|
حصاد العمر (8) .. لمحات من سيرة
المناضل عبد الجبار علي (أبو هادي)
محمد علي محيي الدين وكان بعض السجناء رافضين للخط الذي انتهجته قيادة الحزب في فرض خط آب التصفوي ألتحريفي ويتطلع الكثيرون منهم لعمل حاسم يعيد الأمور الى نصابها،ويعيد الألق الشيوعي الناصع بعمل ثوري لتغيير الرتابة المملة التي عليها العمل الحزبي الكلاسيكي ،وقد ألهب حماسنا ما وصل ألينا من أخبار لرفاقنا في دول العالم المختلفة وانتهاجهم لطريق الكفاح الثوري في نضالهم والابتعاد عن الأطر التقليدية التي عليها القيادة الحالية،لذلك كانت نفوس السجناء مهيأة لعمل ثوري بطولي يمكن له أحداث التغيير المطلوب لفشل الآليات السلمية في تحقيق الأماني والآمال التي نتطلع إليها،وكان ألأكثرية بانتظار بارقة أمل لانتهاج الطريق الآخر في النضال،وهناك حث الانشقاق الكبير في الحزب،وعندما قام عزيز الحاج بالخروج على القادة الكلاسيكية،وتكوين القيادة المركزية التي اتخذت من الكفاح المسلح طريقا في النضال،وأصبح السجناء مجموعتين،المجموعة الأولى جماعة اللجنة المركزية،وجماعة القيادة المركزية التي يتزعمها عزيز الحاج،وقد آلمنا هذا الانشقاق،وبعد يومين من التفكير العميق قررت أن أكون مع الجانب الثوري الرافض لخط آب وسياسته المهادنة،وكنت ميالا منذ شبابي الى العمل الثوري المسلح ،وحينها أطلعت على حركة داخل السجن من قبل الرفيق حسين ياسين من أهالي الناصرية،وكان يحدثني عن نشاطاته أثناء إخفائه بعد انقلاب شباط الأسود/1963،وكيف كانوا يقاومون عناصر السلطة وحرسها القومي ببنادق الصيد،وما توفر لهم من أسلحة بسيطة،ولم يقيض لحركتهم تلك النجاح لضعف الإمكانيات وجبروت السلطة الحاكمة فالقي القبض عليهم وأودعوا المعتقلات. وكان يحدثني عن الأهوار وإمكانيات العمل المسلح فيها،فكان تفكيري في تلك الفترة ينصب حول كيفية الوصول الى الأهوار وممارسة العمل الثوري هناك،وأطلعني على أسرار منها أن هناك نفق يعمل رفاقنا على انجازه لغرض الهروب من السجن ،وطلب مني المساعدة في ذلك،على اعتبار أن عائلتي تسكن الحلة،ومتأكدون من أمانتها وإخلاصها واندفاعها للعمل بما يتطلبه الموقف وما يسهم في خدمة الحزب،استجبت للمشروع فورا،وسألني بوصفي من أهالي المدينة عن المكان الذي يكون خلف سياج السجن،فطلبت من الأخ حسن أن يقوم بالمهمة،فأخبرني بوجود الكراج وأن هناك عربة عاطلة مركونة بجانب السياج ،وهذه السيارة غير قابلة للنقل أو التصليح. وكانت مساهمتي في عملية النفق بالضبط كما يأتي:وهي جلب عربة من تراب ندخلها الى السجن لنقوم بملج سطح كابينات الألمنيوم الموجودة في السجن كنا نستعملها،وكان هذا عذرنا لجلب التراب،وفعلا حصلت الموافقة بعد أن قدمت اللجنة طلبا لإدارة السجن بالحاجة الى التراب ،وأدخل التراب الى السجن ووضع بالقرب من شباك غرفة قريبة من غرفة النفق،وكان تراب النفق يمزج مع هذا التراب لاستغلاله في العمل المطلوب،وكانت العملية مستمرة،وقد أخبرني الرفيق حسين ياسين بأنهم عثروا على مخزن(سبتتنك) داخل النفق استفادوا منه في التخلص من التراب الزائد،وأن القائمين بالحفر قاموا بخياطة البطانيات القديمة على هيئة أكياس لوضع التراب الزائد ورصفه،وأنهم عملوا تغليف داخلي للنفق وأوصلوا له الإنارة ،وذات يوم طلب مني حسين ياسين الصعود الى السطح لقياس المسافة المتبقية ومعرفة أين يؤدي النفق،فوجدت أن مسير النفق الحالي يؤدي الى ساحة متروكة تشرف على بيوت الأهليين ويتطلب الأمر الانحراف قليلا،وحددت له مسير النفق ودرجة الانحراف،وفعلا بعد حرف مسير الحفر كان خروجنا من تحت السيارة المتروكة. وقد طلب مني الرفيق حسين ياسين تكليف أخي بتوفير سيارة لنا عند الهروب تقوم بنقلنا الى خارج المدينة،فكلفت أخي حسن أن يوفر لنا سيارات عند خروجنا من السجن،فقال لي أنه لا يمتلك المبلغ الكافي لتأجير السيارات،فأخبرت الرفيق حسين بذلك فزودني بمبلغ قدره(32)دينار سلمتها لأخي لهذا الغرض. وكانت هناك مراقبة علينا من الجناح الثاني للحزب التابع للجنة المركزية ويقوده الفقيد حسين سلطان،وقد عرفوا بأننا لا زلنا نواظب على حفر النفق لذلك حدث الاستعجال في الهروب،وعندما أحس الجناح الثاني طلبوا منا الهروب معنا،ووافقنا على ذلك،وقد كلفنا بعض الرفاق للمراقبة وتنفيذ عملية الهروب حتى لا ينكشف الهروب للإدارة ،وبدء الرفاق بالدخول الى النفق والخروج من فتحة الكراج،وكنت قد هيأت أغراضي للهروب وعندما اتجهت الى الفتحة حدث ازدحام على فتحة الدخول،وكان هناك تسابق للخروج حتى من بين الذين لم يشاركوا بالعملية،وعلموا بها في ذلك الوقت،وعندما أردت الدخول من الفتحة لم أتمكن بسبب الازدحام الشديد،,كان هناك بعض الأخوة الأكراد قد سبقوني للدخول ثم تمكنت من تكوين فرجة مناسبة والانسلال الى داخل النفق،وأخذت بالزحف حتى وصلت الى الفتحة الكائنة في الكراج فوجدت الكثير من الرفاق قد سبقوني بالخروج وقد اختبئوا خلف السيارات،ويخرجون فرادي وأزواج وشاهدت حارس الكراج المسكين واقفا كالمذهول وهو يردد كلمات مبهمة متعجبا من هؤلاء الخارجين في هذا الوقت المتأخر دون أن تكون هناك سيارة في الكراج،فاندفعت الى الشارع العام الذي فيه المستشفى،وسرت سيرا سريعا فشاهدني أحد العسكريين،وسألني الى أين ذاهب وطلب مني الوقوف فأسرعت في مشيتي،وزدت من سرعتي،ودخلت في السوق المجاور للمستشفى،وكان ذلك الشخص يعدو ورائي،وعندما وصلت الى أحد الأزقة المتفرعة عن السوق هاجمته وأسقطته أرضا وواصلت العدو في ذلك الزقاق،فوجدت بابا مفتوحا لأحد الدور فدخلته دون أن أعرف أن كان فارغا أو مأهولا،او لمن تكون،فوجدت سلما صعدت عليه الى السطح،ومنه عبرت الى السطح المجاور،وحاولت العبور منه الى البيت المجاور لكني فوجئت بأن البيت يطل من الجانبين على زقاق ضيق،ولا أستطيع القفز من الجهة الثالثة لأن سطح البيت الذي أنا فيهدون مستوى السطح الآخر،،فنعذر علي العبور،وكانت المرأة التي رأتني داخلا الى البيت قد أخذت تصرخ(حرامي ..حرامي)وهنا صعدت الرجال والنساء لإلقاء القبض على ألحرامي،فانسدت الطرق في وجهي،وشاهدت بناية صغيرة(مرافق) صعدت فوقها فوجدت بعض الأكياس الفارغة متروكة هناك،فاختفيت تحتها بحيث لم يظهر من جسمي أي شيء ،وإذا بالمرأة ومن معها يبحثون عني في السطح دون أن يرون مخبئي،وكانت هناك امرأة عجوز تقول لصويحباتها(ولجن عطل بطل وين أكو حرامي خاف سحرتي يا فلانة) أي أين هو ألحرامي أخشى أن تكوني قد عملت سحرا لينجح بهذه الطريقة،وفعلا عندما لم يجدوا أحدا نزلوا من السطح وذهب كل الى مكانه،،ولكن المرأة عاودت الصعود باحثة منقبة،,أخذت تنظر للسطوح المجاورة،وكنت أراها وأنا مختبئ في مكاني،وبعد أن يئست نزلت الى دارها وهي تتعوذ،وعندما رايتها نازلة انتظرت قليلا ثم نظرت الى الجوانب الأربعة باحثا عن الطريق الأسلم للنزول الى أحد الدور،فوجدت أن هناك أمكانية للنزول في دار لم اسمع فيها حركة أو صوتا مما يعني أنها خالية من السكان أو أن أهلها في سفر،وفعلا تمكنت من النزول بعد أن اتخذت من الفراغات التي بين الطابوق سلما للنزول،ونزلت بشكل بطيء وحذر معتمدا على قوة أصابعي في التثبت من المكان الذي أضع رجلي عليه،وتمكنت من الوصول الى باحة الدار،وقد أخذ مني العطش مأخذه بسبب الركض والخوف،فوجدت حب ماء مربوط الى نخلة وسط الدار،فهرعت نحوه وملأت جوفي بالماء واستعدت أنفاسي ثم نظرت حولي فوجدت الدار خالية ليس فيها غير الدجاج الموجود في ألقن، ثم أشعلت جداحتي وتوجهت الى أحد الغرف غير المغلقة فوجدت فيها أواني فخارية مختلفة الأحجام والأشكال فعرفت أني وسط مخزن لأحد باعة الفخار،وتوجهت الى الغرفة الثانية فوجدت فيها ماكينة صنع الجرار،ودخلت الى الغرفة الكبيرة فوجدت فيها فتحة كبيرة في شباك مغلق تتصل بالسقف وهو ما يسمى بالبادكير كان يستعمل في البيوت القديمة لجلب الهواء البارد من الأعلى ويبني بطريقة تجعل الهواء ينساب منه الى داخل الغرفة حيث توضع في فتحته العليا كمية من الحلفة أو أوراق الشجر وتبلل بالماء ليتسرب منها الهواء البارد،فاختبأت في تلك الغرفة حتى صباح اليوم التالي حيث جاءت امرأة طاعنة بالسن وجلبت الطعام للدجاج،وبعد أن وضعته في الأواني الخاصة بالدجاج خرجت من الدار وأقفلت الباب من الخارج،فبقيت مختبئا في مكاني حتى تأكدت من خروجها ،خرجت بعد ذلك لمشاركة الدجاج في طعامه الذي كان خبز يابس وقد نقع بالماء وبعض الخضرة الزائدة عن طعام العائلة ثم شربت من ماء الحب،وبقيت في الدار حتى المساء وقد عثرت على بيضة في ألقن فتناولتها نيئة،وبت ليلتي تلك في الدار وفي صباح اليوم التالي جاءت المرأة على عادتها وأطعمت الدجاج الذي كان جائعا لمشاركتي معه في طعامه وبعد خروجها انسللت إلى قن الدجاج لمشاركته طعامه وتناولت الماء من الحب،وعند العصر كانت مئونتي من السكائر قد نفذت وكل شيء يمكن الصبر عنه إلا السكائر،فكرت بالخروج من الدار ولكن كيف فالباب لا يمكن كسره لأنه من الخشب السميك ومقفل من الخارج،والجدران لا يمكن ارتقائها لأنها عالية ولا توجد أماكن يمكن التسلق منها،،وقررت أن أنتظر مجيء المرأة مساءا لعلي أستطيع أقناعها بمساعدتي،وفعلا جاءت المرأة لإطعام الدجاج وبدأت بتقديم الطعام له،فخرجت من مخبئي ووقفت قرب باب الغرفة وناديتها عدة مرات (أختي ..أختي)وعندما التفتت ووجدتني واقفا تفاجأت فخرجت مسرعة وأقفلت الباب ورائها وهي خائفة مرعوبة،عند ذلك أسقط في يدي ورأيت الدنيا أسودت في عيني فقد ذهب تعبي هباء وسوف يلقى القبض علي بعد أن تخبر أهلها بوجودي،لعدم وجود أمكانية لخروجي وخلاصي من هذا المأزق،ولكن بعد قليل دخل الدار شاب دون الثامنة عشرة طويل القامة تلوح على وجهه مخائل النجابة وهو باسم الثغر،وقال لي لا تخف أنت في أمان،ثم جاء بعد قليل رجل قد تجاوز الخمسين سنة بقليل يرتدي حزاما أخضر مما يدل على أنه من ذرية الرسول الكريم،فتقدمت مسلما عليه وأخبرته أني جندي هارب وقد طاردني الانضباط العسكري ودخلت من أحد الدور ثم تسلقت ونزلت في هذه الدار منذ ثلاثة أيام،ولم أتمكن من الخروج بسبب ارتفاع الجدار،وأن الأمر له في تسليمي الى الشرطة أو السماح لي بالخروج ،واني من أهالي الحلة ومن قرية برنون،ويبدو أن الرجل عرف أني من الهاربين من سجن الحلة،وأني سياسي بدليل أنه طمأنني وقال لي لا تخشى شيئا سواء كنت هاربا من الجيش أو غيره،وسأخرجك وأرشدك الى الطريق الذي يوصلك الى ما تريد،عندها أخبرته بالحقيقة،فطلب من أبنه مراقبة الطريق وخلوه من المارة،وعندما عاد ,اخبره بعدم وجود ما يريب،فتح لي الباب ودلني على الطريق الذي علي أن أسلكه،ويوصلني الى ما يسمى الآن شارع الأمام علي،وتتفرع عنه أزقة بالإمكان النفاذ منها الى خارج المدينة.
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |