|
الشقراء (1) "مهداة الى عام 2008 ....عام الاعمار كما اسموه" علي بداي أجتاحتني موجه من الزهو والاعتزاز وانا استعرض امام جمع من مسؤولي الشركات والمهندسين والخبراء الاوربيين، حضارات وادي الرافدين، متوقفا امام المحطات البارزة في مسيرة كل حضارة، قاصدا عكس صورة مشجعة عن العراق وابعاده من دائرة التخلف الحضاري التي يرسمها الذهن الغربي لمنطقة الشرق الاوسط (بعد ان ازاحه بوش ازاحة مشروطة من دائرة الشر) ثم توفير مناخ ملائم لكي تساهم تكنولوجيا الغرب بنفخ روح الحياة بالاقتصاد العراقي المسكين المسجى على سرير الانعاش . حكيت عن السومريين وريادتهم الحضارية وبناءهم للمدن المستقلة التي وحدها فيما بعد "لوكال زاكيزي "بدولة" اوروك"، ثم عرجت على دولة اكد و"سرجون الاكدي" وامبراطوريته التي امتدت من عيلام شرقا حتي المتوسط غربا وعرضت صورا مدهشة لزقورة سومرية فاتحا باب التجاذبات بشان اصل السومريين والدافع من وراء بناء الزقورة بهندستها المعروفة .اما "بابل" فقد حضيت باهتمام استثنائي لانها الاكثر شهرة في العالم بسبب من برجها وحدائقها المعلقة واستعرضت معلوماتي عن اصل الكلمة "بابل" الذي حور عن " باب الاله" دون ان انسى الاشارة الى ان اللهجة البغدادية الحالية هي خليط من لهجات ولغات كل الحضارات التي تعاقبت على وادي الرافدين ، وتحدثت كثيرا عن بابل المدينة ذات الاسوار الضخمة واحتفالات زواج الأله "مردوخ" من الهة الارض هذا الزواج المبارك الذي سيجلب الخصب للناس ، وكيف بنى"نبوخذنصر" ملك بابل الطريق من اجل استخدامه لمرور موكب "مردوخ"، وتطرقت الى بوابة عشتار، وكان لابد والحديث عن بابل ان تفرد دقائق لملكها "حمورابي" صانع القوانين الاول وقد اخترت من بين قوانينه قانون الانشاء وتبجحت باننا في العراق انشانا اول قانون انشاءات في تاريخ الكرة الارضية الذي يقول بالنص\" اذا بنى معمار بناءا وانهار البناء فقتل المستخدم او احد اهلة فيجلب الذي بنى البناء ليوضع تحته ويموت ذات الميتة\". وانتقلت الى دولة العباسيين وطبيعة حكم الرشيد وابنه عبد الله المامون الذي كان منفتحا على كل الاراء والديانات والاثنيات وكيف انشا دار الحكمة وكرم العلماء والمترجمين وفي مجمل حديثي قلت ان بغداد كانت أعظم مدينة كوسموبوليتية في العالم انذاك، وان حضارتنا هي اسهام مشترك للعرب والفرس والكرد وجاءت اسماء كابي اسحق الصابي وابن رشد والكندي وابن الهيثم وعباس بن فرناس والفراهيدي والجاحظ والادريسي وابن النفيس الذي قلت انه سبق وليم هارفي في اكتشاف الدورة الدموية وكيف ان بغداد كانت قبلة الدنيا ومصدر اشعاع العلم بحيث لم ينبغ عالم عربي او غير عربي دون ان يكون قد قصدها .. تدريجيا...احسست بنفاذ الشحنة الباقية لدي مع أنحداري الى أزمنة المراثي، وباقترابي من مرحلة انكماش الحضارات ووقوع البلاد تحت هيمنة بني عثمان وغرقها في موجات الظلام الاسيوي المستتر بالدين، لكني كنت استمد العزم من الرؤوس المهتزة موافقة ارائي وانا استفيض بالحديث عن اربعة قرون من تاريخ العراق لم تخلف اي اثر حضاري، وقلت ان معظم الانطباعات الغربية عن جلافة وفضاعة وعنف شرقنا، متأتية اصلا من حكم الدولة العثمانية وافتقار العقل الغربي لقدرة الفصل بين ماهو عثماني وما هو عربي، فربط العقل الاوربي كل المأسي والمجازر المرتكبة من قبل العثمانيين في اليونان وبلغاريا وضد شعوب البلقان الاخرى و الارمن بالاسلام وبالتالي بالعرب. وقاطعني احد السادة قائلا بلطف انه قرأ كتاب \"لونغريك \" عن العراق في فترة الحكم العثماني فاحسست بشعور قوي باني اسير على الطريق الصحيحة وانني اتقدم باتجاه كسب هذه الرؤوس لصالح مخططي . وكان لابد، للدخول في واقع بغداد الحالي ، من التمهيد بالمرور على دول الخرفان الابيض والاسود الاق والقرة قوينلو والشاه اسماعيل الصفوي، وصولا الى الحقبقة المحزنة ان بغداد هذه قد تحولت بعد عقود التقدم الى زريبة تختال فيها الحمير اختيالا الى جانب الدبابات الامريكية التي تجأر نافثة دفعات من دخانها الاسود ، وكانت رؤوس الحاضرين تواصل اهتزازاتها علامة الموافقة والتفاعل مع مااقول. لكنني..اكتشفت و بوقت مبكر رأسا من بين جموع الحاضرين لسيدة شقراء نحيفة، بتقاطيع صارمة .كان رأس الشقراء مازال محافضا على استقرارة رغم صعود وهبوط الحضارات الدراماتيكي في ارض الرافدين فلم يهتز ولو مرة واحدة ، بل واكاد اؤكد انني لمحت ظلا لامتعاض ما، وعدم موافقة يمرعلى قسمات وجهها الصارم ، خاصة حين اسهبت بسرد الكوارث والفيضانات والغزوات التي تعرض لها العراق خلال فترة الحكم العثماني. وكنت، بين حين واخر، اختلس النظر للشقراء خاصة حين اكون قد حشرت بين ثنايا كلامي تعليقا (رايته وقتها طريفا) لشد انتباه المستمعين، وكنت امني النفس بان تنفرج شفاه الشقراء عن ابتسامة تعاطف، لكني اصطدمت ذات مرة بعينيها الناريتيين تداهمان نظراتي المختلسة وكانها ارادت ان تمسكني متلبسا بالجريمة ففزعت وحولت عيني عن ناحيتها وتوجست شرا، وصرفت منذ تلك اللحظة النظر عن امكانية انتزاع ابتسامة من وجه الشقراء، ورضيت بالحد الادنى اي ان تبدي ملامحها المتاهبة للقتال حيادا من شكل ما. ومالبثت شكوكي ان تحولت الى مخاوف انعكست على تصرفي بمحاولاتي الانتهاء من العرض داعيا الحاضرين دعوة سريعة الى التخلي عن الاحكام المسبقة بخصوص التخلف العربي والاسلامي ، وكان لابد بالطبع ، من باب اللياقة أن اتوجه الى الحضور بالسؤال ان كان لدى احد منهم مايود قوله ، وفي هذه الاثناء كانت الشقراء قد انتهت للتو على مايبدو من ترتيب ماكان يدور داخل رأسها الجهنمي فطلبت الحديث واعتلت المنبر فبدت لي ملامحها عن قرب ، سيدة فولاذية شقراء لا خير يرتجى منها ، لم تبتسم فأحسست ببرودة تجتاح اوصالي: ماعساها تقول هذه الشقراء الصارمة؟؟ الشقراء (2) علي بداي بدأت الشقراء بكلمات شكر ميتة لابد من قولها في هكذا مناسبة ، وبدت لي ملامح الشفراء لوهلة جميلة، وتذكرت بابلو نيرودا حين قال: اذا كانت البحار تتشكل من مصبات الانهار العذبة فلماذا تكون دائما مالحة؟ فملامح هذه الشقراء منفردة، حلوة لايعيبها شئ، لكنها ككل بدت لي مالحة... معلبة كسمكة سردين تذكرك بنشاطها الافل في الماء حين كانت ربما سمكة مرحة تضج بالحيوية اما الان فهي سردينة معلبة.. لااكثر، ورثيت لحال زوج الشقراء قبل ان افكر في الشئ الذي كانت اصابعها الطويلة تبحث عنه في حقيبتها، ثم مالبثت ان انقضت علي مزمجرة: "استميح الزميل العراقي عذرا، لقد قدم عرضا مشوقا عن تعاقب الحضارات في الميسوبوتيميا .....ولكني اجد صعوبة في الوصول الى روابط او صلة بين سكان العراق الاوائل الذين انجزوا كل هذه الاعمال الهائلة ومن يسكن العراق الحالي، لقد كان زوجي في المثنى ضمن القوة الهولاندية" ..... وقفزت دون شعور مني حال سماعي الاعلان الصاعق، اذن للشقراء زوج، وهذا الزوج كان شاهدا على مايجري في العراق الان.. نعم الان وليس في زمان أشوربانيبال ولا ايام حمورابي وكان ماخشيته قد تحقق خلال لحظات اذ ناولتني الشقراء قرصا قالت انه يعرض جوانب من حياة العراقيين التي سجلها زوجها أثناء خدمته في المثنى، وطلبت مني بكلمات حاولت ان ترطبها باستخدام عبارة\" هل لكم ان تتلطفوا بذلك.." ، لكن روح وابتسامة الانثى غابت عن كلماتها الباردة . كاد الدم ان يتجمد في عروقي حين ناولتني القرص المدمج باصابعها الطويلة الباردة وتيبست كلمتا: بكل سرور في حلقي، وشعرت بخيط نار يجتاح عمودي الففري بسرعة ويكتسح جسمي كما عصب برق في سماء داكنة،. داهمت رأسي صور جموع سوداء تزحف ،بيارق وتراب يتطاير حول قدور هائلة الحجم تطبخ في العراء، ضجيج مكبرات صوت وايقاع كما اعلان بحلول يوم القيامة، نساء يندبن وظهور تدمى ورؤوس مفلوقة ، اطفال سيقوا لتمثيل دورلايليق باعمارهم، رثاثة في الملبس والكلام، والكأس التي سيلعق منها الالاف غير عابئين بشئ اسمه الميكروب،. كان المشهد كما استرجعته مرعبا ومثيرا للغثيان فكيف اذا رأه هؤلاء الاوربيون؟ مر ببالي شريط لفيلم عرضته قبل عام محطة اوربية يصور جيشا من المعوقين الزاحفين باتجاه كربلاء، طويلي اللحى وقد امتص التعب والحر شعاع الحياة من وجوههم، عارضين اطرافهم الكسيحة ورؤوسهم المشوهة واذانهم المصلومة امام كاميرات المراسلين الجوعى لاخبار الاثارة، مر ببالي جمع من النسوة الغارقات في الاسود يفترشن الرصيف المتسخ وقد ادلت احداهن بتصريح للمراسل قالت فيه انها تقصد العباس ابو راس الحار كل عام منذ سقوط النظام مشيا على الاقدام عل الامام يرزق ابنتها طفلا ذكرا بعد خمس بنات وتذكرت كيف اخطأ المراسل حينها ترجمة الاسم والقصد حين اعتقد ان هذا الاسم لقارئ كف حي تقصده النسوة في كربلاء لايمانهن بقدرته الخارقة وليس لامام مقدس استشهد منذ الف ونصف الالف من الاعوام ، فيما راحت الاخرى تخفي ملامح وجهها الكالح من عدسة الكامرا بالاختباء خلف عباءة المتحدثة، وهي تردد بتلعثم ان زوجها قد طردها من البيت وليس لها غيرالله والائمة، وحينها سالها المراسل منذ متى حدث ذلك؟ اجابت :منذ خمس سنين وراح المراسل يعلق على كلامها بالانكليزية: يبدو ان الله واثني عشر اماما شيعيا يحتاجون اكثر من خمس سنوات لحمل زوج على حل مشكلته مع زوجته فكم من القرون سيحتاجون لحل مشاكل 20 مليون عراقي مع بعضهم ومع امريكا ومع الدول الدائنة والدول المجاورة؟؟ واذكر انني وقتها قلت لزوجتي سائلا غاضبا: لو قدر لعلي بن ابي طالب ان يعود حيا ماترينه يفعل باصحاب العمائم الذين يروجون لهذا النزوح من الحياة باتجاه القبور؟؟ واذكر ان زوجتي لم تكترث لسؤالي كالعادة، فيما راح المراسل يتنقل بين النسوة المتعبات وعدسة الكامرا تتسلط على اطفال مشعثي الشعر التصقوا بارجل امهاتهم ،واخرين تبعثروا بين الكتل السوداء نائمين على تراب الرصيف والذباب يتجمع على وجوههم كما لو ان فطيسة قد نفقت للتو، وكانت جموع اخرى من الذبات تحوم على شكل غارات طنانة على وجه المتحدثة فتحاول تلك الذود عن حدود وجهها بطرف عبائتها ، وتذكرت كيف برع مقطع الفيلم بادخال لقطة لحمار يحاول طرد الذباب الحائم على مؤخرته مقارنا المشهد بمشهد الذباب المطارد امام وجه المراة ، تذكرت كيف بكيت غيضا من هذه اللقطة التي تشبه الناس بالحمير وتسخر منا بطريقة لانستطيع الرد عليها.. جالت ببالي اكداس البشر المتلاطمة مع بعضها تحرسها الطائرات فيما جيش جند السماء الشيعي يتقدم صوب المدن المقدسة لانتزاعها من التحالف الشيعي ، وتخيلت الشقراء تقف امامي بقامتها المتحدية وملامحها الصارمة وهي تتوجه لاخذ مكاني ومخاطبة الجمهور بدلا عني قائلة: وهكذا ايها السادة فما ترونه ليس الا شعب يتأهب لولوج الحياة الاخرة فيما مهمتكم حسب ماافهم ايجاد حياة متقدمة لبشر يعيشون القرن الحادي والعشرين. اذن تريدني الشقراء ان (اتلطففوا) بعرض حالنا الهالكة المزرية المتعبة على الناس.. كلا سوف لن اتلطفوا ..ورأيتني اصوب نظرة لاهبة على رأس الشقراء التي استطردت قائلة بما يشبه التفسيردون ان تعير نظرتي اي انتباه: "لان الامر بالنسبة لي يبدو كالمعكوس فسكان اوربا مثلا كانوا بدائيين في القرون الوسطى ومرت اوربا بعهود حروب داخلية ثم تطور انسانها حتى وصل الى مستواه الحالي مستفيدا من تجاربه، ومراكما لمعارفه اما هناك في العراق فكاننا نبدا من الحاضر البدائي المتخلف ونعود قرونا الى الوراء كي نصل المستوى المتطور لانسان ما قبل ثلاث الاف سنة قبل الان، واستميح العراقي عذرا.... اننا لايمكن ان نساعد من لاقدرة له على مساعدة نفسه ..." واحسست بان الشقراء تدفع بي تدريجيا الى منزلق لااقوى بعده على النهوض وفجأة كانما مدت الشقراء لي طوق النجاة دون ان تدري بعبارتها الاخيرة اننا لايمكن ان نساعد من لاقدرة له على مساعدة نفسه فقاطعتها بلطف: "انتم؟ معذرة ياسيدة انتم لم تساعدوا احدا منا يوما، لقد وقفت هولاندا طوال تأريخها وقوفا اعمى مع اسرائيل تاركة هذا الشرق الذي يفيض بالخيرات متوهمة اننا من احرق اليهود بينما كنا حكمنا الاندلس ثمانية قرون كان فيها اليهود اسعد سكان الارض، وكنا وقتذاك نحتاج مساعدتكم بان تنظروا للحقيقة فقط\" الشيطان وحده يعلم اي جنون اوحى لي بهذه الكلمات، فاسرائيل بالنسبة للهولنديين شئ خارج دائرة النقاش والتساؤل وحتى احقق غرضي واتدارك ما قد تتركه جملتي الاخيرة من اثر مدمر، لجأت الى الطريقة الهولندية البارعة في امتصاص ردود الافعال الغاضبة، حين يلونون الكلمات المسمومة بالوان القوس قزح فتبدو زاهية مرحة فقلت: "وان كنت ربما العربي الوحيد الذي استفاد من دعم هولاندا لاسرائيل" (وهنا تحققت المعجزة! لقد لامست كلماتي وترا حساسا في اعماقها فابتسمت .. اخيرا ابتسمت الشقراء ابتسامة باهتة دلت على فضول وكانها تسألني كيف؟) وتفتحت رغبات الهولنديين الفطرية لسماع مزيد من التفاصيل فاستطردت: لقد ساندت هولندا اسرائيل في حرب 1973 كما تعرفون ...فبادرت حكومتنا الثورية للغاية وقتذاك الى منح السفير الهولندي اربع وعشرين ساعة لمغادرة العراق، فكيف سيتدبر المسكين امره؟ كان عليه ان ينقل معه ماغلى ثمنه وخف وزنه تاركا عند جاره ماتبقى من امتعة، مع ترخيص منه ان يتصرف بالامتعة ان لم يعد الى بغداد خلال شهر، ومن ضمن ماتبقى من هذه الامتعة صندوق كبير من الكرتون . اشرأبت الاعناق وكانها تتأهب لسماع تكرارلمفاجأت قصص الف ليلة وليلة، ان اهتمام الحظور بتفاصيل الحياة اليومية الحاضرة يفوق اهتمامهم بتفاصيل الحضارات القديمة، والهولنديون قوم مولعون بالهذيان والثرثرة، بل ان هاتين الصفتين هما من اهم سمات النجاح الشخصية لديهم ، هم لايسمونها ثرثرة بالطبع ولكن "مهارات كلامية".. لابد ان استنفذ اذن كل ماوهبت من مقدرة على الهذيان او المهارات الكلامية، فقصصت عليهم كيف ان صاحبنا الجار كلما هم بفتح الصندوق نهرته زوجته بان "لايخون الامانه" وان "عذر الغائب معه"، وان الرجل "ربما عائد يوما ما"... وذات ليلة بعد سنتين من انقطاع اخبار السفير وقطع العلاقات مع هولاندا .. كان الجار قد تيقن من نوم العائلة فانصرف لاعداد كاس لنفسه، واستعد لان يستمتع بمفرده بالهدوء بعد يوم مليئ بالمشاغل، وهنا راوده خاطر فتح امتعة السفير ومنها الصندوق ليفتحه وليجده ولدهشته معبأ بعشرات الاسطوانات الموسيقية وجهاز كرامافون ! جرب الرجل تشغيل الجهاز ووضع اول اسطوانة على الصحن الدوار... فانسابت انغام ناعسة لاتكاد تسمع فعمد الرجل الى رفع صوت الجهاز وعاد الى كرسيه ليرتشف من كاسه، لكن..... وبعد برهة هز الفضاء دوي هائل ومزق سكون الليل قرع طبول، وابواق فذعر الجاروهب لتقليل صوت الجهاز لكن الموسيقى مالبثت بعد لحظات ان تلاشت عائدة الى همساتها الاولى التي بدأت منها فلم يعد الجاريسمع شيئا وكان يمني نفسه بان يستجيب الجهاز اخيرا لتوسلاته ويسمعه مايرغب فعاد لرفع صوت الجهاز ثانية وهنا كانت نهاية عمر الاسطوانة قد دنت على مايبدو اذ لم يكد الجاريعود الى مقعده حتى فاجأه الجهاز ثانية بصوت لرجل صارخ بكل ما أوتي من قوة يصاحبة عزف جماعي لكل الالات الهوائية والوترية ، وقرع اصناج وكأن القيامة قد حلت، فانتزع الجارالاسطوانة صارخا: ايقضت الاطفال ياابن الكلب!!!! وطوح بها في الهواء بحركة لاشعورية غاضبة لترتطم بزجاج خزانة الكتب لتكسرها وتنتحر ساقطة على الارض قطعا متناثرة، استيقضت الزوجة فزعة لتنهال على زوجها تقريعا متعدد الاسباب فهو اولا كسر زجاج الخزانة ثم ايقضها مرعوبة والاهم من هذا كله خيانته الامانة تحت وطأة السكر. وخاب امل الرجل في الايام التالية في العثور على اسطوانة واحدة بالعربية، كانت كلها من الموسيقى الكلاسيكية والاوبرا التي لم يفهمها ، وشاءت الاقدار ان ينتقل الجارللعمل في الدائرة التي يعمل بها اخي ليحدثه بهذه القصة الطريفة فعقدت الدهشة لسان اخي لعلمه بولعي بالموسيقى الكلاسيكية فاغراه اخي بخمسة دنانير ثمن التخلص من الصندوق. وهكذا وجدت نفسي اقف امام صندوق ضم روائع الموسيقى العالمية ووقفت اناجي موتسارت وروسيني وبيتهوفن وشومان وتشايكوفسكي ودي فالا الذين اختنقوا في هذا الصندوق لسنتين بسبب السياسة، لعن الله السياسة والسياسيين وهنا وصلت الى قمة التصعيد الدرامي حين ضجت القاعة بالضحك والتصفيق فوجدتها فرصة مؤاتية لقطع الطريق على قناة السموم التي تحاول الشقراء حفرها، بان بادرت بالقول: " اننا مجتمع غير متجانس المستوى كما ترون فلدينا من لايفهم الموسيقى ولكن لدينا من يحرص على تعليم ابناءه في مدرسة الموسيقى والباليه رغم مخاطر التفجير والتفخيخ، لاتخلو بلادنا من اميين لكن قراء العراق من اكثر قراء العالم موسوعية" وانتبهت الى انني في هذه القصة الحقيقية قد اوصلت العديد من الرسائل المهمة عن سايكولوجيا انساننا، فعاد الي بعض الشعور من الرضى عن النفس وكان الوقت بعد هذه المتاهات الكلامية، قد حل لدعوة الحضور لاستراحة الغداء على ان نعاود بعدها حديثنا. وهرعت الى مساعدتي العراقية التي كانت تتولى من خلف الستارترتيب مشاهد الفيديو ونقلت لها قلقي من ان الشقراء توشك ان تطيح بنا ولسوف تعرض مخازينا على الجميع! فارتبكت الفتاة وقالت : ايحدث هذا بعد كل الجهد والتفاصيل التي عرضتها؟؟ قلت: لقد عملت المستحيل لتحويل وجهة النقاش بعيدا عن المساحة التي تروم الشقراء جرنا لها، ولكنها تحاول اثارة نزعة الشك لدى الاوربي المتمسك بالصورة التي رسمت له عن عالمنا العربي والاسلامي وهذه المشاهد التي الحت الشقراء على عرضها، اؤكد لك انها سوف لن تكون سوى جموع سوداء لاطمة، ورؤوس مفلوقة، وكلاب وقطط سائبة، ارصفة غارقة بالوحل، وصبية حفاة، وحمار محمل بما لايطيق وغير ذلك من الصورالشرقية التي لاتفارق رؤوس الاوربيين...الشقراء تريد ان تقول: انهم متخلفون بالفطرة ولافائدة من العمل مع هؤلاء دعهم ينامون حيث هم.. قالت المساعدة: وكيف سنتدبر الامر وفجأة برقت في ذهني فكرة نقلتها لمساعدتي: أسمعي .. ان نتجادل مع هذه الشقراء المنحوسة حول مسيرات اللطم والتطبير وزحف ملايين حفاة الاقدام حاملي الرايات الذين يقطعون الصحارى بقصد زيارة كربلاء لايمكن ان يكون موضوعا رابحا بالنسبة لنا، سوف لن يفهم هؤلاء معنى الزيارة فهل تترجمين مقتل الطالبيين لهم؟ لدي قرص فيديو عن دخول القوات الهولندية الى المثنى بتعليق باللغة الهولندية وهو فلم دعائي معقول يبين كيف يتجول قائد الجيش في الاسواق بدون حماية سنعرضه على انه هو قرص الشقراء وربما ستنطلي عليها الحيلة على الاقل في الدقائق الاولى واذا حدث واعترضت سنجيب باننا لانملك قرصا اخر وان الوقت لا يسعفنا بالبحث في الامر .... وهكذا سنحل المشكلة على الطريقة الشرقية: التحايل ، سنبتعد عن الحقائق فاكثر مايرعبنا نحن في الشرق العرب اسلامي هي الحقائق التي لانريد ان نقر بوجودها، ونتجنب الاشارة لها ، نحن نركض امام هذه الحقائق متوهمين اننا حين ننكر وجودها ستكون هي غير موجودة اصلا، حقا ان مايسير مجتمعات الشرق هو مبدأ العار ومايسير مجتمعات الغرب هو مبدا الخطيئة ان اعترافهم بالخطيئة هو نصف التوبة كما يقول "كازانتزاكي"اما لدينا فستر العار وعدم الاقرار بوجوده يشكل كل التوبة.
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |