، من الاسلاميين والعلمانيين واليساريين والبعثيين وحتى خصوم الأمس الذين يؤمنون بمباديء الطاغية، ويعيدون تلميعه وتأهيله، وتزييف تاريخه. هذا يعني أن هناك خللا في تركيبة الإنسان العربي، وأننا نحتاج فعلا إلى علاج نفسي قبل أي نهضة أو تقدم، وأننا صنعنا صدام حسين حيا، وأعدنا الروحَ إليه بعد موته. لهذا لم يجد الطغاة في عالمنا العربي الممتد من صنعاء إلى أغادير، ومن اللاذقية إلى مقديشيو أي حرج في ادخال العصا في مؤخرة المواطن، أو في التجديد لولاية غير أخيرة قبل زيارة عزرائيل أو زيارة إسرائيل! صدام حسين لا يزال حيّاً، ويضحك علينا ملء فمه، فأكثر من ثلاثة عقود لم تصنع جمهورية رعب واحدة، لكنها صنعت أمة رعب واحدة ذات رسالة خالدة! إذا لم تصدق أن صدام حسين لا يزال حيّاً، فعليك بمتابعة الخطاب القادم للزعيم، وأن تقرأ بتمعن الاتهامات الموجهة لآخر جماعة تم القبض عليها، وأن تقارن بين غرف التعذيب في عهد قائد الجبهة الشرقية، وغرف التحقيق في أمن الدولة من صيدنايا إلى معتقل القلعة، مرورا بسجون كل أسيادنا، وحينئذ ستتأكد بأن نفخة روح الله في الإنسان العربي، والطاغية بوجه خاص، قد تم استبدالها. لعلك لا تصدق هذا الكلام وتعتبره أدبيات تسقط من الذاكرة بعد هنيهة أو لحظتين، وما عليك سوى أن تنتظر زائر الفجر فهو القادر على ايصال الرسالة إليك بأنَّ سَيّدَه لا يزال حيّاً. الذين يقومون بتكذيب الأحاديث عن الطغاة، ويشكّكون في حكايات وروايات وحقائق وقرائن لدى كل منظمات حقوق الإنسان، إما أنهم حمقى ينبغي الحَجْر عليهم، أو أنهم مشتركون، فَعليّاً أو خياليا، في جرائم الطغاة والمستبدين ومصاصي دمائنا. صدام حسين لا يزال حيّاً، ويمكنك أن تراه سبعين مرة في اليوم لو منحك الله نعمة الضمير اليقظ، ونُبْل الخُلُق الرفيع!
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |