|
مخاض ثقافي عراقي
د . زهير المخ/ كاتب وأكاديمي عراقي تشهد الثقافة السياسية العراقية اليوم عدداً من الاختلالات الناجمة في الأساس عن أن ممثلي "المعرفة" الذين ينتجون الأفكار السائدة ويروجون لها ظلوا متمسكين بالنموذج الذي نشأوا عليه لاطمئنانهم العميق بأن هذا الثبات سيجنّبهم زعزعة القناعات المستمدة من تنشئة اجتماعية وسياسية راسخة الجذور، لا تستطيع أن تقيم وزناً للشأن العام، هو الغريب عموماً عن بنيانها المعرفي. ما يجدر ملاحظته هنا أن مشكلة الثقافة السياسية العراقية هي مشكلة معرفية قبل أن تكون سياسية، أي أن ممثلي هذه الثقافة من النخب بقيت تستمد بناءها الفكري من التمازج الكاذب الذي يفسّر حالياً ذلك الهوس بالنماذج المحنّطة الذي بلغ في العديد من الكتابات حداً قريباً من الانتحار الثقافي، كما ظلت تعتمد على ما يمكن أن نطلق عليه صفة "التفكير الدائري" ، دون التجرؤ على استلهام نموذج جديد يختلف في بنيانه عن النماذج السائدة. فعلى الرغم من التجارب الكاوية التي شهدها العراق، ظل ممثلو المعرفة متمسكين بالنموذج الذي شبّوا وشابوا عليه لاطمئنانهم العميق بأن هذا الثبات سيجنّبهم زعزعة ما يؤمنون به على نحو أو آخر. فالنخب الثقافية العراقية تدور في فلك مفاهيمي واحد وتتظاهر بأنها تخاطب بعضها البعض، فيما تكون ناصبة مرابض مدفعيتها على جبهتي المواجهة، فلا تنصهر ولا تندمج، بل تتواجه وتتنابذ وتتباعد وتتخاصم وتتقاتل بشكل دوري، انسجاماً مع بنيتها الأصلية، ذلك أن الولوج إلى مشروع واحد يتناقض مع نمط التفكير الدائري الذي تعتمده على وجه عام النخب الثقافية العراقية الحالية، لكون عصبياتها مبنية على رابطة تصبو إلى غلبة الجزء على الكل، والخاص على العام. أكثر من ذلك، إن هذه النخب عندما يتكلم اليوم بفصاحة، عن "الدولة" العراقية الجامعة، إنما تقصد، وإن بشكل ضمني، دولتها الخاصة، دولة العصبيات المملوكية التي تدور في فلك المصلحة الخاصة. وهذا يعني أن لا مجال في وعي هذا النمط من النخب السائدة للمصلحة العامة، حيث أن وعيها مبني على ركيزتين، إحداها واسعة وهي الطائفة، والثانية أضيق وهي الذات، علماً أن الركيزتين تدوران معاً في فلك الشأن الخاص، ولا تنتميان إلى الشأن العام كرؤية معرفية. وبرغم التباين في مضمون خطب هذه النخب وطبيعتها، فإن مشتركين كبيران يجمعان بينها هما: أولهما الدور الأداتي لكل نخبة، إذ ظلت العدة الإيديولوجية التي تستخدمتها كل قوة بما تمثل في معاركها السياسية فتبرّر وتنظّر لقوتها في وجه القوى والفئات الأخرى. وثانيهما، الطبيعة الإيديولوجية لخطب هذه النخب، إن من حيث التعبئة والتحشيد أو من حيث التمويه والتزييف. وقاد هذان المشتركان عند هذه النخب إلى لعب دور المحرض على الصراعات والمنظر لها، فصارت بذلك أداة التعبئة والتحشيد وأداة التمويه والتزيين والتزييف، التي أخفت الطبيعة السياسية لهذه الصراعات بحجج إيديولوجية. ولما كانت الصراعات تُخاض بالسلاح، كان هذا السلاح يؤجّج المخاوف بين المجتمع الأهلي، مؤدّياً إلى دورات من التدمير والتدمير الذاتيّ. باختصار، تجمّعت في يد هذه النخب ثقافة "سياسيّة" هي تراكم أوليّ صلب من نظام القرابة والدين والقوميّة، وهذا التراكم هو نفسه ما يعاود الظهور إلى الواجهة لدى الاصطدام بأيّة مشكلة جديدة، كما يواكبه خليط من وعي مملوكي سابق على الدولة مداره الرابطة الدينيّة، ووعي موضعي هو أدنى من الدولة أساسُه نظام القرابة التي تتوسّع فتصير طائفة مذهبية أو جماعة إثنيّة. بهذا المعنى، أدى هذا البنيان المعرفي الدائري، المنغلق على نفسه وعلى مصالحه الخاصة إلى استبعاد مقصود للدولة كمفهوم جامع، انسجاما مع استبعاده الشأن العام كخيار معرفي عام. فالعصبية لا تؤدي إلى قيام دولة المؤسسات، حيث أن الأخيرة يفترض ذوبانها كلها في هوية جديدة لصالح المصلحة العامة، مما يعني أن كذبة ثقافية أخرى يروج لها على نطاق واسع، تتمثل في هذا "الوطن النهائي لجميع أبنائه" الذي يطعن به الجميع عمليا في كل مسألة وكل شأن يوميا. المشهد الثقافي العراقي الراهن لا ينبئ بتغير ايجابي، فالنخب المؤثرة ازداد صفاؤها الطائفي والإثني وتراجع تأثير النخب العلمانية سواء في الأحزاب أو منظمات المجتمع المدني، لا بل استتبعت، في غالبيتها للأولى، وغدت أكثر تماهياً مع قواها السياسية وتلعب دور أداتها بامتياز. كما أن خطب هذه النخب اغرق بالايدولوجيا بما لا يقاس بإغراق المرحلة السابقة، فغاب الكلام السياسي أو غّيب ليحل محله كلام الهوية والرسالة والمشروع وما فوقه، وإذا ما حضر الكلام السياسي، أو بعضاً منه، حضر لينقض مقومات الاجتماع السياسي وانتظامه. كما تراجع حجم النخب الثقافية الرافضة منطق الحرب لتقتصر على بعض المثقفين في بعض الصحف وفي صفحات الثقافة والرأي وعلى قلة من السياسيين المرتبكين في تصريحاتهم. بيد أن الغلبة لا تتعلق بالعدد وإنما بالقدرة على ممارسة دورها كنخب مؤثرة. فهناك نخب مهمشة لا تندرج في هذا الانقسام ولكنها منكفئة وصامتة، ضجرت من سماع الأسطوانات السياسية المشروخة، وتوقفت عن قراءة الصحف التي تحولت إلى نشرات حزبية. هذه النخب مدعوة إلى ممارسة دورها، وإلى ابتكار أفكار تساهم في بناء تصورات جديدة، ولاسيما حول النظام السياسي العراقي. الثقافة السياسية العراقية بحاجة اليوم، أكثر من أي وقت مضى، إلى نماذج جديدة للتفكير، تعترف بالجماعات السياسية، وتستقل عنها في طبقة أعلى من البناء الذي تشغله الأحزاب والتيارات السياسية السائدة في الساحة. ثمة حاجة فعلية لظهور نخب ثقافية جديدة تبتكر أفكارا بناءة. لقد طال المخاض كثيرا.
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |