|
(الشخصية العراقية) بين التفكيكية و التحليلية..
سهيل أحمد بهجت هناك مجموعة إشكالات فلسفية يعيشها العقل العراقي ويريد هذا العقل أن يحصل لها على إجابات وتحليلات تكشف عن سر هذه العقد الفلسفية الاجتماعية المرتكزة على الفرد المغترب في ذاته، وحينما نقول "عقل عراقي" فنحن هنا لا نطرح جملة مواضيع تتعلق بالمجتمع ككل بقدر ما هوسؤال عام يطرحه كل فرد منتم إلى هذه الأرض، وهذا السؤال يشبه السؤال المنطقي الذي تسرب إلى العقل الأكاديمي الأوروبي وفي مركزه الألماني تحديدا، والعراق بالنسبة إلى العالم الإسلامي هوكنسبة ألمانيا إلى العقل الأوروبي، هذا المركز مؤثر ومتأثر في الوقت نفسه، بمعنى أن الانعكاسات الثقافية والاجتماعية في هذا البلد لها تأثير على المحيط أكثر من أي شعب آخر، ونحن نريد لهذا الانعكاس الذي سينتج عن الشعور بالذات أن لا ينتهي إلى ما انتهت إليه ألمانيا في بدايات القرن العشرين وقيام الدولة النازية، ولكن لأن الذات العراقية تختلف من بعض الأوجه عن ألمانيا فإن من الجيد أن الفكر القومي كبديل عن الذات الثقافية الحضارية العراقية قد سقطت في العراق حتى قبل 2003 والإطاحة بالصنم. إن العقل العراقي والذي انتبه إليه الأولون في العصور الإسلامية بأنه عقل "جدلي" ووجده الجاحظ عقلا إيجابيا لأنه يرفض المنطق السائد في محيطه وهوالخضوع للحاكم دون سؤال وجواب وتمحيص وتدقيق، فالعقل العراقي منذ نشأته وبروزه خلال العصور الإسلامية هوعقل يمتاز عن غيره وحتى عن محيطه العربي والعجمي على حد سواء، فالعراقي العربي يختلف ويمتاز بصفات عقلية ومنطق يكاد يكون خاصا بهذا العراقي والشيء ذاته يتعلق بالعراقي الكردي والتركماني والشيعي والسني والصابئي والمسيحي، صحيح أن سياسات أنظمة معينة ساهمت في تشويه هذا العقل وجعلته ينخدع بالانتماء الكاذب نحوالقومية والطائفة، وما عرض العقل الفردي العراقي إلى الزعزعة هووقوعه على تقاطع طرق مع أمم وشعوب أثرت فيه كشعور بالذات على العكس من الحالة الألمانية التي اندمجت في الشعور الأوروبي وبفضل الجدار الروسي الذي منع أي موجات غزوبعد أن تم طرد المغول وهزيمتهم وتحولت روسيا إلى جدار طبيعي لأوروبا، من هنا فإن العراق يعاني أكثر من التدخلات وإن كنا الآن سائرين نحوبناء الذات العراقية وترميمها من خلال إعادة بناء الدولة. العراقي كفرد نشأ منذ قرون على التعامل مع الدولة كعدووخصم لأنها تمثل بالنسبة له "دولة القهر والغلبة" بينما تعامل قسم صغير من العراقيين مع السلطة على أنها ظل الله في الأرض وأنها تستعير شرعيتها من الدين وهذه الأقلية التي حكمت البلد بالنار والحديد والإرهاب هي نقيض العقل العراقي الأصلي الذي ينظر إلى السلطة بنوع من الشك والريب وعدم الثقة، والسلطة هنا ليست حكومة بغداد وإنما حتى المحافظون والولاة وجباة الضرائب والعسكر والسلطات الأمنية وحتى أصغر موظفي الدولة، لقد كان العقل العراقي على الدوام يخاف من فقدان الدولة لكثرة تعرضه لغزوات البدووالشعوب المجاورة التي كانت على الدوام تطمع في أراضيه الخصبة وثرواته التي كانت تبني دولا وحضارات، وفي الوقت نفسه فإن هذا العقل يكره السلطة والحكام لأنها كانت في الأغلب سلطة غاشمة لغياب الاستقرار السياسي والاجتماعي، عدا قرنين من العهد العباسي الثاني، وهذا التناقض بقدر ما هوسلبي من جهة أنه مع العاطفة كارثة ولكن هذا الشعور لوسُخّر في نظام ثقافي متناسق فهوقادر على بناء عقل عراقي يستوعب حس الحب والكراهية تجاه السلطة، فالسلطة إيجابية كونها تبعد الفوضى وتنسق العمل الإنساني ولكن هذه السلطة سلبية من جهة تحولها إلى آلة بيد المغامرين ومحبي الهيمنة والسيطرة. جدلية الفرد والدولة يجب أن تنتهي باتفاق سايكولوجي نفسي مبني على إعادة النظر في كل المسلمات وأن العقل العراقي بحاجة إلى ثورة عقلية ـ بدل الثورات المسلحة التي حطمت الواقع العراقي ـ تكون بمثابة مراجعة ومواجهة مع كل الموروث الديني والسياسي وحتى الأخلاقي، إن الفرد العراقي لا بد له من أن يُدرك أنه هوالمركز الذي تدور في فلكه كل القيم والأعراف والقوانين، بمعنى أن هذا الفرد هوهدف الدولة وليس من هوية للعراق غير هذا الفرد والذي هومضافا إلى أقرانه ـ الأفراد ذكورا وإناثا ـ يشكلون معا الهوية العامة وإن كان الفرد العراقي يحمل معه ذاتا ترتكز عليه الدولة العراقية والنظام العام، فلا قيمة للأعراف الاجتماعية والدين وحتى الأخلاق إذا ما كانت ستقف حاجزا أمام هذا الفرد لينطلق نحوخطه في الحياة الحرة والتعبير عن الرأي والبحث عن الله وغير ذلك من الأمور الوجدانية التي هي حقوق قائمة بذاتها وليست مصنفة من قبل حزب وفئة مرجعية وقومية عرقية، لأنها بديهة من بدهيات العقل العراقي. ليس من الانعزالية أن يحاول الفرد معرفة ذاته وطبيعة وجوده كذات مفكرة لديها ـ الضمير يعود إلى الذات ـ مهمة وهدف سامي ينتظر الفرد نفسه كيفية استكشاف الوصول إليه في أن يصبح سيد الموجودات عبر تنجيز ـ اشتقاقا م الإنجاز ـ حريته وجعل هذه الحرية جزءا من الوجود وإنقاذا للدين من العقل التبريري الذي جعل الإسلام تبريرا وحشيا للظلم والتخلف، إن الفرد يمثل البعد الداخلي الذاتي بينما المجموع (الشعب) يمثل البعد الخارجي الذي يؤثر في الذات (الفرد) بشكل سلبي أفقده ذاتيته كون هذا الفرد لا يكشف قناعاته الحقيقية بسبب ضغوط خارجية، بينما الفرد الذي هوذات الأمة وهويتها وهدفها وغايتها مغيب ومقيد بأفكار ومعتقدات وافدة غريبة وطارئة على العقل العراقي سواء كان هذا الوافد والطاريء اعتقادا دينيا ونعرة وشعورا قوميا وقيما عشائرية، فالغاية العراقية هوخلق ذلك (الفرد العراقي الحر) الذي يمثل ذات الأمة العراقية الحرة، لذلك كان من ضرورات حركة التاريخ أن يتحول العراقي من أفكار إلى أخرى إلى حين أن نراه يعثر فعلا على ذاته العراقية. هناك الآن مقاومة دينية وقومية ورفض للشعور العراقي – الذي هوحتمية تاريخية – ولكن عبثا يحاول القوميون "عربا وأكرادا وتركمانا" وقف هذا الشعور الذاتي بالانتماء والذي سيتحول بمرور الزمن إلى واقع يغير كل ما هوموجود على الساحة، فالشعور هوإدراك وإحساس بالوجود والتملك الذي يكوّن أساس الدولة الجديدة التي يملك شعبها ذاكرة تاريخية عميقة من الظلم والمعاناة والألم وبالتالي فإن كل الأطروحات الفكرية الدينية مثلا اضطرت أن تتكيف مع الوعي الوطني الإنساني العراقي وتتخلى عن خطابها الفقهي اللاهوتي نحوآفاق العراق التي تتجاوز الدين والقومية في آن واحد، فالعراق جذوره أقدم من كل الأديان السماوية والأرضية التي وجدت على أرض العراق ومن الطارئ على الفرد العراقي أن يبني دولته على كل ما هوطارئ وجديد ولا يكون عميقا بالمعنى الذاتي للوجود العراقي فيكون من السهل على من يحمل "قناعات طارئة" أخرى أن يهدم بنيان هذه الدولة. هناك من المرتزقين القوميين – ممن يرتزق عبر الثقافة – من يروج لفكرة مفادها أن القوميات في العراق تعيش حالة من التنافر وأن ما يسمونه "المكونات" تنظر إلى بعضها البعض نظرة كراهية ورغبة في "الطلاق"، هذا الطرح الذي يأتي من خارج التاريخ ومن خارج = ضد العقل الباطن العراقي هوطرح فاشل سبق للبعث ومرتزقته من حاول فرضه عكسيا، فالبعث حاول خلق وحدة "إجبارية" مبنية على طارئ – القومية – ومن يروج للتقسيم فهوأيضا يستخدم خطة "طارئة" تقسيمية إجبارية، وهذا الفكر ما دام طارئا فهويحكم على نفسه مسبقا بالفشل لأنه إخبار للذات العراقية بغير حقيقتها وكل ما يستطيع هؤلاء المرتزقة والقوميون أن يفعلوه هوفقط تأخير ساعة الحقيقة، هذه الحقيقة التي هي غاية "بديهية" غائبة في التعقيد اللا واعي والذي يسعى من خلال علاقاته المتناقضة إلى الوصول إلى غاية اللا وعي التي هي الوعي الحقيقي لكنها غائبة في المتناقض الذي يتكون من جملة طوارئ – جمع طارئ أي محدث – ستنتهي لا بمعنى الإلغاء ولكن الانسجام في الوعي النهائي. إن خلق أي هوية – دينية كانت أم قومية وحتى أممية تتجاوز حدود العراق كالماركسية – هي هوية كاذبة ومزيفة وتريد خلق نقيض الدولة في الدولة مما سيعني فتح الباب على مصراعيه للعقل التفكيكي لا التحليلي كون الفكيك يختلف عن التحليل بشكل كبير، فالتفكيكية تتعامل مع التنوع بنزعة "انفصالية"، بينما التحليلية تراعي الاختلاف بشرط أن لا تتناول الذات العراقية المقدسة كغاية نبيلة بالأذى والانتقاص، فالتنوع هوكائن طبيعي ووليد غير طارئ لنظام الحرية الفردية كون السائل مهما انقسم فهويتحد بكل سهولة، بينما التفكيك يتعامل مع (مفاصل) وأجزاء قابلة للكسر والتناقض والتضاد وهوما يمثل جانبا سلبيا من تكوين دولة قائمة على أجزاء تنظر لنفسها بعين الاختلاف والقسمة كمقدمة كاذبة للحقيقة العراقية التي ستتحول بفعل التفكيكية إلى "كذبة" يجب إلغائها – وإن كان من المستحيل ذلك – فإن هذا الإلغاء سيكون مجرد تأجيل آخر للحقيقة العظمى التي هي الهوية العراقية.
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |