حذار من عودة "الخَتّانْ التَشكيلي"!!؟

 

محمود حمد

mehmood.hamd@gmail.com

بعد الانتفاضة عام 1991 وطغيان طوفان التخريب والحرائق..وسعيا من النظام الدكتاتوري لاختبار وإعادة سطوته على العراقيين ..فردا ..فردا..أطلق حملته لاستبدال هويات الأحوال المدنية ..وربط ذلك الإجراء بالبطاقة التموينية..وكنا ضمن طوابير ملايين العراقيين المصطفين في الشوارع المحيطة بإدارات الأحوال المدنية بعد أن ضاقت تلك المباني وساحاتها بالمراجعين والوسطاء والمرتشين..

وبعد أيام من التدافع..

خرجنا ..ولدي الصغير "علي" وأنا مُنْهكين إلى محطة الباص الفولاذية المتأججة ..

وجدنا تلك العلبة المعدنية المتوهجة عند الظهيرة..من فرط إعيائنا..واحة للاسترخاء بعد الخلاص من مفاجآت البحث الامني في السجلات..

كان "عليٌ" يتأبط كيس الجنفاص الذي إخْتَزَنّا فيه كل ما يثبت عراقيتنا..وأضفنا إليها بطاقات الأحوال المدنية الجديدة ..(المحفوظة في الآلة الحاسبة ..كما توعدنا الموظف الأجلح.. قبل أن يَبصقها بوجوهنا!)

لَكَزَني "عليٌ" بِكوعه الصغيرة.. متسائلا ببراءة طفولية ..

بابا ..شنو يعني خَتّان تشكيلي !؟

أجبته هامساً بِحياء..

عيب بابا هذا الكلام!

لابابا..هذا مكتوب تحت صورتك!..المهنة :خَتّان تشكيلي..

اختطفت الهوية من يديه..

المهنة:خَتّان تشكيلي!

عدنا راكضين أنا و"عليٌ" وكيس الجنفاص إلى الموظف الأجلح..

أخي هناك خطأ في المهنة..

قدم طلب للإدارة العامة لتغيير المهنة..

أجابني دون أن يلتفت إليّ..

أخي..

وقاطعني بحدة..

قدم طلب تغيير مهنة ..وبدون إلحاح..

أخي ..أرجوك اقرأ ما هو مكتوب..!

قرأ توصيف المهنة بصوت مسرحي ساخر..متسائلا باستغراب:

أين الخطأ؟..

قلت له..الصحيح فنان تشكيلي ..

ومالفرق؟!

 رد علي باندهاش..

ثم رمى البطاقة بوجهي..امسكني موظف آخر كان يجول بين الزحام..

أخي لا تتعب نفسك ..اذهب إلى فرع المأمون وقدم طلب تغيير مهنة..

أجبته بِحَيرة :

سيضحك علينا الناس إن تقدمنا بمثل هذا الطلب..الأمر ببساطة خطأ في حرف بخط يد الموظف المعني..

تعاطف معنا الرجل..

وعاد إلى الموظف الأجلح وهمس في أذنه مترجيا..

انتفض الرجل زاعقا كالملسوع:

كل يوم نحيل مئات الناس إلى الإدارة العامة لتغيير المسمى الوظيفي ..ما هو الجديد والغريب في قضية الأفندي؟!

اقتربت منه نافذ الصبر..وبكلمات حادة:

هل تعرف ما معنى خَتّان؟

أجاب بثقة ..نعم..

وهل تعرف معنى فنان؟

صرخ بوجهي ..

أنت جاي تلقي محاضرة عَليَّ..

وواصلت..

أتعرف الفرق بينهما؟

زمجر بوجهي صارخا:

نفس الشيء!

وخرجت..

****

في البيت تقاطر علينا الأصدقاء ومنهم الصديق أبو ثائر..

طمأنني بان احد أقاربه يعمل في الإدارة العامة للجنسية وسييسر لنا الأمر..

في اليوم التالي ذهبنا لذلك الرجل الوقور..الذي احتفى بنا ..ورافقنا إلى مسؤول يتقدمه بضع مراتب في الوظيفة.

شرح له الموضوع..قاطعه الرجل بجفاف:

الموضوع لا يحتاج للشرح..قدم طلب تغيير مهنة ..وانتهى الأمر..

قلت له موضحا..ومتسائلا:

هل سمعت بوظيفة خَتّان تشكيلي؟!

أعاد علي نفس سؤال صاحبه الأجلح..

وما هو الصحيح؟

فنان تشكيلي..أجبته بمرارة..

لكن الرجل انفجر ضاحكا بسخرية ومعه جوقة مدججة بالسلاح والشوارب الكثة ومعبئة بأكياس زيتونية غامقة..وهو يتمتم..

خَتّان تشكيلي..فَنان تشكلي ..كُله تشكيلي !

في تلك الآونة وأنا افترش الأرض الترابية تحت الشجرة المنعزلة في فناء إدارة الجنسية بالمأمون لأيام عسيرة..تذكرت حديث فنان الشعب رشاد حاتم ..في آخر لقاء له وهو يستذكر بعض الحوارات التي كانت تجري في سجون العهد الملكي..

قال لي الرفيق فهد مصححا قولي "إني فَنان" ..

قل:

فُنّان..ولا تقل ..فَنان!..

لأن "فَنان" بفتح الفاء تعني الحمار الوحشي ..

أما "فُنّان" بضم الفاء وتشديد النون فتعني :الحِرَفي المُتقِن لحِرفته والمبتكر فيها..

فأجابه المرحوم رشاد حاتم:

ألف حمار وحشي ولا فُنّان واحد..رفيق هذي "الفُنّان" تقطع النفس من واحد يقولها..ثم منو الليّ يفَرْزِن بين الحمار الوحشي ..والحِرَفي المُبتكر!؟

قلت مع نفسي :

لو يدري فناننا الزاهد رشاد حاتم ومعلمه فهد.. إن فتح الفاء قد جعلني خَتّاناً ..فماذا سأكون لو ضَمَمْتَها وشَدَّدت النون؟!

****

بعد نشر مقالي ( من هم المرشحون لمجلس المحافظات ؟!) بيوم واحد اتصل بي الصديق العزيز "أبو ثائر" من بغداد..يسألني:

هل تتذكر صاحبنا الأجلح ..مدبج الـ"خَتّان التشكيلي"ّ؟

فأجبته:

كيف أنساه!

قال:

لقد خلع البذلة الزيتونية ولبس لحية وحفر خندقا في جبهته ..بعد الغزو مباشرة..وهو اليوم عضوا في المجلس المحلي في (.......)

صدمت..أول وهلة..وتداركت جزعي..قائلاً:

لم يتبق سوى أشهر معدودة وسَتُطَهر تلك المجالس من الأدران..

قهقه أبو ثائر وبلغته الساخرة :

لقد أتقن ارتداء كل الأزياء ..وأحسن كل أنواع تسريحات اللحى خلال هذه السنوات الخمس..واصطفى لنفسه هيئة يرضى عنها أولي الأمر..و تخطئها صناديق الاقتراع !

حينها صرخت:

حذار من عودة الخَتّان التشكيلي..

فقد ختن أعماركم بالحروب والمقابر الجماعية قبل السقوط..

وختن أموالكم وأحلامكم بالمواعظ بعد الغزو..

وسيختن(وجودكم) في الجولة القادمة..ويقطع نسل العراقيين..

فحذار من عودة الخَتّان التشكيلي..

اللهم اشهد إني قد بلغت!!!

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com