|
الجواهري نهـر العراق الثالث
يحيى السماوي (لمناسبة اختتام مهرجان الجواهري الخامس في بغداد : نص الكلمة التي ألقيتها في الحفل التكريمي الذي أقامه منتدى الإثنينية لشاعر العرب الأكبر الجواهري في مدينة جدة يوم 3/4/1995 وقد نـُشِر المقال في صحيفة المدينة تحت عنوان " الجواهري نهر العراق الثالث " يوم 8/نوفمبر / 1995... ومن خلال الكلمة هذه، سمع لأول مرة باسقاط جنسيته بعد أن أخفينا عنه الخبرنحو أسبوع كامل بناء على رغبة الأخت خيال .. وكان الجواهري ـ طيّب الله ثراه ـ قد علق على الكلمة أمام كريمته د . خيال وزوجها الفنان صباح المندلاوي قائلا :هذا أجمل ما أطلق عليّ من ألقاب فشكرا ليحيى السماوي) ** يُقال إنّ إعرابيا سألوه في بلاد الشام : من أية بلاد أنت ؟ فأجاب : من بلاد أنجبت أبا الطيب المتنبي ... فقالوا : إنها العراق .. البلاد التي منحت مائدة الشعر خبز العافية .. والتي يُقتل فيها الشعراء أو يُمنع عنهم خبز الحقول .. في العراق نهران أسطوريان .. ومع ذلك، فهو وطن العطش والجوع والخريف المتأبّد ... ومن بين ثلاثين مليون نخلة عراقية، يبقى الجواهري النخلة الأكثر ارتفاعا وعطاء ً.. النخلة التي أصبحت بمفردها بستانا ً باتساع الوطن .. إنه الجسر الذهبي الذي يربط بين الحلم واليقظة .. أو بين أرض الحروف وفضاء الإبداع .. وهو الشهيد الحيّ الذي لم يُشنق بعد ـ إذا كان للشعر شهداؤه الأحياء ! حين اتخذ النظام العراقي من حزب ( ميشيل عفلق ) معبدا ً وثنيا ً ومن صدام صنما ً : أسقط النظام عن نفسه هوية مكارم الأخلاق .. وحين اجتاح الكويت : أسقط عنه الشرف العربي فأضحى لعباءته شكل الخطيئة، وصار العراق تابوتا ً على هيئة وطن .. أما حين أسقط الجنسية العراقية عن شاعر العرب الأكبر محمد مهدي الجواهري فقد كشف هذا النظام عن نفسه عدوا ً للإبداع وللوجدان الوطني، ونصيرا للعهـر الفكري .... وإذا كان للعـراق نهـران أسـطوريان، فإن الجـواهري هـو الــنهـر الثالث، وما يُميزه عن دجلة والفرات، أنه النهر الذي لا يعرف النضوب، والذي منح الغابة الشعرية العراقية الخضرة والعصافير وفضاءات أكثر اتساعا ً من نوافذ الأحلام .. ومع أنه تجاوز الخامسة والتسعين من العمر، إلآ أنه ما يزال الأكثر فتوّة ً وشبابا ً من شبّـان وشباب القبيلة الشعرية كلها، فحُقَّ لنا ـ نحن العراقيين ـ التفاخر به، وأن نتباهى ـ نحن الذين دخلنا غابة الشعر ـ بكوننا قد خرجنا من تحت طاقية رأسه .. طاقيته التي أضحت من ملامحه مثلما أضحت راية للشعر العراقي .. وكما أضاف المتنبي للوطن الشعري مدنا ً جديدة، فقد أضاف الجواهري الكبير لهذا الوطن مدنا أخرى .. وأضاف للشعر شرفا جديدا في وقت ٍ كان فيه النظام الديكتاتوري يريد اغتيال شرف الشعر بعدما اغتال شرف المواطنة .. قد أبدو مجنونا بحب شعر الجواهري .. غير أن مثل هذا الجنون يأخذ شكل الحكمة ـ أنا التلميذ المهذب الواقف على عتبة مدرسة الجواهري مستجديا السماح لي بدخولها .. فأن أكون شجرة صغيرة في بستان الجواهري، أحبُّ إلى نفسي من أن أكون بستانا ترضع أشجاره من وحل ينابيع الخطيئة العفلقية ... وأن أغدو تلميذا للجواهري، فذلك أشرف لي من أن أكون استاذا لقبيلة كاملة من شعراء السلطة . مرة سألني صديق عن الأسباب التي جعلتني أحمل حقدا عميقا على نظام الوثنية الجديدة في العراق ... ومع كوني أشعر كما لو أنني رضعت كره هذا النظام مخلوطا بحليب ثدي أمي ـ إلآ أنني أجبته : لو أن نظام صدام حسين لم يرتكب سوى جريمته في تشريد الجواهري، لكان على الشعب العراقي العمل على إسقاطه .. فكما كان الجواهري شاعر" وثبة كانون " ضد الإستعمار الإنكليزي، وشاعر " ساحة السباع " وشاعر الشعب الأول، فإنه أيضا الناطق الشعبي باسم عذاب الفقراء وباسم العراق ومناضليه والناطق الإبداعي باسم الشعر العراقي منذ غفا المتنبي إغفاءته الأخيرة . لقد كان الجواهري ركنا أساسيا من الأركان التي شكلت الوجدان الوطني العراقي .. ها هو صوته في قصيدة ( أخي جعفر ) يملأ الذاكرة الوطنية منذ إلقائها يوم 14 / 2 / 1948 وحتى يومنا هذا، وستملأ ذاكرة العصور التي لم تولد بعد : أتعلمُ أم أنت لا تعلمُ بأن جراح الضحايا فمُ وأي شهيد سقط مضرّجا ً بدمه، لم ننشد على مقربة من قبره : يوم الشهيد ِ تحية ٌ وسلامُ بك والنضال ِ تؤرّخ الأعوامُ أو قوله : باق ٍ وأعمارُ الطغاة ِ قصارُ من سفر مجدك عاطرٌ موّارُ وهل ثمة عراقي فـُرِضَ عليه أن ينتقل من منفى إلى آخر، أو من معسكر لجوء إلى رصيف من أرصفة التشرد ـ سيجد ما يعبّر عن حرائق اشتياقه، كالماء الذي يتدفق حنينا من قصيدة الجواهري ( يا دجلة الخير ) : حييت سفحك عن بعد ٍ فحييني يا دجـلة الخير يا أم البسـاتيـن ِ يا دجلة الخير يا نبعا ً أفارقه على الكراهة بين الحين والحين ِ إني وردت عيون الماء صافية ً نبعا فنبعا فما كانت لترويني لقد كانت قصائد الجواهري في غربته بمثابة بيانات صادرة عن أشواق كل المنفيين والمشردين وعن حالاتهم النفسية : سهرتُ وطال شوقي للعراق ِ وهل يدنو بعـيدُ باشــتيـاق ِ ؟ وهل يُدنيك أنك غيرُ سـال ٍ هواك وأنّ جفنك غير راقي ؟ لا أحسب نظاما ً من أنظمة الحكم التي تعاقبت على قيادة "حمار السلطة" في العراق، كان يخشى شيئا أكثر من أن يقول فيه الجواهري شعرا قادحا .. قد يكون صحيحا أنّ قتل الجواهري كان أسهل للأنظمة تلك من قتلها عصفورا يحلق في فضاءات الوطن المليء بدخان الحرائق .. لكن الصحيح أيضا هو أن تلك الأنظمة كانت تدرك أن قتلها الجواهري سيسقط عنها آخر ورقة توت ... ربما لهذا السبب لم يبعث صدام حسين بأحد ( الرفاق الأشاوس ) ليسقي الجواهري كأسا ً من عصير البرتقال المخلوط بالثاليوم، أو ليغرس في رأسه طلقة من مسدس كاتم للصوت، أو طحن عظامه في حادث دهس منسّـق ـ لذا اكتفى باسقاط الجنسية العراقية عنه، ظنا منه بأن مثل هذا الإجراء التعسفي سيؤدي إلى موته معنويا، وما كان يعرف أن إسقاط الجنسية عنه قد جعل الأمة العربية والأسرة الإنسانية كلها تمنحه الجنسية الأبقى، وأن طاقية الجواهري قد أضحت جنسية أخرى للوطن ... فبمثل الجواهري تتشرف الأوطان .
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |