اشكالية الحداثة والتحديث في المجتمعات العربية

 علاء الخطيب/ أكاديمي عراقي 

alkhatib_66@hotmail.com

يعتقد بعضٌ من علماء الأجتماع والمثقفين في منطقتنا العربية على ضرورة إيجاد صيغ للتجديد والتحديث في بعض نواحي منظومة القيم الأخلاقية والمفاهيمية حتى تتمكن عجلة الحياة من الدوران لتساير حركة العصر, في حين يعتقد البعض الآخر بالتخلي أو رفض المنظومة الأخلاقية و المفاهيمية والسوسيوثقافية القديمة وإحلال منظومة قيَّمية جديدة أو ما يطلق عليه بـ ( الحداثة) مبررين ذلك بحالة التخلف الثقافي وظهور اتجاهات راديكالية متشددة في مجتمعاتنا جراء التمسك بالمنظومة القديمة أو ما يكمن تسميته بالموروث , وفي خضم هذا السجال والتنازع يتسائل البعض عن حاجة المجتمعات العربية الى مثل هذه الخطوة , مما يعني الإنتقال من مرحلة تاريخية الى مرحلة تاريخية أخرى أي بدايات ونهايات المنظومات القيَّمية, إلا أن أصحاب الأتجاه الثاني يواجهون أعتراضا ً حادا ً ووجيهاً على طروحاتهم , وأول تلك الأعتراضات هو أن  مسار التاريخ تحكمه آلية تكون بمقتضاها مراحل الانتقال من مرحلة الى أخرى أو من قرن الى قرن كما هو الحال  عليه في أوربا في المنعطف من القرن العشرين حين لفظت الدول الثيوقراطية ومنظوماتها القيَّمية المصاحبة  لها أنفاسها ولم تعد قادرة على الحياة فكان لزامنا أن تبرز منظومة جديدة تحل مكانها وبالفعل لقد ظهرت منظومات معرفية وإيديولوجية اسست الى عملية الإنتقال هذه , فالثورة الصناعية الأولى تعتبر بمثابة الأس الحقيقي والدعامة التي هيأت للحداثة , أذن فالانتقال هو حاجة طبيعية  مصاحبة لرفض إجتماعي للقيَّم القديمة وإحلال قيم جديدة , وهذا الأمر لاينطبق على مجتمعاتنا العربية  فلا تلوح في أفق مجتمعاتنا  أي بوادر لموت المنظومة القيمية الحالية بل العكس هو الصحيح أي بدأت منذ أواسط الخمسينات عملية تكريس وإستماتة في التمسك بالمنظومة القديمة , صحيح ان هناك تخبط كبير في أنماط الحياة في المجتمعات العربية فالبعض ينحو نحو التشدد وهناك من يحمل عقدأ من الموروث فيتجه وهم ((النخبة )) نحو التغريب ورفض الموروث القديم ورفض الدين  (( بأعتباره من الموروث بنظر الحداثويون )) ونزعوا نحو الحداثة بمعناها الجيوسياسي  لا بمعناها العملي أي التحديث والذي هو  ضرورة تفرضها الادوات الحضارية التي لا مناص من إستعمالها  فالسؤال المطروح هنا هل نحن بحاجة الى الحداثة أم الى التحديث, وإذا كنا بحاجة الى الحداثة فهل هناك موت لقيمنا الحالية  المرتكزة على الدين  , وللإجابة على هذا السؤال يجب علينا معرفة كلا المصطلحين . فالحداثة  ليست ذات تعريف واحد وحتى  في اللغة الأم ليست واحدة فهناك  ثلاث مصطلحات متداولة  هي الحداثة ( modernism ) ، والمعاصرة ( modernity ) ، والتحديث ( modernization ) وغالبا ً ما تترجم  المصطلحات الثلاث لمعنى واحد هو الحداثة على الرغم من إختلافها شكلا ُ ومضمونا ً, فالحداثة مذهب أدبي فلسفي وهو وجه من أوجه المذهب العلماني , فكما يعرفها عالم الاجتماع الفرنسي ((الآن تورين A. Touraine )) هي ثورة الإنسان المستنير على الموروث وهي تقديس للمجتمع وخضوع لقانون العقل الطبيعي وهي بذات الوقت إنجاز للعقل ,  ومعنى ذلك أن العقل هو من يحدد أقدار الناس فالتكامل الإنساني من خلال النزعة المادية فقط ولا دخل للنزعات الاخرى كالنزعة الاجتماعية والروحية ( الدينية) ,   لذا فالحداثة تعتبر أن السعادة كامنة في إتباع الإنسان لنزعاته المادية  أي من أراد أن يكون سعيدا فعليه أن يسعى وراء هذه النزعة . فالعقل وحده القادر على إلغاء الموانع والحواجز والقيود للوصول الى السعادة وكما يقول تورين هي عملية إخلاء الطريق للإنسان المستنير لكي يبدد ظلمة التقاليد وهو رجوع الى عالم الإقتصاد الشهير ( أدم سمث ) صاحب النظرية المعروفة ( دعه يعمل دعه يمر ) ويضيف تورين قوله أن البشر ينتمون الى عالم تحكمه قوانيين طبيعية يكتشفها العقل ويخضع لها وحينها يصبح الشعب مرادفا ً للأمة وهو جسد إجتماعي يخضع لقوانيين طبيعية فعليه أن يتخلص من الاشكال التنظيمية غير العقلانية التي تحاول كسب الشرعية بالوحي الألهي أو بقرار غيبي . وهذا الكلام واضح لا لبس فيه وهو مغاير تماما ً مع ما يعتقده الشارع في مجتمعاتنا العربية , فلا شك أن المنظومة القيمية الأخلاقية في الشارع العربي هي منظومة تعتمد الى حدٍ كبير على الدين إذ يعتبر الدين مقوِّم ثقافي وإجتماعي فلا يمكن أن يقبل المذهب الحداثوي بصيغته المطروحة هذه , فالقرآن الكريم وإن أعطى دور للعقل فأنه لا يستبعد البعد الروحي والسماوي من معادلة السعادة فيقول الله عزوجل (( يامعشر الجن والأنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فأنفذوا لا تنفذون إلا بسلطان )) والسلطان هنا المشيئة الألهية فالعقل وحده غير قادر على إيجاد السعادة . وهذه المفاهيم الدينية هي المسيطرة لحد  الآن على الشارع فكيف لنا ان ننادي بالحداثة ولم ننتقل بعد الى مرحلة تاريخية أخرى يكون بمقتضاها الإنتقال ضرورة وليس تقليد , ولايمكننا التجزيء والانتقاء من الحداثة كما نريد أو كما يرى البعض من الحداثويين فأن بعض منظري الحداثة يرون أن الشرق المعتدل يجب أن يضم الى قافلة الحداثة الغربية وليس الحداثة في الغرب وهي بحدود ثنائية السيد والعبد كما يصفها هيجل ,  فالحداثة صفقة واحدة إما أن تأخذ كلها أو تطرح كلها , إذن المراد التحديث وهو عملية تجديد القديم وليس رفضه وهي عملية ملائمة وضرورية لمجتمعاتنا العربية فكثير من الموروثات الإجتماعية هي موروثات لم تعد صالحة ولا تستند الى شئ من العقلانية أو الدين, وأن الأنظمة التي تدار بها مجتمعاتنا يجب أن تحدَّث لكي يتمكن المجتمع من النهوض والأستمرار . فالاعتماد على التكنو قراط وإدخال التكنلوجيا الحديثة عملية تجديد وتحديث وليست عملية حداثوية  أما ان ننحو على سبيل المثال في الفن والأدب  منحى حداثوي  فهذا هو المرفوض والمفصول عن المجتمع وإن صفقت له النخبة وفالادب والفن هو بالتالي نتاج قيمَّي إجتماعي فكما هو الفن في أوربا نتاج قيمَّي فالحال ينطبق تماما لدينا . إذن الحداثة قد نشأت وتبلورت في شرط تاريخي تمثل بتصاعد التفاوت الطبقي والتهميش السياسي والسوسيو ثقافي مع مصاحبة الوعي الاجتماعي العام فكانت نتاجا ً طبيعيا ً للمجتمع الرأسمالي الغربي  وهذا الشرط غير متوفر في مجتمعاتنا العربية  الآن على أقل تقدير ولعلنا نمر بنفس المرحلة المذكورة حينما تأتي الضرورة . فالمطلوب و الملح هو التحديث والتجديد .

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com