وقائع في كواليس أمسية شعرية في ألمانيا!

 

عصام الياسري/ صحفي عراقي/ برلين

 isamalyasiri@yahoo.de

 أيها الموت انتظر حتى أعد...  

من قصيدة طويلة بعنوان "جدارية الموت" لمحمود درويش، كتبها في أعقاب خروجه من المستشفى بعد إجراء عملية خطيرة في القلب في إحدى مستشفيات باريس عام ١٩٩٨، حيث كادت تؤدي بحياته. وهي العملية الثانية من هذا النوع بعد عملية القلب الأولى عام ١٩٨٤، لكنه يبدو كان دائماً سَجيلُ، يتحدى الموت. على موعد يترقب المواجهة كما أشار صديقه الشاعر أمجد ناصر في إضاءة حول قصيدة الوداع "لاعب النرد" التي نشرت له قبيل رحيله.

في عام 1994 طرأت لي فكرة إقامة أمسية للشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش في ألمانيا، لكنني كنت متردداً بسبب ما سمعت عنه من نرجسية وافتعال أسباب تحول دون موافقته بسهولة على أي مشروع يعرض عليه بهذا الاتجاه كما ذكر لي بعض من يعرفونه. وبعد إجراء بعض الاتصالات مع أقرب الناس إليه لجس النبض، أستقر رأيي على الفكرة رغم الآراء المتباينة حوله. وأنا بين هذا وذاك التقيت أثناء زيارتي لدمشق بالصديق الفنان قيس الزبيدي صدفة، وأثناء احتسائنا القهوة في مقهى هافانا سألته عن رأيه بدعوة الشاعر إلى برلين؟ فأجابني سيكون أمراً رائعاً حيث سيصبح أول نشاط من هذا القبيل على الساحة الألمانية في عهد توحيد ألمانيا وسقوط الجدار، وأردف قائلاً، لكن محموداً صعب المنال، وعلى ما أعتقد أنك تعرف الأخ عبد الله حوراني؟ فاتصل به وسيعينك بالتأكيد لأنه من أقرب أصدقاء درويش. طلبت من الأخ قيس توفير وسائل الاتصال بالصديق عبد الله حوراني الذي كان مقيماً في عمان، وأبلى قيس بلاءً حسناً حين زودني بعد يوم من ذلك بتلفونه. عزمت على الاتصال به مباشرة وتحدثنا ضمناً بالموضوع وأخبرني أنه سيتصل به ويخبرني حين يقضى الله أمراً لنا.. في اليوم التالي اتصل بِي الأخ عبد الله وأخبرني بعد أن زودني برقم تلفون محمود في باريس على ضرورة الاتصال به قريباً وهو الآن على علم بالموضوع وقد رحب بالفكرة "واضح أن عبد الله كان قد أقنعه". بعد يومين عدت إلى برلين وكان لنا أول لقاء تعارف عبر الهاتف، تكررت فيما بعد الاتصالات الهاتفية وكنا نتحدث في أمور كثيرة منها السياسية والثقافية، إلى أن التقيته على وجه السرعة وهو يشد الرحال إلى عمان للتشاور معه في أمور الأمسية والمشاركون فيها.

كنت قد اتفقت مع الشاعر محمود درويش على مشاركة الفنان العراقي عازف العود الشهير الصديق نصير شمه، وأيضاً مشاركة المسرحي الألماني المعروف برفسور كوك الذي أشرف على ترجمة قصائد درويش إلى اللغة الألمانية، والممتع بصوته العميق حينما يقرأ الشعر بطريقة مسرحية لا تخلو من حركات جسدية جذابة، فيما سيقدم الشاعر السوري الصديق عادل قره شولي درويش مستعرضاً سيرته باللغتين العربية والألمانية.. في هذا اللقاء ومن باب المجاملة سألت بحذر شاعرنا الكبير وهو منهمكاً يكتب شيئاً ما على بعض كتبه التي جهزها ليقدمها لي: كيف لي أن أخاطبه بأبو مَن ؟ كما هو معتاد لدينا نحن العرب، فرد مبتسماً ليس عندي أولاد، لكن العراقيين ينادونني بأبو شاكر.

يوم الأحد 29 تشرين الأول (أكتوبر) 1995 جاء درويش برلين ودخل الصالة الرئيسية للاحتفالات في دار ثقافات العالم وسط ترحيب كبير من قبل الجمهور الذي اكتظت به القاعة للاستمتاع بأمسيته الرائعة، جلهم كان من الألمان، من الوسط الثقافي والأدبي والفني ومن وسائل الإعلام. لكن التحضير الذي سبق الفعالية كان لا يخلو من المفارقات والمفاجآت التي كادت أن تعصف بالفعالية أحياناً، منها اضطرارنا لتغيير الموعد عدة مرات بسبب عدم توافق أوقات المشاركين أو عدم جاهزية الترجمة إلى غير ذلك.

يوماً ونحن في أشد العزيمة على ترتيب أمور اَلأمسية ووصولنا مرحلة متقدمة فنياً وإداريا، طلب مني آنذاك السيد 'هارالد شيرر' مدير الشئون الأدبية والثقافية في الدار زيارته لأمر ضروري. التقيته، وبعد تبادل الآراء حول تطور المشروع، عرض عليّ مقترحاً أراد رأيي فيه. قال، ما رأيك في دعوة الكاتب الإسرائيلي عاموس عوز، سألته لماذا؟ قال، الحقيقة أنني خائف من عدم نجاح الفعالية، سألته من جديد، وهل تعتقد أن مشاركته ستحقق النجاح؟ قال ربما، قلت هل تريد أن تسمع رأيي حقاً؟ نعم، أجاب وهو فاتح الثغر بنوع من العجب. قلت أنا متأكد من إن الأمسية ستلقى استحساناً واسعاً بين الأوساط الألمانية والعربية وستكون على قدر عال من الأهمية والنجاح دون عاموس، كما أعتقد بأن درويش سيرفض المشاركة وربما سيلغي الأمسية برمتها، لكنني سأطرح الفكرة عليه لأنه صاحب القرار.

هكذا انتهى اللقاء وغادرت مزعوجا وما أن وصلت البيت إلا واتصلت بمحمود لأروي له ما جرى بالتفصيل. سألني رأيي قبل أن يستعرض موقفه، قلت في الحقيقة أنني أنشد نشاطاً عربياً متميّزاً، أنا لا أرى في ذلك أي نفع ولا أتفق ثقافياً وسياسياً مع المقترح لأن وراءه هدفاً ما، ولنا اعتباراتنا الوطنية والأخلاقية وأنا ملتزم، أما أنت فلك رأيك وعليك أن تقرر.. أصر درويش على رفض المشروع من الأساس إذا ما وجهت الدعوة لعاموس قائلاً: " أنس الموضوع " مضيفاً، هل يعتقدون بأننا مثقفون من الدرجة الثانية لا مرجعية ثقافية وحضارية لنا كي نستنجد بكاتب على مقياسهم، إنك على حق وأنا أتفق معك. نقلت وجهة نظر محمود درويش لدار ثقافات العالم وتم إنهاء أمر الكاتب الاسرائيلي من على منبر النقاش ومضيت على سبيلي في التحضير.

ومن مفارقات الفعالية قبل حصولها، انه اتصل بِي يوماً بعض الأشقاء الفلسطينيين، يطلبون قيام حفل خاص لمحمود قبل الأمسية، وعلمت بأنهم حاولوا الاتصال به لإقناعه ولم يفلحوا. رفضت الفكرة لكنني وعدتهم بطرح الموضوع عليه رغم عدم قناعتي، وتبيّن فيما بعد بأن وراء الاقتراح هدف سياسي أراده طرف فلسطيني. اتصلت فعلا بمحمود درويش ونقلت له دونما أي تعليق وجهة نظر الإخوة، لكنه تساءل لماذا، أليس هم عرباً حتى يريدون أمسية بمذاق آخر؟ عليهم التعاون لإنجاح الفعالية دون اعتبارات خاصة. نقلت للإخوة ما جاء على لسان درويش وتركت الأمر مفتوحاً أمامهم موضحاً عدم قبوله مقترحهم.

مضى على تلك الأمسية وقت طويل، كنت ألتقي بين الفينة والأخرى الشاعر عن طريق الصدفة أو في مناسبات داخل ألمانيا وخارجها، في باريس وعمان والقاهرة وبرلين وفرانكفورت، وكنا كلما التقينا نتحاور ونستذكر الكثير مما يجمعنا حتى تلك الأمسية التي كان يقول عنها دائما بين جمع من الأصدقاء بأنها من أجمل وأروع ما أقيم له. وفي كل مرة نفترق فيها، نبقى على اتفاق بأن يتجدد إحياؤها، لكنني لا زلت أجهل أسباب تعثر هذا الخطب.

في 12 آذار (مارس) 2008 كتبت لمحمود رسالة بعد أن اتفقت مع دار ثقافات العالم ونصير شمه لإقامة أمسية لهما من جديد، أطلب معرفة رأيه قائلاً: لا تزال أمسية برلين 95 يا " أبا شاكر" كما يقول العراقيون لم تنطفئ قناديلها رغم مرور زمن طويل، وبالأمس تحدثت مع مدير دار ثقافات العالم حول أهمية تنظيم أمسية لك خلال هذا العام، وقد رحب بالفكرة وطلب مني مخاطبتك بهذا الشأن لتحدد أنت الوقت المناسب لإقامتها.. ولا أخفي طبيعة هدفي من وراء إقامة مثل هذه الأمسية، التي كنت أريد ألا تقتصر على الشعر، إنما تتجاوز حدود الذاكرة لرصد حالة معاناة شعب كاد يفقد الأمل ، وليس من معين يسلط الضوء على قضيته وما يجري بحقه. السبب الذي جعلني أكتب له مرة أخرى في 20 اذار/مارس، مذكراً بمقترحي قائلاً: حملة واسعة وبأشكال مختلفة، تقوم بها المنظمات الصهيونية وبدعم دولي سيما من قبل الولايات المتحدة وأوروبا، بمناسبة مرور 60 عاماً على تأسيس الدولة العبرية المشؤومة. بالمقابل وللأسف لم نلحظ أي نشاط عربي يدرج على جدوله عمل سياسي أو ثقافي، على مستوى الرسمي أو غير الرسمي على امتداد العالم العربي أو خارجه، يقف، لنصرة الشعب الفلسطيني والدفاع عن حقوقه المغتصبة ومنها حق العودة وتقرير المصير.

هكذا كان أمري بدافع الحرص والمسؤولية، أخاطب شاعراً عربياً بوزن محمود درويش، للقيام بأي نشاط نواجه فيه عجز الأمة ونظامها العربي البائس، مثلما نوجه أنظار الرأي العام العالمي وبالحد الممكن حول حق الشعب الفلسطيني بالحياة والسعادة والأمل. كنت مصراً على تحقيق هذا الهدف سيما وأن محمود كان وعدني بالمشاركة في كل لقاء بيننا، كما أن دار الثقافات قد مهدت الطريق بقبولها تنظيم مثل هذه الفعالية في ظرف كان الكيان الصهيوني يستعد للاحتفال بمناسبة اغتصاب فلسطين. الأمر الذي جعلني متحمساً لتحقيق المشروع في هذه الفترة بالذات، والإصرار على الاتصال بمحمود شخصياً بعد أن راسلته مرتين.. وعلى مدى المرات الثلاث التي تحدثت فيها معه في محل إقامته في رام الله ، أخبرني بأن وضعه الصحي في الوقت الحاضر لا يساعد على السفر، ووعدني خيراً حال أن تتحسن صحته آملاً المجيء خلال الأشهر القريبة القادمة.. لكننا فقدنا شاعرنا الكبير على حين غره في ظرف نحن بحاجة إلى من أمثاله، وغاب عنا في الظهيرة أم بعد العشاء؟ لا أدري... شَوَساً كالفينق حلق، دون أن يهزم الموت بالخلود، فيما بقي موعدنا عالقاً حيث أن الموت لم ينتظر.

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com