قصة يوسف ع رحلة حلم من سجن البادية الى عرش مصر - 8 -

 

حميد الشاكر 

al_shaker@maktoob.com 

من المحن الثقيلة الظلّ على الانسان صاحب الرؤية لباطن وظاهر الحياة الاجتماعية  في حياته البشرية هو ان يعيش بين افراد أسرة او مجتمع صغير او كبير كان وهم لايدركون من الحياة ألاّ الظاهر من وجودها الانساني، فمثل هذا الانسان المختلف في رؤيته لواقع وحركة الحياة بقوانينها العميقة، سيعاني بالحتم من مآساة في كل حركة من حركات سلوكه في الحياة ومن كل كلمه من كلماته في العالم، ومن كل فكرة من افكاره في هذا الاجتماع، وسبب المعاناة لاشك هي ستكون زاوية الرؤية المختلفة بينه وبين محيطه الاسري او الاجتماعي لهذه الحياة  !.

فبينما الانسان الواعي تركّب جميع سلوكياته العملية ومقالاته الانسانية وافكاره البشرية على رؤية متوازنة ومتفاعلة مع قوانين الحياة الاجتماعية العميقة، نجد في المقابل اجتماع اسري وآخر مجتمعي يرى في سلوكيات هذا او ذاك من الافراد العميقين رؤية وفكرا بانها سلوكيات غريبة الحركة وشاذة الوقع، وكذا كلماتهم وافكارهم التي ربما بدت في ظاهرها انها بالنقيض من قوانين الحياة الظاهرية لهذا المجتمع السطحي الرؤية، وهنا تبدأ عملية التصادم الطبيعية والتنافر الانسانية بين هذا الانسان الذي ادرك الكثير من ظاهر وباطن الحياة الدنيا، وبين أناس فهموا جانبا واحدا من هذه الحياة الا وهو ظاهر الحياة الدنيا فحسب !.

القرءان العظيم كتاب الله الكريم ووحيه المقدس لرسوله محمد خاتم النبيين ص، يذكر هذه الحقيقة التي تميز بين ظاهر الحياة الدنيا وباطنها بالقول : ( يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الاخرة هم غافلون / 7 / الروم )

ان يعقوب بن اسحاق ع والد الصديق يوسف ع في سورة يوسف ع والاب الفعلي لاحد عشر ابنا آخرين، كان من الافراد القلائل في العالم القديم وحتى العالم الحديث ممن وهبهم الله سبحانه علم ظاهر الحياة الدنيا وباطنها ايضا، فكان لسلوكه وكلماته وافكاره عمقا من الصعب ادراك غاياتها بصور مبسطة، بل على اي انسان يفضل العيش مع العظماء امثال يعقوب ان يدرك قبل ان يقرر هذا القرار من ان العيش مع هذا الصنف من البشر بحاجة الى صبر وتأني وتأمل حادّ لفهم بعض ماتجود به افكارهم وماتلفظه السنتهم او ماتعمل به جوارحهم،بسبب ان كون هذا الصنف من البشر يعمل ليس فقط حسب ظاهر قوانين الحياة الانسانية، بل وكذالك يعمل ايضا وفق باطن قوانين الاجتماع الدنيوية كذالك، وعليه فلا غرابة عندما نجد هؤلاء الناس المفكرين يقعون في اشكاليات دائمة مع محيطهم الانساني، كما انه لاغرابة مطلقا عندما يفهم الاجتماع المحيط بهم سلوكياتهم وافكارهم وكلماتهم بصورة خاطئة تماما، باعتبار ان الفجوة بين فهم العظماء ورؤيتهم للغايات البعيدة، وبين مجتمعهم الذي لايرى ابعد من انفه ستحتم الاشكال وتؤسس لسوء الفهم وتبني جدران التصادم ولاريب !.

نعم كانت محنة يعقوب ع التي قصها القرءان الكريم مع ابنائه الكثر، انه وهب فهم الحياة ظاهرا وباطنا، بينما رزق ببعض الذرية تنظر الى ظاهر الحياة الدنيا فحسب فوقع الاشكال بينه وبين ابنائه في قصة يوسف الصديق ع !.

ولكن ماهي قصة يوسف الصديق من جهة ويعقوب وابنائه من جهة اخرى ؟.

ولماذا اعتنى هذه العناية الفائقة يعقوب بصغيره يوسف حتى اثار ابناءه بغيرة دفعت الى المكيدة والشيطنة ؟.

وهل اخطأ يعقوب -( معاذ الله )- ع في تقديم يوسف بالعناية على غيره من الابناء ؟.

أم انه فُهمَ خطأً بالفعل، ولم يكن سلوكه يفرق بين كبير وصغير في ابنائه الكثر ؟.

واخيرا لماذا اندفع يعقوب بقوة تجاه صغيره يوسف ع ؟.

وكيف فهم الكيد الذي قال بموجبه ليوسف ع : ( يابنيّ لاتقصص رؤياك على اخوتك فيكيدوا لك كيدا ان الشيطان للأنسان عدو مبين )؟.

ان يعقوب وعندما سمع رؤيا الصدّيق يوسف ع في :(( يابت اني رأيت احد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين ) استيقن الرسالة والاشارة والبشارة على ان يوسف سيجتبيه ربه ويعلمه تأويل الاحاديث ويتم عليه النعمة وعلى ال يعقوب بالتبع، فتهيئ ذهنيا ونفسيا الى  الانتقال الى مرحلة أخرى مختلفة من التربية التي يتوجب على يعقوب انتهاجها مع المجتبى الجديد يوسف، وهذا النمط الجديد من التربية والتدريب والتمرين الرسالي الذي سيفرض على يعقوب يتطلب بطبيعته او من ضرورياته عدم المفارقة بين يعقوب ويوسف عليهم السلام جميعا لفترات زمنية طويلة لالسبب معقد الا لكون أخذ العلم الرسالي المطلوب يطرح ملازمة التلميذ لاستاذه فترات طويلة وبلا انقطاع مربك لذهنية التلميذ لاسيما ان كان التلميذ صبيا صغيرا مهيئا اكثر من اي وقت آخر لتلقي العلم والحكمة !. 

 اي بمعنى آخر : ان مرحلة الارتقاء التربوي الذي تفرضه عملية انتخاب واجتباء يوسف من قبل الله سبحانه وتعالى على يعقوب ستكون اكثر تعقيدا واكثف ملازمة بين يعقوب ويوسف ع، ليهيئ فيما بعد يوسف لمشروع الرسالة القادم، فما كان على يعقوب الا ان ينبه الصبي يوسف الى أمرين حيويين في المرحلة التربوية الجديدة التي فرضتها رؤيا يوسف هذه وهما :

الاول : اننا سننتقل ( يعني يعقوب ويوسف ) من مرحلة تربوية غير ظاهرة بصورة حادة، الى صورة تربوية تتطلب الملاصقة المكثفة بين يوسف ويعقوب او بين الرسول والوصي او بين الاستاذ والتلميذ !.

والثاني : هو ان للرؤيا هذه معنى الاجتباء وهي ان يوسف سيخلف اباه في حمل الرسالة، والتعليم، وأتمام النعمة في الامامة الدينية والسياسية ايضا !.

ثم يعقب الحكيم يعقوب بما معناه ليوسف الصديق : أما حول الامر الاول فمن الطبيعي ان تكون هناك عقبة واحدة اساسية وهي ان هذه الملازمة المكثفة بين يعقوب ويوسف ع سوف تفهم من قبل الابناء الاخرين بشكل خاطئ تماما، ولاتؤخذ على اساسها الصحيح، فسوف لن يقال ان العلاقة القائمة بين يعقوب ويوسف تخطت مرحلة الابوة والبنوة العاطفية لتنتقل الى مرحلة الرسول والوصي الفكرية والعقلية، بسبب ان هذا الامر ( امر الرسالة بيعقوب والوصية بيوسف )  لاينبغي ان يعلم الا في وقته الطبيعي المنسجم مع قوانين ظاهر الحياة، والا لو ادرك اخوة يوسف للعلاقة القائمة بين يعقوب الشيخ الكبير وبين الصبي يوسف الصغير على اساس انها علاقة رسول بوصيه الا يكون هذا مدعاة للسخرية من قبل الابناء الكبار، وهذا اذا لم نقل انه سيكون مدعاة للحجر على الاب واتهامه بالتخريف وعدم العقلانية ايضا ؟.

نعم لنفرض ان يعقوب الحكيم ع قرر ان يذكر لابناءه المتكتلين بحزب القيادة والسلطة، بأن يوسف هذا الصغير اجتباه الله سبحانه ليكون خليفتي من بعدي، ويعلمه تأويل الاحاديث، ويتم عليه نعمة الامامة والملك على العالم، فهل سيصدق هؤلاء الابناء بهذا الحديث طرقا ؟.

أم انهم ليسوا فحسب سيتهمون الاب في الضلال المبين ويبيدون هذا الصغير يوسف الذي ليس له قوة تذكر، بل ويفعلون مالايخطر ببال بشر من الافاعيل العجيبة !.

وعليه كان فعل وتصرف الحكيم يعقوب صائبا تماما عندما قرر : عدم معرفة ابنائه الكبار لملامح القصة او الرؤيا اليوسفية او ان معناها هذا الخيال الواسع في قوله :( يابني لاتقصص رؤياك على اخوتك فيكيدوا لك كيدا ) وكان ايضا عمله صائبا عندما نبه لزاوية واحدة فيها امكانية ردة الفعل السلبية على يوسف وهي غيرة اخوته منه، لابسبب فهمهم وادراكهم لتأويل رؤيا يوسف وانه سيكون ويكون كما اعتقده بعض المفسرين الكرام، ولكن بسبب ان يعقوب يدرك ان ملازمة يعقوب ليوسف الدائمة سوف تفهم من قبل الابناء على انها ميل نفسي عاطفي ربما يتطور لاكبر من ذالك بين يعقوب ويوسف فيحرك الكثير من المشاكل ليوسف، وعليه نبه يعقوب يوسف الصديق بالاشارة : الى ان ملازمتي لك فيما بدأ من الزمن ستبني اشكالية طبيعية بينك وبين اخوتك، فعليك بالحذر اولا من كيدهم لهذا السبب، وعليك ان لاتنسى ان الشيطان للانسان الكامل بالخصوص عدو مبين، وادرك ايضا عدم ذكرك لرؤياك او عدم ذكر تأويلي لرؤياك هذه الى اخوتك فيكيدوا لك كيدا !.

بهذا المعنى نكون قد فهما صورة يعقوب كاملة في بداية القصة القرءانية ليوسف ع، وفهمنا :

اولا:  ان الشيخ الكبير يعقوب بدأ بالتفاته بالكليّة الى يوسف ليس بسبب انه صبي صغير بحاجة الى مزيد عطف وحنان وانه يتيم الام ... وباقي مايذكره اصحاب التفاسير القرءانية المحترمين، ولكنه التف بكليّته لوصي انتخبه الله سبحانه واجتباه من لدنّه ليكون خليفة يعقوب لحمل الرسالة بعده، ولهذا كان واجبا على يعقوب الاهيا ان يلتفت ليوسف ع باعتباره التلميذ الذي يجب ان يؤدى اليه كل اصول  الرسالة الدينية من قبل يعقوب ع، ولهذا لاينبغي القول ان يعقوب ع كان يميل لصبيه عاطفيا باكثر من الكثير لاولاده الباقين لأن هذا يعتبر قدحا في عدالة الابوة ليعقوب، وحاشا يعقوب ان يكون ظالما بمشاعره وكيفية توزيعها على ابنائه !.

ثانيا : ان هذه الاشكالية التي ظهرت على ابناء يعقوب تجاه يوسف واخيه، كانت بعد رؤيا يوسف وانها هي السبب المباشر الذي خلق حالة الملاصقة الزمنية الدائمة فيما بعد بين يعقوب ويوسف، ولم تكن حالة العداء قبل ذالك ولاسباب غير سبب الخوف من قبل الابناء على مستقبل القيادة بعد يعقوب لهذه العائلة الكبيرة وهم يرون ازدياد ملاصقة والدهم يعقوب لهذا الفتى الصغير يوسف بصورة تصاعدية ويوما بعد يوم ولهذا قالوا :(( ليوسف وأخيه أحب الى ابينا منا ونحن عصبة ان ابانا لفي ضلال مبين ))  فكانوا يتسائلون عن سبب حب ابيهم ليوسف واخيه بشكل يزيد منسوبه احتراما علينا نحن الكبار ونحن اهل العصبة والحرب والدفاع والعمل وانماء الثروة واصحاب الذرية الكبيرة ... وغير ذالك، فمانرى ابينا الا في ضلال مبين ان يحب عديم الفائدة في الحياة الصغير الذي لايكاد يجلب نفعا ويدفع شرّا، على اصحاب الحل والعقد العصبة الاقوياء ؟.

ثالثا : لاريب ان عناية وحب يعقوب ليوسف وبالتبع لاخيه بنيامين ( المصادر التاريخية تختلف بين بنيامين ولاوي اخوة يوسف وعلى اساس ان السلطة الدينية والدنيوية انتقلت في ذريتهم بعد وفاة يوسف وبزوغ نجم موسى في مصر، وعلى هذا ربما كان الاعتناء ببنيامين من قبل يعقوب لهذا السبب ايضا ) لم تكن بسبب ماذكره اخوة يوسف ع، وانما كانت العناية بسبب الاجتباء من قبل الله سبحانه ليوسف، فاضطر العجوز يعقوب ع على اظهار مالم يشأ اظهاره من عناية فائقة بيوسف المجتبى، وليس بيوسف الابن الصبي، ونعم فهم الابناء الكبار ليعقوب ع انه ميل وافضلية في التعامل من يعقوب ليوسف، ولكن منذ متى يفهم صاحب ظاهر الحياة الدنيا باطن اعمال العظماء وغاياتهم البعيدة من امثال يعقوب الكريم !.

ان يعقوب كان يرى في يوسف انه المجتبى وانه صاحب علم التأويل وانه صاحب النعمة التامة على ال يعقوب كلهم، بينما كان يرى اخوة يوسف على اساس انه الصبي الضعيف فحسب، وشتّان بين تعاملي مع يوسف الخطير جدا في عالم المستقبل، وبين يوسف اللحظة الضعيف اليتيم المنكسر الجناح !.

ان يعقوب هذا الرسول العظيم عليه ان يتأمل لوحده في عالم آخر لايفهمه الا هو او نبي رسول مثله، وهذا العالم هو عالم الوحي والرسالة، اي عالم ليس بظاهر الحياة الدنيا، وانما في باطنها تماما، وبعد ان قارب الطريق على اليأس من وجود نبي او رسول يتحدث اليه، جاءه يوسف الصغير واليتيم وبقية الامل ليعقوب ليقول له رؤيا !.

هل تعلمون كم هي سعادة رسول نبي بمنزلة ابراهيم او اسحاق او يعقوب، عندما يدرك ان نعمة الرسالة والنبوة لم تزل قائمة في ذريته وان الله سبحانه لم يشأ بالانتقال بها الى مكان آخر ؟.

لندع يوسف عليه السلام يجيب بقوله سبحانه: ((ذالك من فضل الله علينا وعلى الناس ولكنّ أكثر الناس لايشكرون /38 / يوسف)) وحقا انها لنعمة تستحق الشكر

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com