جدلية العقاب والثواب بين العلمانيين والإسلامويين
 

د. جواد بشارة / باريس
Jawad_bashara@yahoo.com

ورد في عبارة عميقة ومتخمة بالدلالات المشحونة، في سياق نص للكاتب تركي الحمد، وبجرأة منقطعة النظير، المعنى التالي: "إن الله والشيطان وجهان لعملة واحدة" ـ أود التنبيه أنني سأستخدم هنا تسميتين لكائن واحد وهما إبليس والشيطان مع معرفتي المسبقة بالفرق بينهما في مختلف الديانات السماوية ـ . بطبيعة الحال لا أعتقد أن الكاتب غافل عن الفرق اللاهوتي والمعرفي بين الإسمين ولم يكن قطعاً يقصد المساواة أو المقارنة بينهما، بمعنى ألتقليل من الشأن الرباني والتعالي بالشأن الشيطاني ووضعه بمساواة المقام الإلهي. القضية برأيي أعمق وأعقد بكثير من المرادفات التي توحي بها هذه العبارة المحملة بالرمز والمعاني التي تختفي بين طياتها. فوجهي العملة ليسا بالضرورة متساويين بالقيمة والرمز والمعنى، وإن كان للعملة التي تتضمنهما قيمة مادية واحدة معلومة ومحدودة. فالقيمة تعطى للعملة بذاتها وليس لوجهيها المثقلين بالإيحاءات أو لأحدهما على حساب الآخر. لنأخذ المسألة من زاوية علم الكلام والجدل الذي دار بين علماء وفلاسفة ومفكري الإسلام طيلة قرون عديدة ولم ينته بعد. فالمسلمون ، ومن خلال مفكريهم وفقهائهم وعلمائهم ومفسريهم، هم الذين أوصلوا المتلقي إلى هذه النتيجة التي أوجزتها عبارة تركي الحمد البليغة والتي يرفضونها ويحتجون عليها اليوم ويحاربون من يستشهد بها، أي المساواة الظاهرية بين الله والشيطان، خاصة وأن الأدبيات والنصوص الدينية أضفت على هذا الأخير الكثير من الصفات والمزايا والقدرات التي جعلته نداً للإله تقريباً دون أن يشعروا بذلك أو يدركوا خطورته. يقول المسلمون أن الله قادر على كل شيء بعبارة كن فيكون. حسناً، إذا كان الشيطان كغيره من المخلوقات والكائنات والموجودات، من خلق الله، فكيف تسنى له التمرد على خالقه ورفض تنفيذ أمره بالسجود لآدم الذي اعتبره أدنى منه مرتبة وأن السجود له يعني الشرك بالله ، لأن السجود حسب فهم الشيطان هو لله وحده ،وهذا الفهم ليس من بنات أفكاره بل من عند الله الذي أمره هو وباقي الملائكة قبل خلق آدم بعدم السجود إلا للخالق وبخلاف ذلك فهو شرك وعصيان يستوجب العقاب الأبدي ، أي أن الشيطان أطاع بعدم سجوده للإنسان تعليمات ربانية سابقة حسب ما جاءت به النصوص الدينية، التي قالت أنه كان بإمكان الله أن يرغم إبليس على السجود لكنه لم يفعل وترك له حرية الاختيار وفق ما يمليه عليه فهمه وتفسيره للتوحيد الإلهي النابع من عقله الذي حباه الله به، وإذا كان الشيطان وفق الموروث الديني هو الذي يغوي ويضل بني البشر ويدفعهم للضلالة فمن الذي أغوى الشيطان ودفعه للعصيان وعدم إطاعة الأمر الإلهي إن لم يكن أمراً إلهياً موازياً وخفياً لا يعلم به إلا الشيطان نفسه؟ . أي أن الله كان قادراً على منع وقوع حدث التمرد والعصيان الشيطاني الذي قام به إبليس وزرع الطاعة المطلقة في نفسه كما كان حال بقية الملائكة ، وهو قادر على ذلك إزاء كائن هو ليس أكثر من مخلوق حقير مقارنة بموجده، لا يتميز أو يسمو على باقي المخلوقات بشيء وهي كثيرة تزدحم بها النصوص الدينية من جن وإنس وعفاريت وملائكة وشياطين وحيوانات ونباتات وجماد وغير ذلك ولكنه لم يفعل ذلك فلماذا ؟. يقول الإسلاميون أن الكمال لله وحده ولا يمكن أن يصدر من الله خطأ أو نقص أو قصور لاسيما في عملية الخلق. والحال ، في مثالنا هذا، إما أن يكون هناك نقص وقصور وعدم إتقان في عملية الخلق التي خص بها الله جنس الشياطين وعلى رأسهم زعيمهم إبليس، وهذا مالا يقبل به المتدينيون ويرفضه الإسلامويون رفضاً قاطعاً ومعهم علماء المسلمين قاطبة، أو أن يكون هناك سبب آخر خفي لا يعلمه الناس، لهذا الخلل في السلوك من جانب أحد أهم الكائنات المقربة إلى الله قبل هبوطه إلى الجحيم، ولكي يلقي الله على البشر الحجة يوم الحساب، كان لابد له من التوسل بآلية معينة تعرض بني البشر إلى الامتحان ومعضلة الخيار بين الإيمان وعدمه، وتبعد الله عن أن يكون هو المصدر لهذا البلاء، فكان أن ابتكر صيغة الغواية الشيطانية. فالإنسان الذي يصنع كومبيوتراً متطوراً ويزوده بملكة التفكير والمشاعر، أو يصنع إنساناً آلياً لديه ملكة التفكير والمشاعر أيضاً، وأصابهما خلل أو عطل فإن الإنسان الذي صنعهما هو المسؤول أولاً وأخيراً عن أية أعطال وأخطاء وقصور ينتج عن جهازيه سواء أكان كمبيوترا أو إنساناً آلياً " روبوت" لأنه هو الذي صنعهما وهو الذي برمجهما ويعرف خصائصهما الدقيقة ويتوقع ردود أفعالهما مسبقاً حسب البرمجة التي وضعها فيهما. وهذا الأمر ينطبق على الخلق الإلهي لجميع المخلوقات والكائنات والموجودات مع فارق جوهري يتعلق باتقان الخلق الإلهي إلى حد الكمال وأن الله لايمكن أن يخطيء في خلقه وهذا أمر متعارف عليه في النصوص الدينية السماوية بمجملها. وقد لمسنا ذلك في مشاهد سينمائية من فيلم ستانلي كوبريك العظيم وتحفته السينمائية الخالدة "أوديسة الفضاء 2001" عندما يتمرد الكومبيوتر على سيده ويحاول قتله ولم يكن هو الصانع للكومبيوتر بل المشرف عليه عندها اضطر إلى فصله عن مصدر طاقته وتشغيله وأوقفه عن العمل بعد صراع مرير وخطير ليتفادى تكرار خلل في الصنع قاد إلى حالة التمرد . هناك من سيرد علي بأن الله منح آدم والبشر جميعاً حرية الاختيار وجعلهم مسؤولين عن اختياراتهم . لنسأل أنفسنا سؤال عمن يقوم بعملية الاختيار لدى الإنسان؟ والجواب " إنه العقل لا غير". ونحن نعرف أن الإنسان لم يصنع عقله بيده ويمنحه ملكة الاختيار بحرية وفق ماتمليه عليه إرادته، بل إن الله هو الذي خلق العقل للإنسان كما تقول النصوص الدينية المقدسة، وبالتالي فإن الله هو المسؤول الأول عن اختيارات العقل الإنساني الذي خلقه ووضعه في رؤوس البشر وأن البشر ليسوا سوى وعاء أو سند فيزيائي لحمل هذا العقل فالمسؤول عن أفعال العقل هو الله وليس الإنسان الذي كلف بحمله ليس إلا. فلماذا يعاقب الإنسان ككيان مادي أو يثاب على اختيارات لم يقم بها هو بل عقل خلقه الله فيه وبرمجه لكي يختار هذه الطريق أو تلك. وهذا يجرنا إلى مراجعة أطروحة العقاب والثواب الدنيوي والآخروي ومصداقيتها التي استخدمتها الأديان السماوية للتحكم ببني البشر وتسييرهم وإحكام السيطرة عليهم . بمعنى آخر أن تطبيق التشريع الإلهي، كما يروج له رجال الدين والكهنة والاكليروس هو إجحاف بحق البشر الأبرياء من كل فعل سيء صدر منهم بحكم مقولة القضاء والقدر والخير والشر أي الثنائية الأزلية التي حكمت السلوك البشري منذ فجر الإنسانية.

إن أطروحة الخير والشر والقضاء والقدر وارتباطهما بمفهوم العدل الإلهي الذي لم تنجح الأديان السماوية في تسويقه نظراً لتناقضه مع ما يحدث للعالم منذ البدء من مآسي وفواجع وكوارث وتباينات وتناقضات ومفارقات وعدم مساواة ومجاعات وفقر مدقع وثراء فاحش وقتل ودمار وتخريب وأوبئة وأمراض فتاكة الخ... كان أحد الأسباب الرئيسية في الانحراف عن جادة الصواب والتمادي في مثل هذا الجدل السفسطائي.

فمن البديهي أنه لايمكن أن يكون الله في آن واحد مصدراً للخير والشر حسب الأيديولوجيات الدينية. ولكن إذا كان الله هو مصدر الخير وفق المنطق الديني فما هو مصدر الشر إذن ؟ هل هو إله آخر؟ وهذا هو الشرك بعينه. وإذا كان الله هو مصدر الشر فما الحكمة من ذلك ؟ قد يكون الله شاء ألا يكون هو المصدر المباشر للشر فاختار للشيطان مصيراً لايطيقه أي مخلوق آخر سواه ليجسد رمز الشر ومصدره المباشر على مدى الكينونة ويكون هو مصدر الشر على الأرض ويتحمل اللعنة الأبدية، ولكن هل يمكن أن يكون الشيطان هو وحده المسؤول عن الشر الكوني، أي في أرجاء الكون اللامحدود أو اللامتناهي؟ فلو أطاع الشيطان أمر ربه في أمر السجود لآدم أو تاب ، والتوبة مقبولة من الجميع كما تقول الأديان، لما ظل هناك سبب لوجود الأديان السماوية التي أريد منها التعريف بالله وعبادته. إذا فالشيطان ضرورة في هذه المعادلة لمعرفة الله ولمعرفة الخير الذي يمثله بمقارنته بالشر الذي جسده الشيطان بأمر من الله . من هنا يمكننا القول أن الشيطان أطاع ربه في عملية تمرده على أمر ربه بالسجود لآدم كما تقول الأسطورة الدينية، وذلك تنفيذاً لمشيئة ربانية خافية عن عقول البشر، أرغمته على عدم السجود، وبالتالي لم يكن خياره الحر هو الذي أملى عليه موقفه المتمرد هذا بل طاعة عمياء لمشيئة إلهية ستبنى عليها جميع أركان الوجود البشري على الأرض . وهذا الطرح ليس جديداً فقبل أربعون عاماً، وبالتحديد سنة 1969 تجرأ الفيلسوف والمفكر العلماني الدكتور صادق جلال العظم في كتابه "نقد الفكر الديني" على طرح هذه القضية وبتفاصيل علمية واسعة ودقيقة أحدثت الكثير من اللغط وردود الأفعال من جانب المؤسسات الدينية الإسلامية الرسمية ورجال الدين .واستشهد بنص لتوفيق الحكيم عن توبة الشيطان وتعرض شيخ الأزهر للحرج الشديد إذ ليس بوسعه قبول توبة إبليس حتى لو كانت صادقة لأن ذلك سيعني وقف الصلاة وقراءة القرآن المبنية كلها على لعنة الشيطان الأبدية.

تقول النصوص الدينية لكافة الأديان أن الله اختار الصفوة من خلقه ـ أي أن هناك تمييز بالأساس في عملية الخلق وهو مناقض لمبدأ العدالة الإلهية ـ ليقودوا ويوجهوا ويرشدوا باقي البشر، لما يتمتعون به من خلق عظيم واستقامة ورجاحة العقل والذكاء الفطري. أي أن الله خلق الناس درجات ومستويات مختلفة والصفة أو النخبة من بينهم عرفوا الله بعقولهم قبل قلوبهم ثم جاءهم البيان عبر الوسيط الرباني، فما ذنب الباقين الذين لم يسعفهم ذكائهم ولا رجاحة عقولهم بالاهتداء إلى الله حيث لم يبق أمامهم سوى الطاعة العمياء؟ وما ذنب الجاهل والمعتوه والمجنون والمنغولي أو ناقص الخلقة والتكوين ،وكيف سيثاب أو سيعاقب من ينتمي إلى هذه الفئة من البشر إذا كان انحرافه وزيغه وعدم إيمانه نابع من نقص في عقله وتفكيره أو عدم معرفته بالمرشد والموجه والنبي الذي أرسله الله، وكيف نوفق ذلك مع ما جاء في مضمون الآية التي تقول : إن في خلقه لآيات لأولي الألباب . وكيف لمن لا يمتلك الذكاء والمعرفة والاطلاع أن يتمعن بآيات الله وبدائع خلقه وهل اختار هؤلاء أن يكون مصيرهم كذلك؟ هذه مقدمة وتساؤلات سوف تقودنا لتعميق وتطوير البحث للوصول إلى النتائج المرجوة.

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com