فينومينولوجيا خالتي صبريه
 

 مثنى حميد مجيد
 alsadizxc@hotmail.com

لقد قررت أن أجمع مقالاتي وكتاباتي للسنوات الأربع السابقة التي نشرتها في المواقع العراقية، وبفضل لا ينسى من مدراء ومديرات تحريرها الكرام، في كتاب يحافظ عليها ويعمم الفائدة المرجوة منها للقراء والمهتمين.ورأيت أيضآ أن يتضمن الكتاب البعض من قصائدي الشعرية القليلة ذات الطابع النثري التي نشرتها في تلك المواقع لإحساسي أن مقالاتي وكتاباتي هي الأخرى تحمل ذات الشحنة الشعرية التي لتلك القصائد وذات المناخات والأجواء الفكرية والفلسفية وهي، جميعآ، تشكل نسيجآ واحدآ متكاملآ لكنه يختلف في التدرجات اللونية والظلال والكثافة والليونة في المساحات والمفاصل ومساقط الرؤيا وتداخلات الزمان والمكان وحتى في الضحك والألم والسخرية والمرارة وهي السمات العامة التي تسم كل ما كتبت.

ولساعات، ليلة أمس، جلست أفكر في الإسم الذي سيكون عليه الكتاب.أمسكت ورقة وقلمآ وسجلت تعابير مختلفة ومتنوعة مقترحة كعنوان للكتاب .وبما أنني من الذين يتبنون المنهج الظاهراتي العلمي والجدلي في التفكير والتحليل والطرح، كما يبدو لي طبعآ، فقد استأثرت كلمات مثل الظاهرة، الفينومينولوجيا، وما شابهها أو اقترب منها في صياغة أغلبية هذه التعابير.وكثرت هذه التعابير وصارت في العشرات دون أن أجد راحة أو ميلآ أو استقرارآ لأي واحد منها حتى شعرت بالملل من متاهة التعابير هذه التي ألفيت نفسي فيها، وغلبني النعاس فخلدت إلى النوم.ونهضت باكرآ على عادتي في الصباح لأجد تعبيرآ واحدآ يتردد في مخيلتي، تعبيرآ طريفآ وغريبآ يخرج من أعماقي طارحآ نفسه كعنوان لكتابي هو ـ فيومينولوجيا خالتي صبريه!  ـ فينومينولوجيا خالتي صبريه!  ـ .

عجيب! ما علاقة خالتي الحبيبة المرحومة أم ناصر بالفينومينولوجيا!في البداية أهملت هذا النداء الخارج من عقلي الباطن، إعتبرت الأمر مجرد أضغاث من أحلام اليقظة لكن النداء ما لبث أن واصل الإلحاح والتكرار مقحمآ وفارضآ نفسه علي ـ فينومينولوجيا خالتي صبريه!  ـ.وبما أن خالتي الحبيبة أم ناصر رحمها الله من أعز الناس إلى نفسي ومنبع ثر للطيبة العظمى للمرأة العراقية والحنان الأمومي فقد وجدت نفسي أستدرج إلى حالة جميلة من صفاء التفكير والوجدان.ورحت أستذكر علاقتي بخالتي أيام الطفولة والصبا في ستينات القرن الماضي.كنت أمضي أغلب أيام العطلة الصيفية في دارها العامرة في قضاء سوق الشيوخ وكانت الدار تقع على حافة غابات شاسعة من النخيل الباسق وأنواع كثيرة أخرى من الشجر المحمل بالثمر.هناك كنت أسرح وأمرح في تلك البساتين الخضراء الحافلة بالألوان والظلال والرؤى وأحلام الطفولة وكان مجلسي الأثير قريبآ من جدول الماء المندفع من الناعور.هناك ربما تعلمت قيمة الدائرة ودلالاتها الكونية من الحركة الدائرية للحمار الذي كان يحرك بدأب وبلا كلل عتلات الناعور وسطلاته المترعة الطافحة بالماء وقد طبعت القناعة مع حزن غامض ولامبالاة عينيه شبه المنسدلتين.وتذكرت ذلك الصباح الباكر الذي توغلت فيه بعيدآ في غابة النخيل وقد قررت أن أستقطع غصنآ من شجرة سدر لأغرسه بنفسي في الحديقة المجاورة لدار خالتي.كنت مسكونآ بهاجس طفولي أن أزرع شيئآ يكبر ويثمر، وأتمنى أن تكون شجرة السدر المقدسة التي غرستها بنفسي مازالت قائمة وارفة الظلال ومثمرة بعد كل هذه العقود والسنوات العجاف التي مرت بالوطن.وأتذكر، بعد سنوات من غرسي لسدرتي، زيارة خالتي لنا في الناصرية وقد طبعت البشارة وجهها الحبيب وهي تخاطبني باسمة ضاحكة ـ يمه ثنو جبتلك صوغة نبق من شجرتك اللي زرعتها! ـ وفتحت صرة النبق الشهي الحلو الذي مازالت صورته تشع نورآ في مخيلتي وشكرت خالتي الطيبة على صوغتها الثمينة.

ومرت عقود وسنوات مريرة على العراق السجين، مات أحباب وقتل اخوان واصدقاء وهدمت بيوت عامرة وأحرقت بساتين خضراء وماتت واقفة أشجار نخيل، ونصبت مشانق وانتهكت أعراض وهاجر من هاجر وصلب من صلب على حائط الصبر، وفي بداية التسعينات أيام الحصار حضرت خالتي الحبيبة الوفاة  فذهبت لرؤيتها قبل ولادتها الجديدة ورحيلها إلى عالم النور في دارها في حي العامل.هناك كانت خالتي في تمام ملابسها الطقسية ممددة ورأسها متجهآ شمالآ إلى القبلة حيث ميزان الحق.كان ذلك بالضبط قبل يوم من وفاتها وكانت منهكة من المرض وفي شبه غيبوبة لكنها مع ذلك كانت تحرك بوهن يديها متلمسة الهميان المقدس، أي نطاق ملابسها الدينية، وهو أهم جزء في الملابس البيضاء ـ الرستة ـ  مخاطبة بنبرة تعبة من حولها ـ يمه إنتبهوا لشدة الهميانة !  ـ كان هذا مطلبها الوحيد من هذه الحياة التي تودعها ومن أحبتها المحيطين بها إذ بدون العقد الطقسي الصحيح لهذا الهميان وشده بلحظات أو دقائق تسبق الوفاة تسقط كل القيمة الروحانية لكافة تفاصيل الإجراءات الطقسية السابقة للوفاة ويضطر أهل المتوفي إلى إجراء مراسيم تعويضية أخرى بعد سنة من يوم الوفاة.

وهنا، بعد هذه الإستعادة  لذكرياتي عن خالتي الحبيبة، عرفت سر النداء الباطني الذي يدعوني إلى أن أتبنى هذا التعبير عنوانآ لكتابي ـ فينومينولوجيا خالتي صبريه!  ـ .إنه رسالة ضوئية منها أن لا أنسى الهميانة الصابئية.أن أواصل بحثي الذي بدأته قبل سنوات عنها ولم أستكمله.عرفت، الان، العلاقة الحميمة والوثيقة التي تربط خالتي المرحومة أم ناصر بالفينومينولوجيا.والهميانة تقع في اعتقادي في الصلب من الفينومينولوجيا.وقد كرست لها مقالة كاملة وتفصيلية من هذا الكتاب معنونة بعنوان، الطريق إلى الرسالة الجامعة.وهي الجزء الأكثر قداسة في الملابس الطقسية البيضاء ـ الرستة ـ واسمها من اشتقاقات كلمة هيمنوثة، بمعنى الإيمان، الإستقامة، فهي إذن يمكن أن تترجم إلى الإيمانية.والهميانة حزام مجوف من صوف خروف ذكر وحي بطول مترين إلى ثلاثة وتتكون من 60 خيطآ وخيط اضافي يدعى في التقليد بالخيط السري الذي تحاك به. وتعقد نهاية أحد أطرافها بشكل دائرة تسمى ـ العروة ـ وتمثل اليمين ـ النيشمثا ـ العقل الواعي، أما نهاية الطرف الاخر فتترك الخيوط بلا حياكة وتسمى كركوشة وتمثل اليسار  ـ الروها ـ.اللاوعي، العقل الباطن .والصابئي الورع، في العادة، يلبس الهميانة حتى في حياته اليومية الإعتيادية فهي، اضافة إلى معانيها الكثيرة، تقوم بدور الحارس أو الدرع الحامي من قوى الشر.وفي مقالتي هذه سوف أحاول إثبات صلة الهميانة بأصل مصطلح التصوف وأن كلمة صوفي ذات علاقة فعلية بالهميانة المندائية وإن جابر بن حيان الكوفي الصابئي الأصل الذي عاش في القرن الثاني الهجري كان أول من لقب بالصوفي بسبب ارتدائه الحزام الصوفي الحارس أي الهميانة كتقليد شائع لدى أنباط العراق ومتوارث في عائلته المعارضة للأمويين، هذه المعارضة التي تسببت بمقتل والده، وكان أبو هاشم الكوفي معاصر جابر  ـ توفي 150 ه ـ معروفآ أيضآ بهذا اللقب.لقد كان جابر أول من اتبع المنهج الإستقرائي التجريبي في البحث العلمي معتمدآ على التراث الصابئي فوضع أسس علم الكيمياء وأول من اسس للمنهج الظاهراتي التطبيقي بقرون قبل الفيلسوف النمساوي ادموند هوسرل 1859 ـ 1938 وأول من تحدث بفلسفة العلوم ووسائل نيل المعرفة العلمية عن طريق العقل والمخيلة قبل أكبر فيلسوف ظاهراتي في القرن العشرين الفرنسي غاستون باشلار 1884 ـ 1962.وقد وضع أسس ما يعرف اليوم بعلم الباراسايكولوجي وكما لمح إليه المستشرق هنري كوربان ونذكره محاطآ بالتفصيل في المقالة المشار إليها.

 وبعد جابر جاء اخوان الصفاء وخلان الوفاء في القرن الرابع الهجري، العاشر الميلادي، ليكتبوا رسائلهم وفق منهج ظاهراتي فريد وأصيل معتمدين على جابر وعلى مصادر عصرهم المتنوعة تنوع انحداراتهم وأصولهم الدينية والمذهبية ومن أبرزها الصابئية .وفي المقالة هذه سيجد القاريء محاولة مني لمناقشة الاراء المختلفة والمتعارضة بخصوص عدد رسائل الإخوان والصلة الطقسية والروحانية المحتملة والخفية لهذا العدد بعدد خيوط الهميانة وبالذات الصلة الرمزية للخيط السري بالرسالة الجامعة وعما إذا كانت هذه الرسالة هي رسالة افتراضية لم يكتبها أصلآ الإخوان بل تركوا اكتشاف محتواها إلى المقدرة العقلية والروحانية الإستنتاجية للقاريء المؤمن بنهجهم ومدرستهم الفكرية.وتطرقت أيضآ إلى كون الهميانة بتفاصيلها ودلالاتها هي التعبير الطقسي والرمزي للمفهوم الذي يدعى مجازآ في الإسلام بالعروة الوثقى، وفي الأديان القديمة في سومر وبابل كان التعبير يتخذ صيغة الشكل السداسي الذي انتقل فيما بعد إلى الهندوسية ليسمى باليانترا وإلى الرومان فاليهود ليسمى بنجمة أو درع داود.

وهكذا، يعرف القاريء الكريم إن المنهج الظاهراتي الجدلي الذي أقصده وأتبعه هو منهج معرفي شرقي يعتمد أساسآ على الفطرة الموروثة من أجدادنا الذين رفدوا الإنسانية بالنور والعلم وأن فكرهم موجود وكامن في أعماقنا اللاواعية ولا نحتاج إلا إلى النظر بعمق داخل أنفسنا، وبقلب ينزع إلى صفاء قلب خالتي صبرية، لإيقاظه دون أن نمتلك عقدة مما هو أصيل في الغرب أو لدى الأمم الأخرى من مدارس فكرية تنحاز إلى الإنسان كقيمة كونية عليا.ولهذا السبب فالفينومينولوجيا التي تبنيتها في كتابي هذا تنهل من النبع الشعبي العميق للعفوية والبراءة والطيبة، الضمير الجمعي للشعب الذي تحاول قوى الظلام طمره، إنه نبع ميسوبوتيميا المتوغل في التاريخ، إنها بجرأة، وبكل بساطة وبلا حذلقة صورية تدعي التفلسف الفارغ، فينومينولوجيا خالتي صبرية.

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com