أهل الكوفة والاتفاقية الأمنية

 

د. حامد العطية

 hsatiyyah@hotmail.com

مسئولية الحاكم الأموي معاوية بن أبي سفيان عن ظاهرة "أهل الكوفة" أشبه بمسئولية الأفعى أو الشيطان عن إغواء آدم وزوجه، لذا عاقبهما الله بالطرد من الجنة لأن الفعل من صنعهما ولو كان التحريض من إبليس، وبينما خدع الشيطان الإنسانين الأولين بالخلود لو أكلا من ثمار الشجرة، وعد معاوية بن أبي سفيان أهل الكوفة بالحظوة لديه، وما شعرة معاوية التي يضربون بها المثل سوى كيس من الدراهم، وبحفنة منها  أخرج لنا ظاهرة "أهل الكوفة"، والتي هي نتاج انحراف وضعف كامن في النفوس، فقد استعمل معاوية بن أبي سفيان البرطيل في استمالة الكثيرين من أتباع الأمام علي عليه السلام، وبالأخص رؤساء القبائل وسادة الناس، وقد استفاد ورثته والسائرون على نهجه من تجربته، وكرروها بنجاح فائق في مواجهة الإمام الحسين عليه السلام، إذ بالمال والوعد والوعيد أيضاً اشترى الأمويون ولاء أهل الكوفة الذين خذلوا سبط الرسول ونصروا اللعين يزيد بن معاوية، وكان الإمام زيد بن علي الضحية التالية لخيانتهم، حتى أصبح إطلاق تسمية أهل الكوفة على جماعة أو فرد أسوء مسبة بين الشيعة.

من الخطأ الافتراض بأن "أهل الكوفة" ظاهرة تاريخية، طفت على السطح بفعل ظروف سياسية واقتصادية محددة، ثم اختفت مع تغير الحكام والمجتمع، بل الصحيح هو أن لذلك النمط المستهجن من الدوافع والإتجاهات الفكرية والسلوكيات جذور ثقافية واجتماعية ونفسية، ومادامت هذه الجذور القيمية باقية ومؤثرة في السلوك، فسيتكرر نفس السلوك استجابة للحوافز المناسبة، وقد يكون مجرد التلويح بهذه المحفزات كافياً، مع التأكيد على الفروق الفردية وبأن للفرد القدرة على الاختيار ومفارقة الجماعة.

في اعتقادي تكمن جذور ظاهرة أهل الكوفة في الأعراف القبلية، وكان الولاء للقبيلة ولا يزال المنافس الأقوى لنشوء وديمومة الأمة الإسلامية، فالقبيلة العربية بأعرافها وتقاليدها ونظامها السلطوي ليست مجرد تنظيم اجتماعي بل هي نظام شمولي متكامل من الشرائع وقواعد تداول السلطة والعلاقات الاقتصادية، وتزيد مجالات التناقض بين النظام القبلي والنظام الإسلامي في عددها وأهميتها نقاط التلاقي القليلة، وعندما دعا الإسلام القبائل العربية إلى نبذ عصبيتها النتنة واستبدال أعرافها الفاسدة بالشريعة السمحاء كانت استجابتها متباينة، ويعد ارتداد معظمها عن الإسلام إنتصاراً للقبلية، ولولا الفتوحات الإسلامية وما وفرته من حوافز مادية لما بقي على الإسلام سوى المؤمنون حقاً، وأهل الكوفة أقرب للمرتدين والمنافقين منه للمؤمنين، ويزداد استعدادنا للتصرف على شاكلتهم مع قوة تجذر القبلية في نفوسنا.

يروى عن المسيح عيسى بن مريم عليه السلام قوله: ما جدوى أن يربح الفرد الدنيا ويخسر نفسه، وفيما كان الإمام علي عليه السلام يصر على طلب الحق بالوسائل المشروعة كان الوالي العاصي والباغي معاوية بن أبي سفيان يدلي بالرشى لسادة أهل الكوفة لشراء ولائهم، وهذا الحقائق التاريخية كافية لكي نقتنع بجدارة الإمام علي بإمامة المسلمين ولاستمطار اللعنات الأبدية على أهل الكوفة الذين تظاهروا بالولاء له لكنهم خالفوا منهجه.

توجد شواهد عدة على استمرار ظاهرة أهل الكوفة حتى يومنا هذا، فبالأمس غير البعيد لم يتحرك شيعة العراق لمنع النظام الطاغوتي البعثي من إعدام أعظم شيعة العراق في القرن العشرين قاطبة،الإمام محمد باقر الصدر، وكان احتجاجهم على إعدامه فاتراً ومحدوداُ، ولا يتناسب مع عظيم الخسارة والفجيعة، وكذلك الأمر عندما اغتال النظام المرجع الفذ محمد صادق الصدر، وانصاع مئات الآلاف من الشيعة لأوامر الطاغية صدام المخالفة للأمر الرباني، فشاركوا في قتل مئات الآلاف من شركائهم في المذهب من الإيرانيين، وهم بذلك أطاعوا أتفه الخلق في معصية الخالق، وكلما هلك أحدهم سارع أهله لتحصيل الجائزة الدنيوية التي وعدهم بها شيطان العراق، وكثيراً ما سمعنا باحتدام الخلاف بين أهل القتيل حول تقسيم الثمن التافه لروح فقيدهم، كما انضم ملايين الشيعة لحزب البعث المجاهر بعداءه للشيعة، ولم يقاوم النظام سوى ثلة من الناس العاديين وقليل من رجال الدين من الشيعة، ولايزال الكثير من القتلة والجلادين يعيشون بيننا، ونجح البعض منهم في الاحتفاظ بوظائفهم المدنية والعسكرية بفضل العفو والمصالحة والصلات القبلية.

من الواضح بأن هنالك من يعتقد بأن ولاء شيعة العراق بضاعة معروضة للبيع أو التأجير، ولعلهم توصلوا لهذا الافتراض على أساس نظرة ضيقة للوقائع التاريخية، واعتقاداً بمقولة ابن خلدون بأن التاريخ يعيد نفسه، وهي مقولة لا تنطبق إلا على الأمم والشعوب التي تدور حول نفسها ولا تستطيع فكاكاً من إرثها الطاغي، على الرغم من نواقصه وعيوبه، ولا أستبعد تلوث نفوس حكام العراق الحاليين بترسبات الفكر والسلوك المنحرفة لـ"أهل الكوفة"، فهم في تلويحهم بالمناصب والوظائف والأموال مقابل الولاء يعلنون انحيازهم الواضح لسياسة معاوية ونبذهم لقيم وأخلاق الإمام علي السامية، ولا أدري كيف يجرأ الواحد منهم بعد ذلك على الادعاء بأنه من أتباع الإمام ونهجه الرباني ومعادي لمعاوية وخطه الدنيوي البحت.

من الطبيعي أن يستعمل الاحتلال الأمريكي البرطيل لشراء ولاء رؤساء العشائر ومجموعات الصحوة لأن الأمريكان ماديون، ولا يخفون اعتقادهم بأن لكل إنسان ثمن، ولكن عندما يعرض رئيس الوزراء المالكي مكافأة مالية لمعارضي الاحتلال الأمريكي والحكومة من الشيعة مقابل التخلي عن مواقفهم يفارق المنهج الشيعي الأصيل مطبقاً العقيدة الأموية التي تؤكد على الدوافع المادية وراء كل سلوك، ويؤكد اعتقاده بديمومة ظاهرة أهل الكوفة وتأصلها في نفوسنا نحن شيعة العراق، فهل كان هو وأنصاره وأتباعه وحلفاؤه في المجلس الأعلى مستعدون لبيع مبادئهم والتخلي عن معارضتهم للنظام الطاغوتي البائد مقابل الثمن المناسب؟ أم إنهم ينزهون أنفسهم فقط عن ذلك واضعين أنفسهم فوق عامة الناس؟ وهل هم يوشكون على التفريط باستقلال وسيادة وطنهم باستعدادهم لتوقيع معاهدة تشرع لأمريكا استمرار هيمنتها على العراق مقابل ثمن بخس، هو احتفاظهم بمناصبهم ولو إلى حين؟ أقولها الآن: إن كل من سيوقع على الاتفاقية الأمنية أو أي بديل لها مع أمريكا هو بالضرورة من أهل الكوفة ومعادي للمنهج الشيعي الأصيل ومستحق لكل اللعنات التي وجهت لأهل الكوفة التاريخيين.

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com