من درويش تعلمتُ .. أنّا نحب الوردّ لكنّا نحبُ القمحَ أكثرّ!

 

 حميد الشاكر

al_shaker@maktoob.com

رحل شاعر طفولتي محمود درويش !.

ربما الكثير منّا تعرّف على محمود درويش من خلال أسمه الذائع الصيت في الافاق الادبية والسياسية العربية آنذاك وحتى اليوم، فالرجل رحمه الله كان اسطورة في قضية النضال الفلسطينية الحديثة، واسمه اشهر من نار على علم، ولهذا الكثير الكثير في العالم العربي تعرّف على درويش اسما في بداية الامر ليتعرف عليه شعرا من بعد ذالك !.

الا انّي ومن خلال تجربتي الشخصية مع درويش كانت طريقي اليه منقلبة، فقد تعرّفت عليه شعرا في بادئ الامر لتنتهي معه معرفة ً أسمية  !؟.

نعم لست شاعرا ولكنّي من محبي الشعر عندما كنت في السابعة عشر من عمري في العراق وتحت وطأة نظام سياسي عاتي الطغيان والصولجان وهو نظام صدام حسين آنذاك حين  وقعت أمام ناظريّ ورقة مُزقت من كتاب لتتطاير مع الريح وتستقر بالقرب من قدماي في شارع من شوارع ذي قار الحبيبة، وعندها جلست لارفع هذه الورقة وارى ما مكتوب فيها فوجدت هذه الكلمات :

أنّا نحب الوردّ لكنّا نحب القمح أكثر ...

ونحب عطر الورد لكنّ السنابل منه أطهر ...

فاحموا سنابلكم بصدر مسمّر ...

وعانقوا رؤوس السنابل كما عانقت خنجر ....

الاحرار والفلاح والثوّار قلّي كيف تقهر ..

 في هذه اللحظة وربما من تلك اللحظة احسست بأن للشعر دولة، وللكلمة قوة لاتقل شأنا عن قوة اي مادة من مواد الحياة المادية، وربما هذا الشعور لامس كل كياني لأنّ هذه الكلمات صيغت بشكل كونّي مطلق وعامٌ يلامس الانسان المقهور اينما كان، واينما وجد !.

أحسست ان هذه الكلمات كتبت لي شخصيا كرسالة من قطرات السماء التي لااعرف كاتب سطورها حتى هذه اللحظة !.

انها لحظة مزج الحب والمبدأ بين الوردّ والقمحة ؟!.

انها لحظة دمج رياح الحياة وعبق الشهادة بين العطر والخبزة !.

انها نسمة خلط بين الدفاع والامل !.

انها كلمة عناق بين السنبل المتمايل وبين الصدر المسمّر !؟

انها نغمة سماء بين احرار وارض فلاّح ودم ثوّار سوف لن يقهر ؟!.

انها انّا وطاغية بغداد وآمال أمة مسحوقة، وأمل ثورة وحب حياة وتشبث بأرض .... وباقي الامنيات !.

عندها تساءلت لمن تكون هذه الكلمات العابرة لقارات المشاعر والامال البشرية ؟.

ربما لمقهور مثلي يريد ان يوصل رسالة من بعد الزمان فطبع ورقة ليلقيها مع الريح توصلها الى اين ماشاءت، لعلمه ان نظام صدام  لاسلطان له على الريح وماتحمل ؟.,

ربما هي تأوهات حزين سلبت حريته وماتت آماله وانتهكت ارضه، وتسلط عليه سوط جلاد وقهر زمان معا، لهذا هو ارسل قصاصته مع جنود سليمان ليبلغ رسالات ربه من مكان بعيد ؟!.

او ربما هي لعبة مخابرات ودسيسة رجال الامن في بلدي، لاادرك مغزاها في زمن الموت البطيئ والضحك على الام المعذبين في الارض ؟.

لففت ماتبقى من الورقةلالقيها بعيدا عنّي وارسلها مرّة اخرى مع الريح من جديد  لتنجز ماتبقى لها من رسالة في حمل الكلمات الى الافاق التي يصعب الوصول اليها من جهة، ولابعد التهمة عن نفسي أمام رجل المخابرات المراقب لي في الخفاء ومن بعيد،  انني قرأت مالاينبغي التفكير فيه في بلدي بصراحة من جهة اخرى ؟.

وبقيت ماشيا في طريقي، ولكنّ الغريب ان هذه الكلمات طبعت في ذاكرتي ومشاعري بشكل لايصدق، فماهي الا لحظة واختها فكيف طبعت هذه الكلمات في ذاكرتي بهذه السرعة ؟.

ربما (جاوبت نفسي) لعطش الروح لمثل هذه الكلمات العذبة كان الالتقاء الفطري بين الذاكرة ومجموعة قليلة من القطرات ؟.

وربما كاتب هذه الكلمات نبي او قديس تصل كلماته الصادقة الى الروح وبلا ادنى عوائق لتستقر في القلب بلا ادنى تفكير بالرحيل من الذاكرة ؟.

ربما !.

لكنّ من هذا القديس الذي الذي جمع بين الحب والقمح، وبين العطر والحياة، وبين الطهر والكلمات، وبين القوة والنازلات، وبين الثورة والاحرار والانتصارات ؟.

وكيف لي ان اعرف من مجرد ورقة كتبت عليها كلمات لتأتي وتذهب مع الريح بلا هوية؟.

وبعد سنين وسنين عرفت كاتب الكلمات الخالدة، وهو محمود درويش، لأتيقن ان هوية الانسان ليس في اسمه بل هوية الانسان في كلماته !؟.

رحم الله محمود درويش كاتب الحب والثورة !.

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com