زهير المخ/ كاتب وأكاديمي عراقي

zmuch@hotmail.com

إزاء هذا الواقع، انفصمت عرى الدولة، وبرزت كيانات تقليدية قائمة على التوازن البهلواني استأثرت بالكلمة الفصل في الشؤون الحياتية العامة. كما أن الفكر السياسي لم يشهد انتقالاً  من عرف المكونات التقليدية إلى مفهوم المواطنة. ولما كانت هذه المكونات تشكل التكتلات في المجتمع العراقي، وهي لا تحمل في موروثها تجربة سياسية يمكن الاعتداد بها، وهذا  عائد إلى أسباب نشوئها؛ ولما كان تجذّرها في المخيلة الشعبية قد رسخ تقاليدها التي أثرت على المجتمع المديني، فقد سحب هذا الواقع نفسه على بنية الأحزاب والحركات  التي رفعت شعار الحداثة والتطور وسيادة القانون، غير أنها لم تستطع عمليا تجاوز سقف العرف التقليدي.

ومن المفارقات الهائلة التي واجهت المجتمع العراقي تلك الإشكاليات التي عملت السلطات المتعاقبة على تكريسها واللعب على أوتارها، حيث حولت المجتمع الواحد إلى "مجتمعات" متنافرة فقدت مرتكزات هويتها ومواطنتها الجامعة، فحاولت الاستعاضة عنها ببدائل وولاءات طائفية وإثنية وقفت وراءها للمطالبة بحصص وحقوق جعلتها تمسك بمقدرات الوطن وثرواته.

وهكذا يبدو أن تاريخ نصف قرن من العراق المعاصر لم يعرف سلطة وطنية انبثقت من حركية المجتمع ذاته، وواكبت مراحل تطوره وانتقاله نحو مدنية حديثة تأخذ في الاعتبار ما يطرأ عليه من متغيرات ويواجهه من مشكلات يتطلب حلها معرفة وافية بالجغرافيا المجتمعية للكيان. فمنذ ما يقرب عن نصف قرن من الزمان، تناسخت الحكومات المتعاقبة أساليب أدارتها الشأن العام، من دون أن ينجح أي منها في ابتكار أساليب جديدة تساهم في صهر التنوع والتعدد، وتضع تصورات واضحة للانتماء والهوية.

لقد استنبتت الحروب والانتفاضات والمواجهات المتلاحقة بذوراً جنينية لمواطنة سياسية متباينة التحديد، لا بد من استبدالها حكماً بهوية وطنية جامعة. لكن مكونات المجتمع  حاولت ملامسة الأطياف العراقية بذهنية متخلفة الأداء ومتعددة الولاء، وبقيت تالياً عاجزة عن تبني مفاهيم عصرية للمواطنة، وألزمت نفسها بمنطق "المحاصصة" مما زاد في اتساع الفجوة بينها.

إن الحديث عن هذه القوى يقود إلى توصيف المشهد الراهن الذي يبين أن النخب السياسية الحاكمة اليوم تنطلق من اعتبارات طائفية وإثنية صرف، انعكست تهديماً للاقتصاد وتفسيخاً للمجتمع. أما الاتجاهات العلمانية فيبدو أن صوتها وتأثيرها غير واضحين بما يكفي لتشكل خشبة الخلاص. 

وحدها ممارسة المواطنة بما هي علاقة بين الفرد والدولة، تكفل كامل العضوية السياسية للفرد في هذه الدولة وتتطلب ولاءه التام لها. لذا لا يمكننا الحديث عن المواطنة من دون الإشارة إلى اللعبة الديمقراطية التي هـي أسلوب حكم، وطريقة حياة، وهدف، ومثال وآلية، وهي قبل هذا وذاك فلسفة سياسية. والصفة الرئيسية في النظام الديمقراطي هي مسؤولية الحكام عن أفعالهم أمام مواطنيهم، الذين يمارسون بدورهم الرقابة ويساهمون بالتشريع بطريقة غير مباشرة، من خلال تنافس ممثليهم المنتخبين وتعاونهم مع السلطة التنفيذية لمصلحة مجموع الشعب.  

والحقّ إن ضعف المواطنة أو غيابها ليس شأناً عديم الصلة بما عشناه مؤخّراً ولا نزال. فإذا كانت أي جماعة مستعدّة لأن تهدر حياة الفرد كرمى لقضيّتها، فإن صون الحياة وتكريمها رهن بوجود ذاك الفرد وإحساسه بذاته. فحين يتحوّل الولاء إلى هوية الدولة، يتحول  الأفراد تلقائياً إلى أفراد واعين بأهميّة حياتهم، بل بقداستها، ويتراجع الاستعداد للشهادة والانتحار. عندها فقط يصير ما يحفزنا حبّ الحياة لا حبّ الموت.

 المشكلة في عراق اليوم ليست في تعدد الانتماءات أو الولاءات، فهذا أمر مقبول في الديمقراطيات الحديثة لكن المشكلة تكمن في الصراع الذي قد ينشأ بينها في ظل ديمقراطية غير مكتملة وفي ظل نظام حكم يحاول استغلال هذه التناقضات وإظهارها على أنها غير قابلة للحل أو للتعايش. ربما حان الوقت لإنجاز التطور المطلوب من القدرة على المواءمة بين الانتماء للأشكال التقليدية العشائرية أو العائلية أو الدينية والمذهبية أو العرقية إلى الشكل الجديد للانتماء للدولة الجامعة باعتبارها المكان الملائم لتحقيق آمال مواطنيه بشكل عادل ومتساوٍ.

 لا يستقيم إدراك هذه الجدلية، إلا متى أقام المرء في وعيه التمييز الضروري بين الدولة والسلطة وكفّ عن اختزال الدولة في سلطة أو عن النظر إليها بصفتها سلطة فحسب. نعم، الدولة سلطة لكنها تمارسها باسم المجتمع وبموجب القانون العام الحاكم. إذا حصل وسخّرت نخبة سياسية حاكمة السلطة لمصلحتها أو لمصلحة فئة أو طائفة، فليس الخلل في الدولة ككيان معبّر عن الجماعة السياسية، وإنما في نخبة سياسية اعتدت على الحق العام وعلى الدولة نفسها. الدولة بطبيعتها نصاب تمثيلي مجرد ومحايد، وهي تطابق الأمة وتعبّر عن كيانيتها السياسية والاجتماعية. أما سلطتها، فمحط منافسة سياسية بين الفئات والجماعات والأحزاب تتداولها وتتغير نخبها وسياساتها، لكن الدولة هي هي: تستمر للجميع ويستمر ولاء الجميع لها. 

المقال المخصص لجريدة السيمر الاخبارية  والمنشور في 06 . 08 . 2008

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com