العراق بلد يمشي وهو نائم
 

د. جواد بشارة / باريس

Jawad_bashara@yahoo.com

متى يستيقظ العراق من سباته العميق وهو غارق في أحلامه، وحمم البراكين تجري من تحت أقدامه وهو لا يعلم؟ إنه كالماشي في منامه لا يعلم متى سيسقط في الهوة. فالبلد يعيش حالة من الانسداد السياسي والثقافي والاقتصادي ومع ذلك يردد قادته بدون وعي الشعارات الدعائية ويصدقونها وكأن بلدهم خرج من دائرة الخطر. هنالك في الأفق أجندات ومخططات ومشاريع ، سرية وعلنية، وتحديات تتربص به وقادته يرددون ما تمليه عليهم الماكينة الإعلامية وكأنها حقائق منزلة. ما هي الحلول الناجعة والعملية التي أعدتها الحكومة العراقية لإنهاء مشكلة النازحين والمهجرين والمنفيين في الداخل والخارج؟ ، وأزمة السكن والفقر والبطالة وتفشي الأمية والتضخم وارتفاع أسعار المواد الغذائية الأساسية وانخفاض القدرة الشرائية ونقص الحصة التموينية، ومعاناة المواطنين التي لم ولن تنتهي من جراء شحة وانعدام أو انقطاع التيار الكهربائي لأكثر من عشرين ساعة في اليوم في جحيم العراق اللاهب في فصل الصيف القاتل حيث وصلت درجات الحرارة إلى أكثر من خمسين في الظل؟ ألا يخاف حكام العراق من انفجار الشعب وغضبته العارمة التي يمكن أن تطيح بكل شيء؟. ألم يتعظوا ويتعلموا الدرس من عكوف وعزوف المواطنين عن تسجيل أسمائهم على لوائح الانتخابات بالرغم من مناشدة المرجعية لهم بالقيام بذلك؟ هنالك قوانين مهمة تمس حياة المواطن ومستقبله ما زالت الخلافات السياسية الضيقة والأنانية البعيدة عن هم الوطن ومصلحته العليا، تعيق التفاهم حولها والموافقة على إصدارها، وفي مقدمتها تلك المتعلقة بانتخابات مجالس المحافظات التي قد تكشف عورة كل التنظيمات السياسية وتفضح حقيقتها وحجمها الجماهيري الحقيقي.وهناك الملف الذي يخص محافظة كركوك، القنبلة الموقوتة التي قد تفتت العراق برمته لا سمح الله، وهناك الإتفاقية الإستراتيجية العراقية الأميركية الطويلة الأمد المنتظرة التي قد تكبل العراق لعقود طويلة إذا أغفل حكامه حماية سيادة بلدهم واستقلاله، بالإضافة إلى قانون النفط والغاز وقانون الاستثمارات الأجنبية، وموازنة العام المقبل 2009 والخلافات بين الحكومتين المركزية والكردستانية الأمر الذي سيقود حتماً إلى تحالفات وتكتلات جديدة نظرا إلى تباعد المواقف بين القوى السياسية المتصارعة على النفوذ. لا يمكن الركون إلى الحلول الجزئية لهذه المشكلة أو تلك لأنها تبقى مجرد ترقيعات مؤقتة لا تلبث أن تنفجر وتخلق بدورها مشاكل أخرى غيرها بمختلف المظاهر والتداعيات على حد تعبير الشيخ المرجع محمد اليعقوبي المرشد الروحي لحزب الفضيلة في مقابلة له مع ممثل الأمم المتحدة دي مستورا. لذلك لابد من إيجاد حلول جذرية وعملية قابلة للتطبيق لمجمل الوضع الخانق والمزري الذي يسود العراق اليوم.

إن الخلاف الذي شهده البرلمان حول قانون انتخابات مجالس المحافظات يبين عمق الشرخ بين الكتل الحاكمة المستفردة بالسلطة وبين الكتل المقصاة إلى حد التصفية أو التجاهل والتهميش، وما نشهده ونلمسه اليوم من ركود وجمود ليس سوى عينة من المشاكل والأزمات التي تعاني منها العملية السياسية الوليدة في العراق. ليس هناك خيار آخر أمام السياسيين في العراق سوى تحقيق (المصالحة الوطنية) الحقيقية و أن تجلس الكتل السياسية مع بعضها في لقاء مصارحة وشفافية وتتناقش فيما بينها لحل كافة المشاكل التي لن تنتهي من دون إعادة بناء جسور الثقة المقطوعة في الوقت الحاضر ، والشاهد على عمق هذا الشرخ وانه هو السبب الحقيقي لهذه الأزمات إن بعض الكتل التي صوتت على المادة (24) ليس لها قرار أو موقف من هذه المادة بالذات أو من الفريق العارض أو المعارض لها وإنما الذي دفعهم إلى ذلك هو شعورهم بالإقصاء ووجودهم في غير خندق الحكومة، فتجد هذه الكتل انه من الطبيعي أن لا تصوت على مشاريع الحكومة التي لا تنظر فيها الأحزاب الحاكمة إلا إلى مصالحها كما قال الشيخ اليعقوبي.

إن العملية السياسية برمتها تحتاج إلى استقلالية القرار الوطني عن تدخلات وضغوط وتأثيرات المحيط الخارجي ، الدولي والإقليمي، لاسيما تدخلات دول الجوار، والحد من النفوذ الأمريكي اللامحدود الذي يتلاعب بمصير العراق ومستقبله كما تحتاج العملية السياسية إلى عاملين أساسيين ، عامل مساعد، وهو وجود الأمم المتحدة ووساطتها الايجابية في حل المشاكل وتقريب وجهات النظر، وعامل ضاغط وهو التغيير المستمر في اصطفافات الكتل السياسية لتشكيل ثقل سياسي وجماهيري موازي مؤثر على الساحة وعلى المجتمع، لكي يرغم من يخرج عن الإرادة الوطنية أو يتحداها، على الرجوع إلى الصف الوطني وأخذ دوره الذي يستحقه في إطار المشاركة الوطنية الحقيقية، بيد أن ما يعيقنا عن تحقيق ذلك هو الإرادة الأمريكية التي ترى من مصلحتها أن يبقى الوضع السياسي كما هو عليه في توازناته الحالية لحسابات انتخابية واقتصادية وعسكرية وإستراتيجية أمريكية بحتة، لذلك تحول واشنطن دون تشكيل أي تحالف أو تكتل سياسي عراقي جديد يعمل على تغيير الوضع الحالي وإصلاحه.

جميع القوى السياسية العراقية ترغب بالمشاركة الحقيقية المنصفة في العملية السياسية وتأخذ دورها الطبيعي بغية أن يبدو كل كيان سياسي بحجمه الحقيقي من خلال صناديق الاقتراع وتصويت الناخبين واختياراتهم الحرة، فالعراق قادر على قيادة نفسه بنفسه، وهو ليس قاصر عن أداء هذه المهمة ميدانياً وعسكرياً وسياسياً واقتصادياً بالضد مما تريد أمريكا تسويقه ونشر وترسيخ فكرة عدم جاهزية العراق في أوساط المجتمع الدولي لإدامة بقائها فيه وبغطاء قانوني دولي.

الحدث الأخير الذي لايمكن أن غفل عنه يتعلق بما تناقلته وسائل الإعلام العربية والعالمية عن تجسس الأمريكيين على القادة العراقيين .

فقد إنتشر الخبر كالهشيم في النار وأحرج الحكومة العراقية التي بدأت تتساءل عن حقيقة الحليف الأمريكي الذي استغل وضعه وصلاحياته لينتهك السيادة العراقية بأفظع صورها ويتجسس على الزعماء والقادة العراقيين وعلى رأسهم رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي. وقد جاء كشف هذه الحقيقة في كتاب الصحافي الأمريكي المشهور الذي كان وراء الكشف عن فضيحة ووترغيت سنة 1974، التي أطاحت برأس ريتشارد نيكسون ، وهو بوب وودورد ، والذي عنوان :" الحرب من الداخل" الذي صدر يوم الاثنين 8 أيلول 2008 . وفي خضم تحقيقاته الصحفية من أجل تجميع مواد كتابه تطرق أحد المسؤولين الأمريكيين الكبار مع وودورد للسيد المالكي وقال المسئول الأمريكي:" نحن نعرف كل شيء عن المالكي ونعرف كل ما يقوله" وبالاستناد إلى العديد من المصادر الأخرى استنتج مؤلف الكتاب أن القوات الأمريكية المتواجدة في العراق قامت بعمليات تجسس على السلطات العراقية . وعندما قامت صحيفة الواشنطن بوست باستطلاع آراء وردود أفعال العراقيين على هذا الحدث الخطير رد مسئول في التيار الصدري قائلاً:" لم نستغرب ذلك ولم نفاجأ به فالأمريكيون يحتلون بلادنا ويمكنهم التسلل والولوج إلى أي مكان وأي دائرة حكومية أو وزارة أو مكتب مسئول عراقي مهما كان منصبه وفي كل المكاتب الحكومية وغير الحكومية".وقد امتعض عدد من المسؤولين للتصنت إلى مكالماتهم الهاتفية لاسيما الشيعة منهم الذين تربطهم علاقات خاصة ومتواصلة ومنتظمة مع طهران.وللتقليل من أهمية هذا الكشف الصحفي أعربت المتحدثة الرسمية للبيت الأبيض دانا بيرينو عن شكوكها بجدوى مثل هذا التجسس وقالت:" لدينا فكرة واضحة وجيدة عما يقوله السيد المالكي وما يفكر به لأنه يقول لنا بنفسه وبصراحة كل ما يفكر به". وهنا يطرح التساؤل التالي: هل ستعرض هذه الممارسة المرفوضة الاتفاق الأمني والاستراتيجي المتفاوض عليه حالياً بين الدولتين للخطر؟ من المفترض أن يحدد الاتفاق سقفاً زمنياً واضحاً وصريحاً لجلاء القوات الأمريكية من العراق بحدود نهاية العام 2011 على أقصى حد .لكنه ينص أيضاً على الإبقاء على وجود عسكري مقلص لفترة زمنية غير محددة وحضور أكثر أهمية تبعاً للوضع الأمني وتطوراته .

طالبت بغداد بتوضيحات وتفسيرات على ما نشرته وسائل الإعلام الأمريكية التي غطت الحدث كما صرح المتحدث الرسمي باسم الحكومة العراقية علي الدباغ وأضاف:" إذا اتضح صدق هذه الأخبار فإن من شأن ذلك أن يلقي ضلاً من الشكوك على العلاقات الأمريكية ـ العراقية. الرسالة التي يريد الكتاب توصيلها للقارئ هي إظهار أن إدارة بوش لم تع إلا مؤخراً خطورة إخفاقها المريع في العراق، وهي أطروحة اعترض عليها بشدة مستشار الأمن القومي الأمريكي ستيفن هادلي . كما يخصص الكتاب مساحة واسعة للنقاشات التي دارت سنة 2006 حول ضرورة تعزيز القوات الموجودة في العراق الأمر الذي كان يحظى بمعارضة وزير الدفاع الأمريكي السابق دونالد رامسفيلد ومعه قيادة أركان الجيش الأمريكي وقائد القوات الأمريكية في العراق والجنرال جون أبو زيد وقائد قوات التحالف الجنرال جورج كيسي كذلك. وكان هذا الأخيرة يعتبر بغداد ورطة يصعب التعامل معها وإدارتها. بينما كانت كونداليزا رايس مؤيده لهذه الخطوة وكان جورج بوش يتردد في إرسال قوات قتالية إضافية إلى العراق قبل الانتخابات التشريعية الأمريكية التي جرت في نوفمبر 2006 لأن الحرب أصبحت مرفوضة شعبياً ولا تتمتع بالتأييد الجماهيري . ولكن بمجرد أن تشكلت لديه القناعة بأهمية تعزيز القوات في العراق في بداية سنة 2007 ، واصل الرئيس الأمريكي إستراتيجيته الجديدة بحسم وإصرار كما يقول مؤلف الكتاب بوب وود ورد. لكن أضاف معلقاً :" لم تكن زيادة عديد القوات هي التي أدت إلى خفض مستوى العنف في العراق بل قدرة دوائر الاستخبارات في تشخيص وتعقب وتصفية زعماء التمرد المسلح في العراق والسياسة الجيدة التي اتبعتها الحكومة العراقية حيال العشائر السنية التي كانت خائفة ومتشككة من نوايا النظام الجديد في العراق وبالتالي شكلت الحاضنة للمتمردين المسلحين. وقد التقى بوب وود ورد بغالبية صانعي القرار الأمريكيين، ، مدنيين وعسكريين، وبضمنهم جورج بوش نفسه.

واجه البيت الأبيض حرجاً شديداً ولاذ بصمت عميق مبتعداً عن التعليقات الرسمية بعد صدور كتاب بوب وودورد . مستشار الأمن القومي ستيفن هادلي وقع يوم الجمعة 5 أيلول 2008 بياناً من سبع فقرات يدحض فيها بعض الأطروحات التي وردت في الكتاب الذي كان يحمل عنواناً جانبياً جذاباً :" التاريخ السري للبيت الأبيض" تحت العنوان الرئيسي " الحرب من الداخل" . لكن هادلي لم يشر بكلمة واحدة للمعلومات التي نشرت في صحيفة الواشنطن بوست بقلم مؤلف الكتاب التي تشير إلى أن الحكومة الأمريكية قامت لسنوات عديدة بالتجسس على رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي ومساعديه . الناطقة باسم البيت الأبيض دانا بيرينو لم تنفي كلياً وبشكل قاطع لكنها وجدت لها تخريجة لفظية وهي " ما المانع إذا كانت الاتصالات جارية بين الحكومتين العراقية والأمريكية على قدم وساق يومياً، ونعرف ما في أعماق السيد المالكي وجوهر تفكيره لأنه هو الذي يقول لنا كل شيء وكل ما يفكر به بصراحة وصدق ". وقد استجوبت وزيرة الخارجية الأمريكية كونداليزا رايس أثناء جولتها في دول شمال أفريقيا بشأن ما نشرته الصحافة الأمريكية حول هذا الموضوع فاكتفت بالرد المقتضب التالي:" لدينا علاقات دبلوماسية وسياسية مع العراقيين مفتوحة ومبنية على التعاون بيننا". لكن الجانب العراقي لم يكتفي بمثل هذه الردود الفضفاضة وطالب بإجابات دقيقة وواضحة: " فلو ثبت صحة ما نشر فإن ذلك سيترجم بفقدان الثقة ويظهر للجميع أن المؤسسات الأمريكية معتادة على ترصد ومراقبة أصدقائها وأعدائها بنفس الطرق والأساليب"على حد تعبير علي الدباغ المتحدث الرسمي باسم الحكومة العراقية الذي أضاف :" أن من شأن ذلك إلقاء ضل من الشك على العلاقات مع مثل هذه المؤسسات" . ويمكن أن تضفي المزيد من التعقيد على المفاوضات الجارية بشأن التمديد للوجود العسكري الأمريكي في العراق، التي تراوح في مكانها وتجاوزت السقف الزمني المحدد لها بالأساس في 31 تموز الماضي 2008. وسوف تعيد طرح السجال الدائر بشأن العراق في الحملة الانتخابية الأمريكية فإصرار العراقيين على جول زمني محدد ودقيق للانسحاب العسكري الأمريكي من العراق لا يخدم حملة جون ماكين حيث أعلن هذا الأخير مراراً وتكراراً أنه ضد تحديد أي جدول أو سقف زمني لسحب القوات من العراق والحال أن موقف البيت الأبيض الرافض لتحديد جدول زمني قد لان في الآونة الأخيرة كما أشار إلى ذلك باراك أوباما . تجدر الإشارة إلى أن كتاب بوب وودورود لم يصب في مصلحة جون ماكين عندما أشار إلى أن التغييرات الإستراتيجية التي أجريت سنة 2006 ودعمها جون ماكين في العراق لم تكن هي التي أثمرت ميدانياً وأحدثت تحسناً في الأوضاع الأمنية وخفضت حدة العنف هناك . وقد استجوب وودورد أكثر من 150 مسئولاً من أجل مادة كتابه المثير للجدل. السبب الحقيقي وراء تحسن الحالة الأمني يعود إلى التقنيات الجديدة للعمليات السرية ، وللأوامر التي أعطاها مقتدى الصدر لأتباعه من ميليشيات جيش المهدي باحترام الهدنة ووقف القتال، ولتعاون السنة مع الحكومة ومع الأمريكيين ضد تنظيم القاعدة الإرهابي خاصة في محافظة الأنبار. وقد رد ستيفن هادلي ، مهندس الإستراتيجية الأمريكية الجديدة في العراق، بقوة على وجهة النظر هذه قائلاً أنه ما كان ممكناً تحقيق أي من هذه الانجازات بدون زيادة عديد القوات الأمريكية القتالية وقد اعترف بوش لوودورد بأن هادلي هو الذي كان وراء هذا التغيير الاستراتيجي وهو الذي أقنعه بجدواه، حيث بدا الرئيس بوش في الكتاب وكأنه منفصلاً عن الواقع وغائب عما يجري حقاً على أرض الواقع وأن حكومته منشغلة بصراعاتها الداخلية وغير قادرة على اتخاذ القرارات المصيرية لغاية انتهاء الانتخابات التشريعية النصفية التي جرت في نوفمبر 2006 . هل سينسى ماكين سلفه بوش ويختار التصعيد بدلا التقهقر والانسحاب؟

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com