|
حصاد العمر (11) .. لمحات من سيرة
المناضل عبد الجبار علي (أبو هادي)
محمد علي محيي الدين ذهبت مع الرفيق مطشر وعشت معه أكثر من عشرة أيام لا عمل لي سوى الأكل والنوم وقضاء الوقت بالحديث عن الماضي والمستقبل وضرورة التحرك لانجاز عمل حاسم بدلا من هذا الركود،ولزيادة الحيطة فقد ارتأى الحزب أن أنتقل الى احد البيوت التي فيها غرف للإيجار،وكان أحد الرفاق وهو من أهالي البصرة يسكن في غرفة هناك وسيذهب الى البصرة لعدة أيام وسأسكن محله لأني شقيقه وقد أخبر صاحب الدار بالأمر،وفعلا انتقلت الى تلك الدار وسكنت في غرفة الرفيق،وكان يزورني أحد الرفاق المكلفين برعاية أمور وتلبية احتياجاتي،وفي اليوم الثالث ،سمعت طرقا على الباب فنهضت وفتحتها فوجدت شخصا لا أعرفه،فسألني عن الرفيق البصري فقلت له أنه مسافر وأنا أخيه أسكن هنا لحين عودته،فابتسم الشاب وقد لاحظ ارتباكي وقال لي إذا جاء فلان فأخبره أن أخوك فلان قد جاء ولم يجدك وودعني وذهب،وعندما جاء الرفيق المكلف برعايتي أخبرته بالأمر،فطلب مني ترك الدار وتوجهت معه الى منزل أحد أساتذة الجامعة،وكانت زوجته معلمة ،فبقيت عندهم أكثر من عشرة أيام،ومن المصادفات الطريفة أن زوجته كانت لها زميلة في نفس المدرسة هي زوجة مدير الأمن العام فكانت تزورها في البيت وتأتيها صباح كل يوم لتأخذها معها الى المدرسة دون أن تدري أن في بيتها يختبئ شخص مطلوب للسلطة التي يتولى سلامة أمنها زوجها الكريم. وقد تضايقت من وجودي في المدينة حبيسا بين أربعة جدران لا أمارس عملا أو أقوم بنشاط يزيح عن نفسي السآمة والملل،وقررت التوجه الى الريف وممارسة دوري في الحياة وليكن بعدها ما يكون،لأن الرتابة في الحياة تجعل الإنسان أشبه بالآلة المركونة لا نفع فيها ولا فائدة،فاتحت الحزب بصدد نقلي الى منطقة ريفية فوعدوني بذلك،ولكن السأم من البقاء جامدا جعلني الجأ الى عائلتي فأرسلت خبرا الى أخي فلاح طالبا منه تهيئة السبيل الكفيل بنقلي الى قرية برنون حيث أستطيع هناك أن أجد المخبأ المناسب بين أهلي وأبناء قريتي،وفعلا بعد يومين جاء أخي فلاح لاستصحابي الى القرية،وركبنا أحدى السيارات المتوجهة الى المحمودية حيث نزلنا منها قبل الوصول الى سيطرة الدورة حيث تجاوزناها من الخلف مشيا،وبعد ذلك ركبنا أحدى السيارات المتوجهة الى الحلة،وقبل وصولنا المحاويل وجدت سيارة خاصة بانتظاري قبل الدخول الى المدينة وفيها أخي فوزي ومعه الأخ حسن والأخ أبو صبري،ركبت معهم في السيارة وتوجهنا الى برنون وعندما وصلت الى أهلي وجدتهم بانتظاري وقد حضرت شقيقاتي وأقاربي القريبين فالتقيت بهم بعد الفراق الطويل وقصصت عليهم حكاية هروبي من السجن والأماكن التي اختبأت فيها وما لقيت من عناء في هذه المسيرة الطويلة،وبقيت أياما وأنا أشعر بالأمان لأن أهالي القرية يتعاطفون مع المعارضين للسلطة ومع الشيوعيين بالذات والأعراف الاجتماعية والالتزامات العشائرية لا تحبذ الأخبار عن الهارب أو المطلوب للسلطة،والسلطة ذاتها لا تمتلك القبضة الحديدية لتهيمن على كل شيء ،وبعد ذلك وردني عن طريق الحزب تبليغ بضرورة ترك المنطقة والانتقال الى مكان أكثر أمانا،خشية من قيام الجهات الأمنية بمداهمة القرية وإلقاء القبض علي،وفعلا نقلني الرفاق عبد الرزاق وخليل وأخوه الى مكان قريب من قرية الصباغية وبقيت هناك لدى أحدى العوائل لمدة خمسة عشر يوما،وكان يتردد علينا مسئول من الحزب بين فترة وأخرى لتلبية احتياجاتنا وما يستجد من أمور وتبليغات ونشاطات،وطلبت من المسئول أن يهيئ لي مسدس لأني مطلوب للسلطة وليس معقولا أن أبقى أعزل من السلاح فقد تحدث مواجهة أو زركة ويستدعي الأمر الدفاع عن نفسي لأني آليت أن لا أستسلم إليهم بسهولة،وفعلا جلب لي مسدس مع كمية من العتاد،وبعد ذلك تقرر نقلي الى الصويرة،وجلب لي الرفاق سيارة أجرة لهذا الغرض كان سائقها من القريبين ألينا،وكنت خائفا من مفاجآت الطريق لجهلي بالمنطقة وطبيعة أهلها ولكن الوقائع أثبتت المعدن الأصيل لأبناء شعبنا،فقد حدث عطل في السيارة وجاء شخص ليس لنا به سابق معرفة وقام بمساعدة السائق في تصليحها وقد عرفني ذلك الشخص ومن معه ولكنهم كانوا من الشرفاء الذين يقدرون النضال ورجاله فكانت مساعدتهم دليل على تعاطفهم معنا وأيمانهم بقضيتنا،،ووصلنا الى ريف الصويرة ظهيرة ذلك اليوم حيث تناولنا طعام الغداء لدى أحد الرفاق،وبعد العصر جاءت سيارة ثانية نقلتني من ذلك المكان الى مكان آخر لإضاعة أثري وخشية الاستدلال على مكان اختفائي،وقد وصلنا الى دار الرفيق خنجر من بيت (النهر) الواقع على أطراف الزبيدية ،وهم عائلة شيوعية مناضلة لها تاريخها الناصع الوضاء وقدمت الكثير من الشهداء في طريق النضال الشيوعي في العراق،ولا زال الكثيرون منهم مخلصين لمبادئهم التي آمنوا بها وضحوا في سبيلها،وكانت أرياف الصويرة أكثر مناعة من أرياف بابل لعدم وجود تأثير أو قوة للسلطة فيها وتعاضد أهاليها ووحدتهم ومنعتهم إزاء الاعتداء،لذلك كانت السلطات تتحاشى الاصطدام بهم،والريف هناك لديه الكثير من الأسلحة بمختلف أنواعها،ولديهم عصبة وحمية تجعلهم بعيدين عن تحرشات الشرطة وتدخلاتها،وكان سلاحي لا يفارقني ليلا أو نهارا،لذلك كان الوضع أكثر أمانا واطمئنانا من قرية برنون،،وبقيت في تلك المنطقة أكثر من شهرين أمارس نشاطي الحزبي وأنتقل من مكان الى آخر بكل حرية وأمان،وكنا مجموعة كبيرة من الشباب المتحمس للعمل الحزبي وفينا المندفعون أكثر لممارسة الكفاح المسلح لذلك كنا نجري تدريباتنا على كيفية استعمال السلاح ونصب الكمائن والهجوم المباغت،وأجرينا تدريبات مكثفة على كيفية رد الهجمات الأمنية في حالة حدوثها وأعددنا خطط لمثل هذه الاحتمالات،وكنت متميزا بين المجموعة لما جبلت عليه من روح مغامرة ونفس تهوى الصراع والقتال لذلك كنت من المتميزين في إصابة الهدف أو السرعة في استعمال السلاح وتفكيكه وتركيبه وما الى ذلك من أمور يتطلبها التدريب الذي أخذنا أنفسنا بممارسته. وكنت من المندفعين للكفاح المسلح ،وأن يتخذ النضال طرقه المتعددة وعدم الاكتفاء بالنضال السلمي والابتعاد عن استعمال القوة لأن القوة مطلوبة في بعض الأوقات والإنسان المسالم يحتاج ذات يوم لأن يدافع عن نفسه ويقاتل أعدائه،ولو أن الحزب أخضع أعضائه للعمل المسلح إضافة للنضال السلمي لكانت الأمور قد اتخذت مسارا آخر وما وصلت الى ما هي عليه الآن،وهذه السياسة المهادنة دفعت الكثيرين للتمرد عليها والخروج عن نمطيتها التي لم تعد صالحة في صفحات النضال التي يخوضها العالم من حولنا فقد كانت العمليات المسلحة للأحزاب الشقيقة في عالمنا الكبير حافز لنا أن نقتدي بها ،ونسير على نهجها،لذلك كان للتدريب أهميته الكبيرة فقد كنت منذ مرهقتي أحاول تقليد أبطال أفلام الكابوي في أعمالهم القتالية وهذا الأمر أخذ من تفكيري الكثير وما الكفاح المسلح إلا شكل من إشكال البطولة التي أحلم بها منذ سنين. وقد اتفقنا نحن مجموعة من الشباب المندفع والمتحمس للكفاح المسلح على مهاجمة أحد مخافر الشرطة والاستيلاء على أسلحتهم لتكون ذخيرة لنا في تشكيل فصائل مسلحة تأخذ على عاتقها بناء كيان مدرب على القتال يسهم في إسقاط النظام ألعارفي البغيض،وقد طرحت في الاجتماع أن أكون في مقدمة المجموعة الهجومية،وطلبت منهم في حالة فشل الهجوم قتلي حتى لا أقع مرة ثانية في أيدي السلطة،ولكن لم يتسنى لنا تنفيذ ما عقدنا العزم عليه بذريعة الظروف الذاتية والموضوعية وعدم وجود الظرف المناسب لمثل هذا العمل،وأحجام البعض عن مثل هذه العمليات التي قد تنبه السلطة ألينا وبالتالي قيامها بهجوم كبير لا قبل لنا بمواجهته وإنهاء المشروع وهو في بدايته وطلبوا الانتظار لحين توفر الظرف المناسب وأن طبيعة المنطقة لا يمكن الاعتماد عليها في مثل هذه العمليات لعدم وجود الأماكن الطبيعة التي يمكن الاحتماء بها وعدم الثقة في السكان الذين قد ينقلبون ضدنا لأن ذلك سيعرض المنطقة وسكانها الى كارثة لا قبل لها بمواجهتها، على كل حال لم يتسنى لنا تطبيق ما عقدنا العزم عليه وبقيت في تلك المنطقة أمارس عملي الحزبي وكان الرفيق المسئول يأتينا بين فترة وأخرى محمل بما يستجد في الساحة السياسية ووعود بقرب اندلاع الكفاح المسلح بعد توفر مستلزماته من أسلحة وأعتده . وذات يوم جاء الرفيق المسئول وأخبرني أنه سيتوجه الى الناصرية لزيارة القاعدة العسكرية هناك وأوكل لي مسئولية أدارة العمل الحزبي لحين عودته أو وصول مسئول جديد،وطلب مني مسدسي لأنه سيتوجه الى منطقة يحتمل أن تحدث فيها مناوشات عسكرية،سلمته المسدس مع العتاد الكافي،وبقيت بانتظار ما سيكون،وعندما وصل الرفيق الى المكان المتفق عليه طلبوا منه العودة لاصطحابي معه لأني مطلوب للحضور في الأهوار ،عاد في اليوم التالي ليصطحبني معه ،هيأت نفسي لسفر لا عودة منه وأخذت حاجياتي التي أحتاجها هناك،وفي اليوم التالي ركبنا أحدى السيارات وذهبنا الى الكوت،حيث ركبنا سيارة ثانية أوصلتنا الى مدينة الحي،وهناك ذهبنا الى بيت أحد الرفاق وغادر الرفيق عائدا على أن أتوجه في اليوم التالي الى الشطرة،وفعلا في الصباح ركبنا الخيول متوجهين الى الشطرة،ووصلنا الى هناك مساء ذلك اليوم،حيث أوصلوني الى بيت هناك فوجدت أخي ورفيقي حسين ياسين زميلي الهارب من سجن الحلة والمشارك الفعال في عملية حفر النفق،وبتنا تلك الليلة نستعيد ذكرياتنا عن الأيام الخوالي ونتداول في أخبار الرفاق الهاربين ومن سلم منهم أو القي القبض عليه وكانت أحاديث طويلة ممتعة أبقتنا ساهرين الى ما بعد منتصف الليل،وفي الصباح تناولنا فطورنا وتوجهنا سيرنا على الأقدام الى الأهوار،فوجدنا هناك المشاحيف بانتظارنا حيث ركبنا أحداها وسار بنا الى حيث المجموعة التي تبنت الكفاح المسلح طريقا للنضال،وأطلق علي الاسم الحركي(هادي) بحيث لم يعرفني أحد باسمي الحقيقي إلا من كان له سابق معرفة أو علاقة بي،وعندما وصلنا الى حيث رفاقنا هناك وجدت الرفيق عقيل حبش العامل في حفر النفق وآخرين ممن أعرفهم أو لم يسبق لي التعرف بهم وقد عملنا (جباشة) لسكننا،والجباشة عبارة عن أكوام من القصب والبردي توضع داخل الهور لتصبح بمثابة مكان لعمل كوخ عليها،وتكون وسط الماء ،وقد عملنا الجباشة ورتبنا أمورنا للسكن في ذلك المكان ووزعت علينا واجبات الحراسة والطبخ وغسل الأواني وما نحتاجه في حياتنا الاعتيادية،وكنا كخلية النحل نؤدي أعمالنا باندفاع وفاعلية ونقوم بواجبات الحراسة والدوريات ،وكانت هذه الحياة جديدة علي إذ لم أعمل في الأهوار أو أعيش فيها طيلة حياتي،وكانت تجربة جديدة واجهتها بما تستحق من الاهتمام،وكان معنا مجموعة من الفلاحين من غير جماعتنا إلا أنهم كانوا معنا كواحد منا لذلك طرح الرفيق عقيل في أحد الاجتماعات ضرورة أبقاء الرفاق فقط أصحاب المصلحة الحقيقة في الكفاح المسلح وضرورة عودة هؤلاء لأنهم قد يشكلون عبئا علينا في المستقبل إلا أذا أرادوا أن يكونوا مهنا في كل شيء،وقد قوبل رأي الرفيق عقيل بالقبول وفعلا طلب منهم الرفيق حسين ياسين العودة الى أراضيهم أو العمل معنا كشيوعيين لهم مالنا وعليهم ما علينا،وفعلا عادوا في اليوم التالي الى أراضيهم وبقينا نحن النواة الأولى للكفاح المسلح في العراق. وفي اليوم التالي صدر الأمر بالرحيل من القاعدة والانتقال إلى هور الغموكة لأنه سيكون قاعدة انطلاق الكفاح المسلح ولأنه أكثر أمانا من هذا المكان وفعلا سارت المشاحيف باتجاه الهور.
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |