|
كثيرون في هذا العالم، فوجئوا باندلاع الحرب من قبل الروس في جورجيا ساعة انطلاق الشعلة الاولمبية في بكين .. في حين ان بعض المراقبين في هذا العالم كانوا يتوقعون انفجار الصراع المفاجئ ليس من اجل اوسيتيا الجنوبية، بل كانت هذه " الاخيرة " ومنذ سنوات دمّلا متقيحا قابلا للانفجار، خصوصا وان جورجيا كانت تتمرد يوما بعد آخر على الدب الروسي، وتضع بيضها في السلة الامريكية غير مبالية، ولم تكن ثورة الورد في العاصمة تبليسي الا جزءا من السعي لامتداد النفوذ الامريكي في القوقاز .. تلك " الثورة " التي اطيح من خلالها بشيفارنادزة، وقدوم شاب جورجي متشبّع تماما بالثقافة الامريكية اسمه ساكاشفيلي ليكون رئيسا لجورجيا، كي يزداد الضغط الروسي على اقليم اوسيتيا الجنوبية الذي كانت قضيته قد نضجت بعد ان طبخت على نار هادئة، فهو تابع لجورجيا، ولكن نفوذ روسيا فيه كبير جدا. وعليه، ينبغي القول ان الصراع لم يكن بصراع نفوذ محلي على هذا الاقليم، بقدر ما تثيره قوة المصالح الدولية، وخصوصا، في خضم سياسات المد والجذب بين الامريكيين والروس .. ان مصالح الولايات المتحدة بمشروع ضم جورجيا للناتو، وجعلها درعا واقية للمجال الحيوي للشرق الاوسط، قد تصادمت مع مصالح الروس الذين يريدون تدفق النفط عبر سواحل جورجيا .. ان سيناريو القوقاز الجديد لا يبتعد باطّراد عن اشتعال هذا " المنطقة " بكل تعقيداتها الاثنية والاجتماعية، وهي تدخل حزام مرّبع الازمات الذي يعج بالازمات والمشكلات ـ كما اوضحت ذلك في كتابي العولمة الجديدة والمجال الحيوي للشرق الاوسط : مفاهيم عصر قادم، 1997 ـ . لقد سمعنا لمبررات الروس الهائجين الذين وصفوا السياسة الجورجية باقذع التعابير، خصوصا عندما حملوها مسؤولية الابادة الجماعية، والتطهير العرقي، وهي لغة استخدمها الروس ازاء خصومهم في دول اخرى .. وهي نفس اللغة الاعلامية التي استخدمها الامريكيون ضد صربيا عام 1999 .. وكما ولدت استقلالية كوسوفو، فهل سيكون بامكان الروس اعلان ولادة اوسيتيا الجنوبية ؟ انني اشك في ذلك ! ان أوسيتيا الجنوبية في الأراضي الجورجية، طالما كانت محميةً روسية في منأى عن سلطة حكومة ساكاشفيلي. والواقع أن الكارثة التي تحدث حالياً في القوقاز، وتبرز للمراقبين : نذر تغير سريع في السياسة الروسية الحالية، كونها تسعى اليوم من اجل المشاركة في تقاسم كعكة الشرق الاوسط ومجاله الحيوي . انها اليوم قد انقلبت على قرارات اصدرها يلتسين قبل 17 عاما، والتي تقضي بتحويل الحدود بين الجمهوريات السوفييتية الى حدود دولية، فانهار الاتحاد السوفييتي، وهو ما سمح له بكبح جماح القوى الشيوعية والقومية داخل البرلمان الروسي، والتي كانت تطالب دوما باسترجاع المناطق التي فقدتها روسيا. لقد احكمت روسيا صنع القرار في مثل هذا الوقت بالذات ضاربة بكل التزاماتها عرض الحائط، ولكن ما الثمن الذي يمكنها ان تدفعه عندما تحسم امور كل من اوسيتيا الجنوبية وابخازيا لصالحها ؟ ان من يدرس طبيعة العلاقات القوقازية الروسية على امتداد القرنين السابقين فقط، يخرج بنتيجة مفادها ان قدر كل من القوقاز وترانس قوقازيا، بقاءها تحت رحمة او بطش الدب الروسي الذي له القدرة على ان يضرب ويقسو .. وعليه، فليس امام هذه الدول والشعوب القوقازية كلها الا توثيق علاقاتها مع روسيا، ومن ثم بالاتحاد الاوربي . عموما، ان مشكلة بعض هذه الشعوب المغلقة، تصورها، ان تحالفاتها مع الولايات المتحدة الامريكية ستنقذها مستقبلا، وان الامريكيين سيقومون بحماية دولهم واقاليمهم، من دون اي تفكير او اي احساس بالقلق من ان الولايات المتحدة تبحث عن مصالحها، وعندما تتغير او تتبدل او تنتهي تلك " المصالح "، فمن البساطة ان تحرق اوراقها كلها، وتنفض ايديها من اي تعهدات او وعود ! لا يمكن ان تبقى جورجيا تدور في الفلك الامريكي من دون ان تعمل روسيا على تأمين اوسيتيا الجنوبية وابخازيا في جيبها، وربما قد تصبحان بلدين مستقلين مفترضين ( على غرار كوسوفو )، وسنرى الى اي افتراق يقود هذا الصراع الدولي على سواحل البحر الاسود في شمال المجال الحيوي للشرق الاوسط، وبالاتفاق مع الامريكيين . انني اعتقد ان روسيا ان نجحت في تحقيق خططها الاستراتيجية هذه، فانها بدأت تستعيد قوتها بعد عشرين سنة من انهيار الاتحاد السوفييتي، وانها غدت تجيد اللعب مع القطب الامريكي، كي تستفيد من بناء مواقفها . انني اعتقد ان روسيا بدأت تستعيد فكرتها القديمة بفرض هيمنتها على القوقاز .. ويبدو ان جمهوريات آسيا الوسطى اكثر حفاظا على علاقاتها القديمة مع روسيا مقارنة ببلاد القوقاز . ان القوقاز كله بحاجة الى بناء علاقات وثيقة مع روسيا، قبل ان تدخل في صراع من اجل بلقنتها وتفكيكها . ان مواقف روسيا وخطابها قد خرجا اليوم على ركائز يلتسن السابقة التي منحت الاستقلالات .. وهذا ما سيخلق متاعب جديدة تلوح في الافق .. وربما سيشهد العام 2009، مأزقا خطيرا ستكون له تداعيات ومضاعفات على كل الشرق الاوسط .. وآخر ما يمكنني ان اذكّر به ان روسيا لم تضع ماضيها وراءها، وهي تحاول اليوم استعادة مجدها الاحادي قبل ان تركض لاهثة وراء الاتحاد الاوربي او غيره .
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |