قصة يوسف ع رحلة حلم من سجن البادية الى عرش مصر - 7 -

 

حميد الشاكر 

al_shaker@maktoob.com 

لاريب ان رؤيا يوسف التي قصهّا لوالده يعقوب ع :(( يأبت أنّي رأيت احد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين )) كانت الجرس الذي دق بشارة خلافة الرسالة والنبوة بالنسبة ليعقوب ع في ولده يوسف، ومعروف في العلم العقدي ان انتخاب واصطفاء الرسول والنبي من قبل الله سبحانه وتعالى لايخضع لأي معيار دنيوي من حب الاباء الرسل لابنائهم او ميل الانبياء العظماء لاقربائهم، بل هي عملية خاضعة مباشرة للانتخاب والاصطفاء الالهي الخالص لعبد من عبيده لحمل رسالته والتشرّف في اصطفاءه سبحانه ليكون له بشيرا ونذيرا، ولا مقاييس محددة لهذا الانتخاب الالهي في الطبقة كأنّ يكون من طبقة الاثرياء، او في العنصر كأن يكون منتسبا لهذه اللغة او تلك، او في اللون كأن يكون أشقر البشرة  لا صاحب الشعر الاسود، او يكون صاحب كفاءات نادرة ......الخ، لا، وأنما عملية الانتخاب الرسالي والاصطفاء الالهي للبشير والنذير تأتي بخصوصية انتخابية شديدة التعقيد من قبل الله سبحانه وتعالى فحسب، وهذا مايفهمه جميع الانبياء والرسل عليهم السلام جميعا، وهذا ما اشار له النص القرءاني المقدس الذي تحدث عن خلافة ابراهيم الخليل ع  ايضا في قوله سبحانه :(( قال ومن ذريتي قال لاينال عهدي الظالمين )) !.

نعم جرت العادة في الامم السابقة ان يكون لبيت اسرائيل خالص الله يعقوب بن اسحاق ع خصوصية انتخاب اكثر الانبياء من هذا البيت الطاهر الطيّب، باعتبار ان من الشروط الصعبة لتهيئة الفرد الانساني ليُرشح للانتخاب الالهي العظيم هو البيئة الاسرّية الصالحة للتربية الخلقية العالية المواصفات، ولهذا كان الرسول والنبي من مواصفاته طهارة المولد والعفة وعدم مقارفة الجرائم او اكل اموال الناس بالباطل .... وغير ذالك، ومن هذا كانت بيوت الانبياء والرسل ارضية صالحة جدا لأنبات الاخلاق الحميدة العالية في هذا الانسان او ذاك من أناس البشرية الكثر، ولايعني ان ليس هناك شواذ في هذه القاعدة كأن يخرج رسول ونبيّا منتخبا من غير ال يعقوب ع في العالمين، ولكنّ الظاهرة الرسالية القديمة ارتبطت قرءانيا بالتحديد  بآل يعقوب لسرّ لايعلمه الا الله سبحانه وتعالى وهكذا كان !.

يعقوب ع في قصة يوسف القرءانية يستمع لبشارة بقاء الرسالة والنبوة في ذريته من ولده الصغير يوسف ع بشكل رؤيا يراها هذا الفتى، ولاريب ان أشارة النبي والرسول القادم في قاموس يعقوب ع الايحائي كانت رمزية سجود احد عشر كوكبا وشمس وقمر للرسول والنبي الجديد، فادرك الشيخ انه لايرتفع على نبي كيعقوب ليسجد له الا رسول ونبي تتم النعمة عليه بالكامل، وعندها بادر العجوز وبادراكه وذكاءه العالي جدا بوضع قوانين اللعبة في الحياة ليوسف - بعدما ادرك اصطفاء الله سبحانه ليوسف ع، - وقبل ان يفسّر رؤية الفتى يوسف ليقول له :(( يابني لاتقصص رؤياك على أخوتك فيكيدوا لك كيدا ان الشيطان للانسان عدوٌ مبين )) .

صحيح ان رؤية يوسف ع شكلت البشارة العظيمة بالنسبة ليعقوب ع، لكنها هل كانت هي البشارة ايضا بالنسبة لاخوة يوسف ع ايضا في ذهن يعقوب الاب الحنون  ؟.

أم انها وبالعكس ستشكل نكسة عائلية بالنسبة لأخوة يوسف المملوئين تطلعا لقيادة الحياة بعد ابيهم الرسول والنبي يعقوب ؟.

هذا السؤال هو اول ماتبادر الى ذهن يعقوب بعد سماع بشارة امتداد النبوة والرسالة في صلبه من خلال صغيره يوسف ع، ولهذا بادر على الفور يعقوب الحكيم  وقبل ان يضع البرنامج الرسالي القادم ليوسف عليه السلام  بذكر حقيقة لابد من التفات يوسف نحوها الا وهي :(( لاتقصص رؤياك على اخوتك ....!.))

فياترى لماذا قدّم يعقوب الحكيم هذا التنبيه والتحذير ليوسف قبل أعلامه بانتخاب الله سبحانه له لحمل الرسالة والنبوة من بعده و تأويل رؤياه  ؟.

بمعنى اخر : ما الذي اراد ايصاله لنا هذا النص القرءاني الثمين عندما نقل لنا مقالة الحكيم يعقوب ع وهو يقدم ردّة الفعل لرؤيا يوسف ع قبل شرح ماهية الفعل في تأويل هذه الرؤيا ؟.

الحقيقة ان يعقوب الكريم عليه السلام كان نبيا ورسولا ذكيا جداً في فهم الحياة الانسانية وقوانينها الاجتماعية، فهو رجل ركّب ذهنه الفكري لاستيعاب الحقيقة ومنعكسات هذه الحقيقة في الواقع قبل ذالك، فهناك الكثير من البشر بأمكانهم التفكير والتقدم والوصول للحقائق ومعرفتها في واقع الحياة الانسانية، ولكنّ القليل من أولئك البشر من يدرك ماستحركه هذه الحقائق في الواقع قبل ان توجد في هذا الوجود !.

اي ان يعقوب عليه السلام كان يفكر بعواقب الامور كما يقال قبل ان تقع، ولهذا فمجرد ذكر يوسف الصديق ع لرؤياه لوالده المربّي يعقوب انتقل ذهنه اليعقوبي الحادّ الى ردود افعال الاخوة نحو هذه الرؤيا اليوسفية قبل ان يفكر بشرح رؤيا يوسف نفسها بالاساس باعتبار ان الرجل الحكيم ( يعقوب ع ) يفهم قوانين الاجتماع والحياة جيدا، ويفهم ان لكل فعل ردّ فعل سيخلقه هذا الواقع الجديد في رؤيا يوسف فقدم ليوسف التنبيه ب :(( يابنيّ لاتقصص رؤياك على اخوتك ..)) على شرحه لرؤيا يوسف وتأويله لها ومن ثم تفسير يعقوب لهذا الحلم الكبير اولا !.

نعم العظماء من بني البشر لايقدمون على المشاريع الكبيرة والصغيرة في هذه الحياة بدون دراسة وتخطيط دقيق للخطوات التي ستتبع في هذه المشاريع، كما ان العظماء الذين يحاولون بناء العالم لايتركون شيئا للصدفة تديره كيفما شاءت، الا مايستثنى من قدر الله وقضاءه الذي لايخطر على قلب بشر، فهذا استثناء لايمكن التنبؤ بحدوثه، ولكن باقي الاشياء الاجتماعية والاخرى المعيقة الطبيعية والثالثة الضرورية الاقتصادية او السياسية التي تعتبر من صلب قوانين الحياة فلابد من التفكير بكل صغيرة وكبيرة لنجاح الانسان في الحياة والعالم، وهذا منطبق تماما على مشاريع الاصلاح الرسالية النبوية الكبرى ايضا، فما من رسول او نبي اراد ان يعلن مشروعه الاصلاحي الانساني الكبير في العقيدة والاجتماع والعدالة .... الخ، الا ووضع في ذهنه ردودَّ افعال المجتمع وكيفية تلقي هذا الاجتماع الانساني لمبادئ وحقائق هذه الدعوة،؟. وكيفية معالجة المشاكل التي ستنتجه هذه الرسالة ؟. .... وهكذا حتى نصل الى ان فكرة يعقوب الحكيم في تقديم التفكير بردود الافعال قبل حصولها هي الجوهر الثمينة التي يشير لها النص القرءاني الكريم في قصة يوسف ع عندما قدّم كلمة يعقوب ع :(( يابني لاتقصص رؤياك على اخوتك ...)) قبل ان يذكر ليوسف ع :(( وكذالك يجتبيك ربك ويعلمك .....)) في النص القرءاني التالي !.

ان يعقوب يفهم ان رؤيا يوسف ستثير او سيترتّب عليها أثارة اخوته عليه بنوع خطير جدا من السلوك يذكره يعقوب ليوسف ع في قوله المتمم لقوله :(( لاتقصص رؤياك على اخوتك ..)) وهو قوله :(( فيكيدوا لك كيدا ان الشيطان للأنسان عدوٌ مبين )) ففهمَنا يعقوب والنص القرءاني الكريم : ان رؤيا يوسف ستخلق ردتي فعل في مجتمع يعقوب ع الصغير :

الاولى : ردّة فعل الكيد، وهو عبارة ملطفة عن حياكة مؤامرة خطرة تهدد حياة يوسف ع !.

والثانية : دخول معادلة الشيطان بين يوسف واخوته، وهي ايضا عبارة عن فكرة ملطفة تريد التنبيه الى خطورة الكيد الشيطاني الذي ليس له حدود اخلاقية تذكر !.

وهنا لابد ان نسأل بعد معرفة هذين البعدين الخطيرين الذي كشف عنهما يعقوب ع في تحذيره ليوسف من ردود افعال رؤياه التي رآها الفتى يوسف ع، وجدية خطر هذه الحقيقة من قبل اخوته ان عرفوا بمنطوق الرؤيا ومضمونها، نسأل من اين فهم يعقوب هذا الخطر الكبير على حياة يوسف الكريم ع ؟.

وهل ادرك هذا الكيد من اخوته لمجرد سماعهم لرؤيا يوسف ع ؟.

أم ان الشيخ يعقوب ع ادرك ان الكيد سيخلق لاعتناءه الشديد بيوسف بعد ان فرضته الرؤيا اليوسفية على يعقوب ع من وجب الترقي في معاملة يوسف من مجرد كونه صبي صغير كباقي الصبية الصغار الى كونه اصبح منتخبا من قبل الله سبحانه وتعالى لرسالته العظيمة ؟.

في الحلقة الاتية سنتم الجواب على هذا السؤال العميق جدا في قصة يوسف ع ....

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com