زهير المخ/ كاتب وأكاديمي عراقي

zmuch@hotmail.com

لا ينشأ المجتمع العراقي إلا في كنف الدولة، حيث لا سبيل للجماعات الاجتماعية لكي تتقدم وتُنتج وتُراكم وتنظم كيانها الداخلي إلا أن تتحول إلى جماعات سياسية تنشأ الدولة عن اجتماعها السياسي. ولا يفوتنا القول إن الدولة تتفاوت في درجة قيمتها وتطوّر نظمها بتفاوت مستوى التنظيم الذاتي للجماعات السياسية التي تكوّنها، وبتفاوت درجة نضج فكرة الدولة في وعي تلك الجماعات. كلما تمسكت جماعة ما بروابطها التقليدية العصبوية ارتخت خيوط نسيجها السياسي الجامع وتضاءلت مكانة الدولة في حياتها الجمعية. وكلما تمسكت بهذا الجامع السياسي، تراجعت فرص انقسامها العصبوي الداخلي ورسخت الدولة في اجتماعها وتعمّقت.

لا سبيل إلى أن يعيش المجتمع العراقي من دون دولة مهما كانت درجة التنظيم الذاتي لهذا المجتمع. بل إن بلوغ ذلك التنظيم الذاتي نفسه درجة من التطور والمتانة والتماسك لا يعني شيئاً آخر أكثر من أنه يقود إلى نشوء دولة. إن الترابط بين الجماعات التقليدية والدولة ليس مصادفة تاريخية وإنما جذره معنى الدولة ذاته. فالدولة ليست مضافاً في تاريخ مجتمع، بل هي ماهيته التي من دونها لا يكون مجتمعاً. وهي ماهيته لأنها مبدأ التنظيم الجمعي فيه. المبدأ المؤسسي للمجتمع بالضرورة، أي الذي من دونه لا يكون المجتمع مجتمعاً بل فضاء فسيح لجماعات منفصلة عن بعضها. ثم إنها ماهيته لأنها عقله الذي يحقق به وعيه بنفسه كمجتمع ملتحم وبالتالي مختلف عن غيره ومتمايز.

وهذا بالضبط ما حاوله عالم الاجتماع العراقي علي الوردي باكرا حين دعا إلى الإقرار بوجود جماعات ثانوية وسيطة بين الدولة والمواطنين، والتي لولاها لما أمكننا الكلام على التعدد. أهمية هذا القول انه يشير بوضوح إلى اعتبار الطوائف مؤسسات اجتماعية بالمعنى الذي صاغه ماكس فيبر، أي أنها شكل من أشكال التنظيم الاجتماعي الحديث. يمكن إذا اعتبار الانتماء إلى طائفة أو امتلاك هويات خاصة أمراً ممكناً إذا ظل تحت حدود المواطنة، أي عدم طغيان هذا الانتماء وخلطه أو تناقضه مع الولاء للدولة الجامعة. أما ما يحصل الآن فهو تعصب وانتماءات عضوية غالبة وولاء للطائفة وليس للوطن. وينتج عن هذا كله تعبئة وشحن مذهبيان يؤسسان لتنشئة جيل بكامله يتعايش مع هذا الجو الموبوء الذي سوف ينعكس على مستقبلنا لسنوات عديدة.

إن اجتماع هذه الصعوبات والعوامل السلبية يجب أن يدفع حتماً نحو تأثيرات وقائية لبدء مرحلة "عقلنة" الخطاب السياسي العراقي إزاء مفهوم الدولة، والسعي للبحث عن حلول تجنب البلاد ومن فيها المزيد من التشرذم والانقسام. إن ذلك يستدعي خطوات فعلية ملموسة في اتجاه الانفتاح والتعددية وإقرار تشريعات عمل سياسي تأخذ في الاعتبار المشكلات التي يعاني منها المجتمع، وإعادة أحقية المواطنة أو الهوية بصفتها مفهوماً حضارياً ملزماً لا يجوز التصرف به انطلاقاً من حسابات فئوية أو طائفية ضيقة.

وبقدر ما يتوجب على العراقيين الإقرار بمسؤوليتهم في تهديم جدران البيت العراقي على رؤوسهم، بقدر ما يجب إعادة الاعتبار إلى مفهوم الدولة الذي ظل في الإجمال غائباً لأنه يضع الحوار في موقع التعصب والبحث الدؤوب عن البدائل في محل الإطلاق، وليس ثمة تفكير في وقف نزيف القتل على الهوية خارج عودة الدولة، بما هي برامج انتخابية وقوى متنافسة وبدائل ممكنة، تستطيع هذه القوى من خلالها البحث عن مجال فعلها السياسيّ المستقلّ، وبالتالي عن إنشاء مجتمع سياسيّ مفصول عن المجتمع الأهليّ وروابطه المعطاة سلفاً، أكانت طائفية أو إثنية.

ولا ريب في أن أول أعداء الدولة هو الفئوية الطائفية بكل تفاصيلها من مليشيات مسلحة وزعامات "ملهمة" الساعية للسيطرة على جهاز الدولة الهش وعلى المجتمع. وبما أن الفئوية الطائفية تنقض الدولة وتحول الجدل السياسي إلى صراع بين تجمعات متمايزة عمودياً، فهي الباب المثلى للقتل على الهوية وإعادة إنتاج موسع للفرز الطائفي والتهجير الجماعي. إن الفئوية الطائفية كفيلة لوحدها على إلغاء مفهوم الدولة، ولكنها كانت وما تزال عميقة التغلغل في بنية الثقافة السياسية العراقية، ولم ينتج عنها سوى خيار واحد: المزيد من إراقة الدماء وإشعال الحروب الأهلية.

بكلام آخر، إن التغيير الجذري في الثقافة السياسية المهيمنة هو شرط لا غنى عنه من شروط نجاح أي عقد اجتماعي بين الدولة والمجتمع، بحيث يؤدي إلى وضع هدف "المصالحة الوطنية" السامي في موقعه الحقيقي وعدم السماح باستعماله شعاراً يحتفل به دعاة التطهير المذهبي.

إن الكيان العراقي يستحق تنازلات متبادلة وقناعات راسخة بأنه لجميع أبنائه وبجميع أبنائه، ولا سبيل أمام العراقيين سوى تغليب الكل السياسي على الجزء الطائفي. كثيرون هم العراقيون الذين يتطلعون إلى دور الدولة التي يفترض أن تكون إطاراً مرجعياً وحيداً عابراً للطوائف، فلئن استطاعت الدولة القيام بهذا الدور المناط بها أصلاً، رأى العراقيون بصيص نور في نهاية النفق، وإن لم تستطع، فالقلق سيبقى خبز العراقيين اليومي.

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com