|
قلوب الشعراء...!
د-مراد الصوادقي لماذا يصاب الشعراء في قلوبهم؟ تساءل ذات مرة أحد الشعراء الراحلين الذي أصيب في قلبه. واليوم نودع شاعرا توقف قلبه بعد أن نالت منه مشارط الجراحين لأكثر من مرة , لكي تفتح شرايينه التاجية التي أصابها الانسداد أو الضيق. وكلما تساءلت عن علاقة القلب بالشعر , أقف حائرا أمام نبض القلب وإيقاع الكلمات الشعرية . إذ يظهر أن هناك ترابط فسيولوجي متناغم ما بين نبضات قلوب الشعراء وما يكتبونه من شعر, وكأن حقيقة الإيقاع الشعري كامنة في نبض القلب. وكلما تأملت تخطيط القلب أو نظرت إلى الشاشة التي تسجل إيقاع قلوب البشر في غرف العناية المركزة والإنعاش , أرى هذا التواصل ما بين إيقاع الكلمة وتخطيط نبض القلب المنتظم , والذي يؤدي إلى الوفاة إذا أصابه اضطراب شديد. أيها الشعر لماذا قد قتلت الشعراء
وكأن الشعراء يكتبون قصائدهم وفقا لإيقاع قلوبهم , أو أن ما يكتبونه يحدد نوع الإيقاع القلبي. وقد اكتشف العرب البحر الشعري الذي يكون منتظما وواضحا مثل نبض القلب السليم , ولهذا فأن كتاب القصيدة العمودية قد لا يصابون في قلوبهم مثلما يصاب الشعراء الذين يكتبون بإيقاعات أخرى. لأن ذلك قد يؤثر على انتظام ضربات قلوبهم , وربما يضر بفسلجة وبايوكيميائية التفاعل ما بين العضلة القلبية والشرايين التي تغذيها بالدماء. بلسمٌ فيها البحور وانتظامٌ وسرور ولا نتمكن من الجزم لقلة الأبحاث , لكن التجربة مع العديد من الأصدقاء الشعراء , أن بعضهم كان يصاب باضطراب في ضربات قلبه وينخفض ضغط دمه وهو يقول أريد أن أكتب قصيدتي , وكأن الحالة النفسية التي تسبق كتابة القصيدة , عبارة عن أزمة انفعالية مرتبطة بالقلب. وكما هو معروف حديثا فأن الانفعال النفسي والقلق والكآبة تؤثران تأثيرا مباشرا على القلب وتصيبانه بأضرار كبيرة. وهناك أبحاث تشير إلى أن المصابين بالأزمات القلبية يموتون عاجلا إذا أصيبوا بالكآبة , وأن الكآبة عامل مهم في تعجيل وفاتهم. كما أن التوتر الانفعالي له تأثيراته الشديدة على العضلة القلبية. يا حزين القلب هيا لابتهاج الندماء واجعل الشعر دواءا لنفوس البؤساء وهكذا يبدو أن الحالة الانفعالية للشعراء قبل وأثناء كتابة القصيدة تؤثر على أفئدتهم وتصيبها بالأضرار التي تؤدي إلى وفاتهم مبكرا. كما أن هذه الحالة تتسبب في اضطراب ضربات القلب والإصابة بالخفقان وقد يكون الاضطراب أذينيا أو بطينيا فيحصل الموت المفاجئ. وعليه فأن من الممكن القول بأن هناك علاقة واضحة ما بين كتابة الشعر ومرض القلب , وهذه العلاقة تتناسب ودرجة الحالة الانفعالية التي يمر بها الشاعر عندما يكتب قصيدته. ويبدو أن الشاعر الذي يكتب القصيدة العمودية يعيش أطول من الشاعر الذي يكتب القصيدة الحديثة , لأن الدخول في إيقاعات متنوعة قد يؤذي القلب ويتسبب في اضطرابه وخلخلة تفاعلاته الكهربائية واختلاج عضلاته من شدة النوبات الانفعالية ذات الإيقاعات الغير منتظمة. ولهذا فأن شعراء القصائد الأخرى أكثرهم يموت مبكرا إلا فيما ندر. فلم نجد أحدا من أصحاب القصائد الحديثة قد عمّر مثلما عمّر شعراء القصائد العمودية , فالجواهري مثلا قد تجاوز التسعين. في عمود الشعر يحيا صوت فردٍ كالضياء ولهذا ترانا نودع الشعراء بين الحين والآخر , وندخلهم غرف الإنعاش , أو يباغتنا موتهم المفاجئ , وقد لا ينطبق هذا على الشعراء لوحدهم , بل يضم صنوف الإبداع الأخرى. لكن ظاهرة إصابة الشعراء في قلوبهم وعقولهم هي الأكثر وضوحا وانتشارا , خصوصا عندما تكون الكتابة بأساليب بعيدة عن الإيقاع المتعارف عليه على مدى القرون. فالقصيدة العمودية ربما تحتاج إلى طاقة انفعالية أقل من قصيدة التفعيلة أو النثر , التي تكون بحاجة إلى أقصى درجات الانفعال لكي تطبخ الكلمات بصياغات شعرية مؤثرة. وقد يستغرب البعض إذا قلنا بأن مَن يكتب جميع أنواع الشعر يدرك بأن القصيدة النثرية تحتاج إلى طاقة عقلية وانفعالية أكبر من القصيدة التفعيلة أو القصيدة العمودية . يصبح النثر كشعرٍ بأجيج الانتهاء ولا توجد أبحاث أو إحصاءات لإثبات ذلك لكنها ملاحظات جديرة بالبحث والتدقيق. فمما لا شك فيه أن التفاعل ما بين الأفئدة الإنسانية وكتابة الشعر يكون مؤثرا وقويا لدرجة أن بعض الشعراء يكتبون بقلوبهم ويزحفون إلى نهايتهم عاجلا. وكثيرة هي القصص في تراثنا الثقافي عن الذين ماتوا بعد أن قالوا شعرا كثيف المشاعر أو عبروا بقوة عن حالة انفعالية وعاطفية معينة ترتبط بالحبيب. وكثيرون هم الذين أصابهم الجنون والاكتئاب أيضا , بسبب الشعر , لأن الكتابة الشعرية تؤثر في العقل كما تؤثر في القلب , ومن يتأمل رسم تخطيط الدماغ يرى بوضوح التناغم ما بين نبضات الأدمغة والقلوب. ولهذا فأن الشعراء قد يصابون بعقولهم مثلما يصابون في قلوبهم , وفي الحالتين فأنهم ينزفون مشاعرهم كلمات على السطور. وأعظم الكلمات هي التي تقتل صاحبها مبكرا لكي تبقى. في قلوب الشعراء كل أسباب العناء نبضها نغم قصيدٍ من تباريح الرجاء فانظروا كيف استجارت بجراحات الفناء
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |