|
مورتنسون وابن لادن نموذجان للخير والشر
د. شاكر النابلسي -1- كان يمكن لأسامة بن لادن، أن يكون عنصراً خيّراً، وشخصية إنسانية نعتز بها نحن العرب والمسلمين، لو أنه سلك طريق الخير، بعد جلاء القوات السوفيتية من أفغانستان عام 1989، بأن عاد إلى أفغانستان، واستثمر أمواله الطائلة في بناء المدارس، والعيادات الطبية، وزرع الأراضي الواسعة بالغذاء، وحسّن من الأوضاع الاجتماعية للمرأة الأفغانية خاصة. -2- كان يمكن لأسامة بن لادن، أن يكون رمزاً ومثالاً يُقتدى لكل الشباب العرب والمسلمين، لو أنه بعد أن جمع ثروة كبيرة من استثماراته المختلفة في السودان، أن يعيد استثمار أمواله في أفغانستان، التي جاء إليها من السودان في عام 1996، في المزارع، وشق الطرق، وفي إنشاء الشركات الزراعية الصناعية، كما فعل في السودان في الفترة 1991-1996، بدل أن يؤسس قاعدة للإرهاب العالمي، ويجتذب إليها الانتحاريين، واليائسين من الحياة، والساخطين على النجاح والناجحين، ويحلم من جديد بإقامة خلافة إسلامية، يكون هو خليفتها، ومن هم حوله من ولاتها. -3- كان يمكن لأسامة بن لادن، أن يكون العربي المسلم الجديد، الذي يملأ الحياة بناءً وعطاءً وغناءً، بدل أن يملأها شقاءً وبكاءً ، لو أنه ساهم في تحرير أفغانستان من الجهل والفقر والتخلف وعقلية القرون الوسطى، وحوّل مزارع الحشيش والمخدرات إلى مزارع للغذاء وتربية المواشي، لكي ينقل أفغانستان من القرون الوسطى إلى القرن الحادي والعشرين، ومن بداية الألفية الأولى إلى مطلع الألفية الثالثة. -4- كان يمكن لأسامة بن لادن، أن يصطحب من السودان عندما خرج منها إلى أفغانستان عام 1996 في طائرة خاصة، مجموعات كبيرة من المهندسين والأطباء والمدرسين، للقيام بنقل أفغانستان من الظلام إلى النور، ومن الكهوف المظلمة والموحشة إلى المدن العامرة بالمدنية والحضارة والعلم والعمل، بدل من اصطحاب مجموعات من المغامرين الانتحاريين الفاشلين، لإقلاق راحة العالم، وتهديد سلمه الاجتماعي، وتهديم ما بنته الإنسانية من حضارة ومدنية، ونشر إرهاب القتل والنحر والانتحار. -5- كان يمكن لأسامة بن لادن، أن يكون أعظم رجل في تاريخ أفغانستان، لو أنه أخرجها من طور البربرية إلى طور الحضارة، وساعد على إنشاء دولة حديثة، بدل قطعان القبائل الحفاة العراة، المنتشرين في الجبال والوديان، والهائمة على وجهها كالأنعام، تتصيد القوافل، وتُغير عليها، وتنشر الخوف والرعب في أرجاء البلاد. -6- وكان يمكن لأسامة بن لادن أن يكون مشهوراً وشهيراً، تؤلَّف عنه الكتب، وتظهر صورته على أغلفة عدة كتب كما هو الآن، وعلى الصفحات الأولى من الجرائد والمجلات العالمية كما هو الآن، وعلى شاشات الفضائيات كما هو الآن، ولكن ليس باعتباره الإرهابي والمطلوب الأول في العالم، والوجه القبيح للعربي المسلم، والرائحة الكريهة والمقيتة للثري الأهوج، ولكن باعتباره المنقذ للشعب الأفغاني، والمصلح للمجتمع الأفغاني، والمحرر في زمن الحرب وزمن السلم. -7- كان يمكن أن يكون أسامه بن لادن كل هذا، لو أنه قرأ الإسلام بحكمةٍ وعقلٍ وتدبّر، وليس من خلال تخيّلات أبي الأعلى المودودي، ومكائد سيّد قطب، وجهالات عبد الله عزام وأيمن الظواهري، ووسوسات محمد قطب، أيام كان ابن لادن طالباً بجامعة الملك عبد العزيز بجده، وكان محمد قطب أستاذاً فيها. -8- كان يمكن أن يكون أسامة بن لادن كل هذا، لو أنه وضع نصب عينيه أن يكون مصلحاً لا مفسداً، ومشيّداً لا هادماً، وخيّراً لا شريراً، وعاملاً لا قاتلاً، ومسالماً لا إرهابياً. ولكن الأقدار، وعمى الأبصار، وتكاثر الأشرار، أحرفت ابن لادن عن طريق الخير والبناء والإعمار، وعزقته ووضعته على سكة النحر والانتحار، ونشر الدمار. فانتهى ابن لادن إلى أفّاق ومارق، هائم على وجهه، مُختفٍ في الكهوف المظلمة والموحشة التي كان يجب عليه أن يخرج كل الشعب الأفغاني منها. كما تحوّل إلى طريد للعدالة العربية والإسلامية والعالمية، وإلى مجرم بحق العرب والمسلمين والعالم، وإلى وباء وبلاء تُصاب به الأمم والشعوب، إذ لم تُحصّن نفسها بالمضادات الحيوية، وبعقاقير المناعة. -9- على الضفة الأخرى من نهر الحياة في أفغانستان، كانت هناك قصة أخرى، قصة الخير والنماء، والعمل والعطاء، التي كنا نتمناها للإبن الضال أسامه بن لادن، ولكنها كانت من نصيب الرياضي الأمريكي جريج مورتنسون من ولاية مونتانا، الذي يهوى تسلق الجبال. وكان أمله في الحياة، أن يصل إلى قمة "K2" في جبال الهملايا، ولكنه فشل في عام 1993، وضاع، وكاد أن يموت، لولا أن قيّض الله له مجموعة قروية من منطقة "بلتستان" شمال كشمير، التقطته، وآوته. ومقابل هذا المعروف والجميل، قرر بناء مدرسة في قريتهم. وعاد إلى أمريكا ليبدأ بجمع المال لذلك. فباع كل ما يملكه، وعاش في سيارته، حتى يوفّر المال لتنفيذ المشروع. وجاءته عشرة آلاف دولار من محسن ثري، أسس بها "معهد آسيا الوسطى" وهو منظمة غير حكومية مكرّسة لتشييد المدارس. ولم يسلم مورتنسون من هجوم رجال الدين المتشددين عليه، الذين أطلقوا الفتاوى ضده. ولكن بعد ثلاث سنوات من الجد والعمل المتواصل، أنشأ مورتنسون مدرسته الابتدائية الأولى. وبعدها بثلاثة أشهر شيّد ثلاث مدارس أخرى. فقد أدرك مورتنسون أن تنمية حياة الناس في مثل تلك المناطق البعيدة، تعتمد علي تعليم الفتيات. وأن الوسيلة المثلى لمواجهة التعليم الديني المتطرف، هو إنشاء مدارس حديثة، أي إتباع حكمة : "وداوها بالتي كانت هي الداء". وكانت المعجزة بعد ذلك، أن يقوم مورتنسون ببناء 55 مدرسة بشمال باكستان وأفغانستان، يتعلم فيها 24 ألف طالب وطالبة تعليماً حديثاً، بعيداً عن المناهج المدرسية الدينية المتطرفة التي تدعو إلى عداوة الآخر وتكفيره ومحاربته. وكانت المفاجأة لكل من قرأ كتاب "ثلاثة فناجين من الشاي" الذي كتبه مورتنسون مع الصحافي ديفيد ريلين عن هذه التجربة الإنسانية الفريدة، أن يساند سكان المناطق وشيوخ القبائل، هذه المشاريع التعليمية، ويحموا مورتنسون من أي اعتداء محتمل، بعد أن تعرّض إلى اعتداءات كثيرة، من قبل الحشاشين في وزيرستان. -10- ويروي ديفيد ريلين على لسان مورتنسون، فشل الحل العسكري الأمريكي في أفغانستان، والضحايا من الجيش الأمريكي والإنفاق المالي الهائل، دون جدوى ملموسة في محاربة الإرهاب في أفغانستان. فكل إرهابي يُقتل، يظهر بدلاً منه عشرة إرهابيين كل يوم، نتيجة للجهل والفقر وسيطرة التعليم الديني المتشدد. وبينما يطلق بوش الصورايخ على أفغانستان (ثمن الصاروخ "توماهوك" نصف مليون دولار على الأقل، وهو مبلغ كافٍ لبناء 20 مدرسة، كما يقول مورتنسون)، يقوم مورتنسون ببناء المدارس في مناطق معزولة، ويعمل مع رجال الدين المسلمين، بل ويصلي معهم أحياناً. أما الشيء الوحيد الذي ينسفه مورتنسون فهو جلاميد الصخر التي تسد الطرق المؤدية إلى المدارس. ويظن بعضنا، أنه من السذاجة الاعتقاد، بأن بضع عشرات من المدارس ستغير الاتجاهات المتشددة في أفغانستان أو باكستان. لكن مورتنسون يُلفت إلى أن "طالبان" تقوم بتجنيد الفقراء والأميين. وبأنه حين تكون النساء متعلمات، فالأرجح أنهن سيقُمن بكبح جماح أبنائهن. ويقول مورتنسون، أن خمسة من المعلمين الذين يعملون لديه هم أعضاء سابقون في "طالبان". وأن أمهاتهم هنَّ اللائي أقنعهم بمغادرة "طالبان"، وهو ما يفسر حرصه على تعليم الفتيات. فهذه المدارس ستكون أنجع وأكثر فعالية ضد "طالبان"، على المدى البعيد من الصواريخ.
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |