|
رثاء متأخر ...
يحيى السماوي ( إلى روح الصديق الصديق الفنان الأديب د . ناجي كاشي ) راهبٌ معبده المسـرح .. ونورسٌ فضاؤه الأبجدية .. أمضى عمره فلاحا ً، يغرس زهور المحبة أنى سار .. دافئ دفء خبز صباحات بيوت الطين .. له من السماوة صبرُ صحرائها على العطش .. ومن نخيل بساتينها الثباتُ أيا ً كانت عربدة ُالرياح .. وديعٌ كفراشات الحدائق ... جَـلِـدٌ كصـبّـار ِ البادية .. لكنَّ رؤية طفل ٍ حافي القدمين ، كفيلة ٌ باستمطار دموعه ... دائم الحركة مثل أراجيح الأطفال .. وكالأطفال : لا ينام " ناجي كاشي " إلآ وعـيناه مطبقـتان على دمية قـلبه : المسـرح .. أورثه " كلكامش " قلقَ البحثِ عن عـشبة المستحيل .. فوجدها لا في قاع بحر ٍ ، إنما : في جباه الشغيلة .. الشغيلة الذين صيَّر من قلبه " أنكيدو " لهم .. منذ رحل ناجي كاشي و " الوركاء " في نشيج .. منذ رحل ناجي كاشي ، وأنا أجلس على رصيف الحزن ، مستجديا ً الأبجدية ، باقة ً من ورود الكلمات ، تليق بمزهرية ناجي كاشي .. فمن أين لي بالكأس الذي يسَـعُ نهرَ حزني ، والخيط ِالذي يرتق جرحي الممتد من " أديلايد " حتى مقبرة " دار السلام " ؟ مرة ً توضـّـأتْ عـيناه بالدموع ، لأنه لم يستطع أن يجعل من يده المربوطة إلى عنقه ، أرجوحة ً لطفل جاره اليتيم ... مرة ً نزع ربطة عنقه ، ليصنع منها شال ضماد ٍ لجريح ٍ خلال انتفاضة آذار ... مرة ً خلع سترته الجلدية ، لينشَّ بها ذئابَ البرد عـن جسد ابن سبيل ٍ عابر .. مرة ً قال لي : أن أكون عكازا في يد ضرير ، أشرف لي من أن أكون صولجانا في يد قيصر .. ** ناجي .. ما عرفتك تنكث وعـدا ً .. فكيف خذلتَ نداماك يا قنديل ليل السماوة الطويل الطويل ؟ لـَطـَمَ المسـرحُ خـَشـَبَـتـَهُ حزنا ً لرحيلك ، والسِـتارة ُ شـَقـَّتْ زيقـَهـا جَـزَعا .. كفى بي وَجَـعـا ً أنني آخر مَـنْ يبكيك ، لا جحودا ً مني ، ولكن : لأن هجير الفجائع قد أنضبَ ما ادّخرتُ من دموع ... فسلامٌ عليك يوم ولِـدتَ فقيرا من الجاه والأوسمة .. وسلامٌ عليك يوم مُتَّ غـنيا ً بحب الناس .. وسلامٌ عليك يوم تـُبـعَـث ُ حيّـا ً في الفردوس .. وســلام على العــراق البعـيد القــريب .. وســلامٌ عـلى وشـم قـلبي " السماوة " .. ** أضع بين أيدي الأحبة أصدقاء الفقيد د . ناجي كاشي ـ الذين يعملون على جمع نتاجه الأدبي غير المنشور ، ليضاف إلى مؤلفاته المنشورة ، نص الكلمة التي ألقاها في الحفل التكريمي الذي أقامته لي كلية التربية / جامعة المثنى يوم 28/12/2005 يحيى السماوي وأثيرية الصورة الشعرية . د . ناجي كاشي عميد كلية التربية / جامعة المثنى في مساحات الجمال والإبداع يبحر " يحيى السماوي " شاعرا ً يرى ما بعد الأفق كل ما هو مثير .. يستفز الذاكرة كأنه حلم مستمر .. ذلك أنه يذهب بالصورة إلى أثيريتها محلقا ً في سماوات من الدم والأحزان أو ربما الأفراح ، نائيا ً بأبطاله إلى الأبدية التي هي موثوقة الصلة ببعضها في حلقات مترابطة . وأزعم أنّ هذا الإنذهال والترفع باتجاه الصيرورة الأبدية متأت ٍ من المماحكات والإختلاجات والعذابات التي عاناها وخبرها من كل هذا الكم الهائل من الرؤى والإنثيالات التي طبعت شخصيته بطابعها المميز ، فكان مميزا ، تنبّـؤيا ، على الرغم من أيديولوجيته التي تعلن عن نفـسها في قصائده المركزية وقصائده الأخرى .. فهـو الرجـل الذي يعلن أنه : فـردٌ .. ولكن ْ بين أضلعِـه ِ وطنٌ وشـعبٌ يخفقان ِ معا وهذا الخفقان المستمر هو ما طبعَـه .. فكان محبا ً إيّما محبة ، ملتزما ً أيما التزام ٍ ، متصوّفا ً إيما تصوف ٍ ، حتى وصل حدّ التماهي والإحلال فلم يعد يميّز ما بين محبوبه وما بينه ـ مع الفارق أن الحبيب هنا هو العراق الذي أصبح هوية ً وطبعا ومبرر وجود : صاد ٍ يبلل باللظى شــفـة ً ويصدُّ عن مُسْـتَعْذب ٍ نبعا أنِفَ انتهالَ الراح ِ لا بطراً أو خوف ملتصّ ٍ ولا ورَعا لـكـنـه طـَبْـع ٌ تــَلـَبَّـسَـــهُ والمرءُ في حاليه ما طـُبـِعا فالعراق لدى " السماوي " تضخـّمَ حتى أصبح الوجود كله .. أصبح صنوا للفكرة أو ربما كان ولا زال هو الفكرة التي تتلبس البطل ليعبّر عنها .. لذلك كان الإتحاد حاضرا أبدا مع الفكرة التي هي العراق . هذا الإتحاد الذي جعل الشاعر تجليا ً لفكرته المركزية وفي أكــثـر من موقـع ، كما أن القارئ المطـلع لـَيَجــد أنّ العــراق " الفكرة " هو الآخر تجل ٍ للشاعر، حتى غدا هذا التجلي رمزا خالدا للجهاد الدائم في سبيل رسالة مقدسة لا تهدأ ، وهو إنجاز متقدم يُحسَب للشاعر حتى لو كان غير مدرك لما يصنع من بطولات أو ربما أوهام : صاح ٍ .. ولكنْ صحوَ مُخـْتـَبـِل ٍ لا فرقَ إنْ أسـرى وإنْ هَـجَـعـا فعند لقائه بالعراق ، تدور به الدوائر حتى يتوهم العراق فردوسا على الرغم من أنه منتجع من توابيت ، إلآ أن توحده وانشغالاته بالعراق ، تذهب به إلى الأماني ، فيعود ليرى العراق حبيبا : غاف ٍ يُـدثـره حريرُ منى ً فـتوهَّـمَ التابوت َ منتجـعـا وسِـعَتْ أمانيه الخيالَ فما أبقتْ له الأحلامُ مُـتـَّسَـعـا ووفق ما تقدّم ، فإنّ البطل هنا الذي هو الشاعر المتوحد مع فكرته التي هي العراق ، لا يموت أو يفنى أو يضعف أو يتصاغـر أو يتقزّم ، ذلك أنّ الشاعر يسبغ عليه صفات البطولة والقدسية والجلال .. فالأحلام وانثيالاتها ترفع البطل إلى أعلى الأماكن .. فمثله لا يموت حتى وإنْ خسر .. بل انه يرتفع إلى السماء في كل مرة ليعود من جديد في كل منازلة أو معركة فاصلة بين الجهل والمعرفة أو بين النور والظلام ، منذ بدء الخليقة حتى نهايتها : أنا أنتَ .. فتـِّشني تجدْ بدمي ما فيك من جمر ٍ ومن بَـرَد ِ تجد الفراتَ يسيلُ من مقلي دمعا ً فأشــربه عـلى جَـلـَـد ِ تجد الخــرابَ البابليّ عـلى وجهي وذعرَالعاشق الأكدي وبعد ؟ فإنك أيها الأكديّ المذعور ، رحتَ تداعب خليلاتك الألف وعشيقاتك المليون بأيد ٍ ناعمة وحدقات ناعسة ، فلم يجدن إلآك خاشعا لمشيئة العراق ، وعنفوانك الذي لم تجد إلآ العراق ساحة للهوى وسُـلـَّـما ً للجسر الذي أصبح معلقا ً أبدا ً كي لا يرتقيه الآخرون في زمان ما زال رديئا ... ولا زلتَ أنت الشاعر الذي تـُعلـِّمنا معنى عشق العراق ... تحية لك وأهلا بك في صنو قلبك العراق .
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |