|
حصاد العمر (10) .. لمحات من سيرة
المناضل عبد الجبار علي (أبو هادي)
محمد علي محيي الدين تركت هؤلاء وسرت في طريقي حتى وصلت الى بيوت متفرقة استضافوني عندهم وعلمت بعد ذلك أن زميلي الهارب عقيل حبش قد التجأ إليهم وخبئوه عندهم ولم يخبروني بوجوده خشية أن أكون من عيون السلطة التي تبحث عن الهاربين،وسلكت طريقي محاولا الوصول الى منطقة تؤويني وقد وصلت الى منطقة وجدت فيها مجموعة من الصيادين سلمت عليهم وأخبرتهم بقصة أبني الهارب،وأني أبحث عن قبيلة شمر وفعلا أرشدوني الى مكان في الجانب الآخر من الحفار يسكنه بدو من قبيلة شمر،فسرت بذلك الاتجاه والتقيت بأحد البدو سائرا في ذات الطريق فرافقته وسألني هل أنت سيد فقلت له كلا فعبس في وجهي لأنه كان يرجوا أن يرافقه أحد السادة في الطريق التماسا للبركة،سرت معه وأنا أساعده بدفع الإبل عندما تنزلق بسبب الوحل،ووصلنا الى كوخ في الشارع العام كان فيه رجل أعمى كان شرطيا وسكن هذا المكان، نمنا في ذلك الكوخ أنا والبدوي وفي الصباح رافقت البدوي فتجاوزنا الشارع العام وتوغلنا في البر حتى وصلنا الى مضاربهم وجلست هناك وقدموا لي الطعام،وكانت المنطقة لعشائر الأقرع،سلمت على صاحبي وتركته متوجها إلى غيره فوجدت شابا سلمت عليه،وكان الليل قد بدء يرخي سدوله وقلت له أنا ضيفك الليلة فقال أهلا بالضيف توجهت معه الى منزله ودخلنا إليه،وكان في المنزل رجل وابنتيه،وكنا لا نسأل عن أسم الشخص أو أصله وفصله بل يكون مرورنا عابرا دون سوآل أو جواب خشية عليه إذا القي القبض علينا فنضطر للاعتراف عليه،بت ليلتي هناك وفي الصباح أعدوا لي فطورا من البيض والخبز وشربت الشاي وأعطوني كمية من التبغ،وسألتهم عن الطريق المؤدي الى الحمزة الشرقي حيث أخبروني أنه سيوصلني الى من أبحث عنهم وهم آل علي من قبيلة شمر،وبعد أن سرت مسافة طويلة وقارب الوقت منتصف النهار التقيت بشاب متقلدا بندقية فسلمت عليه،فدعاني لتناول الغداء في بيته دون أن يسألني عن مرادي أو أسباب وجودي في المنطقة وبعد تناول الطعام وشرب الشاي سألته عن الطريق المؤدي الى ناحية الحمزة الشرقي،فأرشدني الى الطريق ودعته مسلما عليه شاكرا فضله وسرت في الطريق الذي وصفه لي حتى وصلت مجموعة من البيوت،دخلت أحدى الدور مسلما عليهم وبت لديهم تلك الليلة وأخبرتهم عن وجهتي،فأخبروني أن الحمزة الشرقي بعيد جدا وقد تصادفك مصاعب ومخاطر في الطريق،ولكني لم أستمع الى نصحهم وواصلت سيري حتى وصلت تقاطع طريق نجف- ديوانية،وبقيت سائرا في طريقي ميمما وجهي شطر ناحية الحمزة،ولطول المسافة التي قطعتها فقد تورمت أقدامي ولم تعد تعينني على مواصلة المسير،فقررت التوجه الى كربلاء لمناسبة الزيارة وامتلاء الطريق بالزائرين الذين يسيرون مشيا على الأقدام،وفي كربلاء تسكن أختي فيمكن اللجوء إليها والبقاء عندها حتى يتحسن حالي،وفعلا عدت الى الوراء وكان الوقت عصرا ووصلت الى تقاطع الطريق وجاءت سيارة تاكسي ركبت فيها وكانت الأجرة (500) فلسا وكنت أملك هذا المبلغ فوصلت الى كربلاء وتوجهت الى بيت شقيقتي، الذي يقع في أحد الأحياء الشعبية ودخلت الزقاق ولكن لم أستدل على البيت فطرقت بابا وسألتهم عن بيت كاظم الشمري فدلوني عليه،فطرقت الباب وعندما شاهدوني رحبوا بي ترحيبا لم أكن أتوقعه،واستقبلوني استقبالا رائعا فأحضرت شقيقتي الماء والملح ووضعت أقدامي فيه لإزالة التعب بعد عناء المشي،ثم قدموا لي الطعام فأكلت حتى شبعت،وكان زوجها أبن عم والدي وهو موظف يخشى بقائي لما يترتب عليه من مسائلة قانونية،فأخبرته أني سأتوجه غدا الى بغداد لدى أحد أقاربي،بت تلك الليلة على السطح وأعلموني بمسالك الهروب إذا دوهم البيت ليلا،ومن أين أنزل والى أين أتوجه،وفي الصباح تناولت الفطور وأعطوني حذاء لأن حذائي قد تمزق ،و مبلغا من المال،وأوصلني أبن أختي الى كراج بغداد،وصعدت أحدى السيارات وجلست بجانب السائق وكنت لا أحمل أي هوية أو بطاقة للاستدلال على شخصي عند التفتيش مما يجعلني عرضة لإلقاء القبض ،وللخلاص من هذه المشكلة رأيت أن الحل الأفضل هو النزول قبل السيطرة وتجاوزها من الخلف مشيا على الأقدام ثم الركوب مرة ثانية،وكان الأمر طبيعيا تلك الأيام فالكثير من الشباب متخلفين عن أداء الخدمة العسكرية أو هاربين من الجيش ،والناس تقدم لهم المساعدة نكاية بالسلطة الحاكمة،فأخبرت السائق بأني متخلف عن الخدمة العسكرية ،وأرجو مساعدته في تجاوز السيطرة ،فأخبرني السائق أن أكثر السيطرات تعقيدا هي سيطرة الدورة في بغداد أما السيطرات الأخرى فهي لا تدقق كثيرا ويمكن تجاوزها بسهولة،وأنه قادر على تجاوزها لوجود معارف لديه،وفعلا كان التفتيش روتينيا ولا يوجد تدقيق على الركاب فتجاوزتها بأمان وقبل الوصول إلى سيطرة الدورة الرئيسية وهي آخر سيطرات بغداد ترجلت عن السيارة وتجاوزت السيطرة من خلفها مشيا على الأقدام ثم توجهت نحو الشارع الرئيسي ،وركبت أحد سيارات الأجرة المتوجهة إلى علاوي الحلة ،وهناك ركبت سيارة الى باب المعظم و استفسرت عن سيارات مدينة الحرية فأخبرني أحدهم أن علي الركوب في المصلحة رقم(81)وكنت قد عزمت على اللجوء الى عمي (محسن) الذي يسكن هناك ولديه محل لبيع المواد الغذائية،وكنت لا أعرف عنوان البيت بالضبط ولكن يمكن الاستدلال على المحل لأنه معروف هناك،وعندما وصلت المدينة سألت عنه ووصلت الى السوق،وكنت أسير وأنظر في واجهات المحلات وبدون أن يدلني أحد وإذا أنا واقف أمام محله فسلمت عليه،وعندما رآني أستغرب وجودي لأنه عارف بالحكم الصادر بحقي وهروبي من السجن،وبعد أن جلست قليلا أغلق محله واصطحبني معه الى بيته،وقد رحب بي ترحيبا حارا وكأني أحد أبناءه رغم المخاطر المتوقعة من لجوئي إليه،وبعد أن تناولت طعام الغداء ،واستحممت أخبرت عمي بأني سأبقى لديهم لحين توفر المكان المناسب للجوئي وقد لا يطول الأمر كثيرا ،فقال لي أن البيت بيتك ولك أن تبقى ما تشاء،وبقيت في البيت أكثر من شهر وقد برمت بالحياة الرتيبة التي لا تعدو الأكل والنوم والمطالعة دون أن أؤدي عملا أو أشغل فراغي بشيء نافع،وكنت أتمنى اللجوء الى الريف لتوفر المجال للحركة،وممارسة نشاطي لأن هروبي من السجن لا يعني الاختفاء وانتظار ما تجود به الأقدار وعلي العمل النافع لتغيير الأمور بما ينسجم وتطلعاتي وأهدافي،وكان أبن عمي طالب في جامعة بغداد ويعرف الكثير عن شؤوني وينقلها الى أهلي في برنون،فطلبت منه أخبار الحزب بوجودي في بغداد وضرورة أيجاد المكان الملائم لعملي في الريف لعدم قدرتي على العيش في هذا الفراغ دون أن أؤدي عملا ،وأعيش على الهامش أكل وأنام،واني على استعداد للعمل في أي مكان خارج المدينة. وقد أتصل ابن عمي بالحزب وأخبرهم بوجودي وضرورة أيجاد المكان المناسب لممارسة نشاطي وفعلا جاءني بعد أيام وأخبرني أن الحزب يطلب مني التوجه الى بغداد في منطقة الباب الشرقي الساعة كذا يوم كذا في مكان حدده لي وكلمة سر متفق عليها،فارتديت ملابس عربية لائقة وركبت سيارة تاكسي متوجها الى مركز العاصمة للقاء المرتقب وكان معي أخي فلاح،وأثناء المسير لاحظت أن شخصا في سيارة أخرى ينظر إلي مستغربا شكلي أو عارف بأمري ورايته يهمس بأذن السائق،وكان الازدحام شديدا فتقدمت سيارتنا أمامه مسافة وأصبح خلفنا بحدود أربع أو خمسة سيارات فأخبرت فلاحا بالأمر فأعطى للسائق أجرته ونزلنا من السيارة وانسللنا بهدوء الى شارع فرعي ومنه توجهنا الى شارع آخر وركبنا سيارات ألأجرة المتوجهة الى الباب الشرقي،وبعد أن سارت مسافة نزلنا منها وركبنا تاكسي لإيصالنا الى المكان المطلوب زيادة في الحيطة والحذر وخوفا من الرقابة المحتملة للقوى الأمنية. عندما وصلت الى الباب الشرقي طلبت من فلاح أن يسير خلفي بمسافة بحيث لا أغيب عن عينيه وأن لا يتدخل في حالة إلقاء القبض علي أو مهاجمتي من قبل الشرطة وسرت الى مكان اللقاء وهناك التقيت بالشخص الذي ينقلني الى الحزب بعد أن أخذت منه كلمة السر المتفق عليها وفعلا نقلوني الى مدينة المنصور وهي من أحياء بغداد الراقية ولا يسكنها غير الأغنياء والموسرين،ولا يمكن لقوى الأمن التفتيش فيها عن شيوعيين هاربين،،ودخلنا دارا وجدت فيها عائلة كردية ميسورة الحال بقيت في تلك الدار أربعة أيام،وعندما رآني أحد الجيران سأل عني العائلة فاخبروه باني خطيب أبنتهم،فعجب للأمر لأن أبنتهم صغيرة قياسا الى سني،وأن ملابسي تدل على أني من أهل الأرياف فكيف لعائلة بهذا المستوى تزويج ابنتها بريفي كبير السن،وكانت هذه الأمور تشغل بالي عندما أخبرني بها صاحب الدار فطلبت منه الاتصال بالحزب وأخبارهم بالتطورات الجديدة وضرورة نقلي الى مكان أكثر أمان خشية انكشاف الأمر،وفي اليوم التالي جاء أحد الرفاق ونقلني الى شارع السعدون وصعدنا الى عمارة من عدة طوابق حيث أدخلني على مكتب لأحد الفنانين الذي لم أعرف أسمه لحد الآن،فدخلت المكتب وجاء بعض الزملاء والأصدقاء وأخذنا نتحدث في أمور شتى ،وبعد أن خرج الجميع طلب مني صاحب المكتب المبيت في مكتبه على أن لا أتحرك أو أصدر صوتا لأن العمارة فيها حارس يطوف بين فترة وأخرى على المكاتب خشية العبث أو السرقة،وفعلا اتخذت من أحد الأرائك سريرا نمت عليها وأنا أحاذر أن أصدر صوتا أو حركة،وفي الصباح جاء صاحب المكتب وجلب لي فطورا وشربت الشاي وحضر بعض الأصدقاء وأخذنا بالتحدث في أمور عامة،والتقيت بالرفيق المناضل مطشر حواس الذي أوكل إليه أمر أيجاد المكان المناسب.
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |