قصة يوسف ع رحلة حلم من سجن البادية الى عرش مصر - 10 -

 

حميد الشاكر 

al_shaker@maktoob.com 

(( وكذالك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الاحاديث ويُتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب كما أتمها على أبويك من قبل ابراهيم وأسحاق ان ربك عليم حكيم ))

****** 

ماذا تعني هذه العناوين الثلاثة :(( الاجتباء والتأويل واتمام النعمة )) في تأويل يعقوب ع لرؤيا يوسف الصديق ع ؟.

اولا : الاجتباء كلمة مشتقة بالاساس من الجبي، فجبيت الماء او الخراج هو عبارة عن تجميع الماء في حوض واحد او تجميع الخراج في مكان واحد، وعليه يكون اجتباء الله سبحانه وتعالى لعبد من عبيده يعني جمعه بالكلية وتخصيصه له سبحانه عز وجل !.

ثانيا : التأويل من آل يؤول اذا رجع، واليه المآل اي اليه الرجوع . قال صاحب المفردات الاصفهاني : التأويل من ألاول أي الرجوع الى الاصل ومنه الموئل للموضع الذي يرجع اليه وذالك هو ردّ الشيئ الى الغاية المراد منه علما كان او فعلا .

ثالثا : الاتمام هو تمام الشيئ الى حد لايحتاج الى شيئ خارج عنه بعكس النقص والذي هو بحاجة الى ما يتممه، فالتمام وان كان قريب المعنى من الكمال الا انه مختلف عنه في الغرض، وعلى هذا فالتمام يشبه الشيئ القائم بذاته والمكتفي بعنوانه .

وبعد : لاريب ان الله سبحانه عندما يجتبي عبدا من عبيده ويختصه بخاصته المقدسة فهو يريد ان يهيئ هذا العبد لخدمته الالهية العظيمة، وكما ان لله سبحانه خلّص من عباده يجتبيهم بعلمه وحكمته ومعرفته ...، فكذا هو الوجه الاخر من العملة في استخلاص العباد المخلصين لربهم واجتبائهم له سبحانه ايضا، وكما ايضا ان الله يجتبي من خلقه من يشاء، فهي هي الحالة ايضا في اجتباء العبد لربه ومعبوده وصراط توحيده في هذه الحياة،!.

فأذن هي معادلة واحدة ولكن بوجهين مختلفين عملية ((الاجتباء)) هذه التي ذكرت في تأويل يعقوب ع لرؤيا يوسف الكريم ع، وكما ان يعقوب قال ليوسف :(( وكذالك يجتبيك ربك ..)) فيما بعد من قابل الحياة، فعلينا ان ندرك نحن المتلقين للنص القرءاني المقدس وبلا ادنى لبس ان يعقوب في نفس هذه اللحظة ايضا قال ليوسف ع مصداقا للمفهوم : وانت الان مجتبي لربك وخالقك ومخصصا له  وموحدا ومتوجها اليه وخالصا لوجهه !.

مايعني ان يوسف الصدّيق ع بدأ بعد تأويل يعقوب العظيم ع في تهيئة كل كيانه وروحه وذهنه ووجوده ... لتكون كلها خالصة لله سبحانه وتعالى وفي خدمته باعتبار انه كما ان الله اجتبى يوسف فعلى يوسف ان يجتبي ربه ايضا، وهذا هو سرّ الايحاء بالتأخير والتراخي في تأويل يعقوب ع في قوله :(( وكذالك ..)) والاتيان بالمضارع بعده (( يجتبيك )) !.

فالكلام والتأويل اليعقوبي ليوسف  يوحي بما معناه : ان الله سبحانه ربك سيجتبيك في المستقبل ويتخذك لخاصته ويجمع كل أمرك المشتتّ لساحة قدسه، فعليك من الان حتى وصولك الى نقطة الاجتباء تلك ان تكون على أُهبة الاستعداد والاستقامة والاخلاص والانقطاه اليه سبحانه، بأعتبارك فهمت ان الله استخلصك فعليك استخلاص الله لك، وكما ان الله سبحانه اجتباك لنفسه فاجتبي انت ربك لنفسك لتكون على مستوى هذا الاجتباء والاخلاص من قبل الله سبحانه وتعالى وهكذا كان !.

نعم العلاقة بين الله سبحانه وبين عباده المخلصين لاتأتي عبثا وبلا مقدمات تهيئ الارضية وتعبّد الطريق للعلاقة السامية هذه، وكما ان من شرف الانسان العالي ان يذكره الله سبحانه، فعلى الانسان ان يذكر الله ايضا قبل ذالك ..، وهكذا في جميع الطرق الموصلة اليه عز وجل في طريق الحامدين والذاكرين والمسبحين والمستغفرين والتائبين والعابدين ...... وبما فيهم المجتبين ايضا، فهم وان ظهر لنا ان الله اجتباهم لساحة قدسه الاعظم سبحانه وتعالى اولا، ولكنّ هذا لايعني ان الخطوة الاولى لم تكن من العبد الى الرب، بل هي كانت ولم تزل مبتدأة في الظاهر من العبد الى الرب سبحانه :(( اذكروني اذكركم واشكروا لي ولاتكفرون ))، مع انها في الباطن والظاهر  من الربّ الى الربّ جلّت قدرته وتعالت على جميع الاشياء !.

ولكنّ هل يعني هذا على سبيل الفرض والجدل : ان يوسف ع بعد هذا التأويل اليعقوبي له في رؤياه انه من الممكن في حالة التقصير في خدمة الرب العظيم ان يفشل في امتحان الاجتباء الالهي العظيم ؟.

أم ان يوسف ويعقوب عليهما السلام جميعا قد أُبرم القضاء والقدر معهم حتى لايصار غير ما أُول لهما في الرؤيا اليوسفية ؟.

الجواب : لا طبعا، فمن المعروف عقديا في ساحة النبوة العالية ان كل الوظائف والمسؤوليات الالهية التي تلقى على عاتق الانبياء والرسل كالأجتباء لهم واصطفائهم وانتخابهم لخاصة الله سبحانه تكون دافعا لبذل المزيد المزيد من الحركة والنشاط لخدمة الباري عزوجل، ولم تكن يوما من الايام هذه الافضال الربانّية التي يختص بها من يشاء من عباده مدعاة تواكل او تراخي او ..... في خدمة الرب عزوجل، ولهذا نقول ان يعقوب ويوسف عليهما السلام رأوا في الرؤيا والتأويل مسؤولية عظمى ووظيفة ثقيلة جدا في هذه الحياة تتطلب المزيد من الجهد والاستعداد للبلاء وتهيئة الصبر لتحمل مشاق الاجتباء هذا وليس العكس عندما يكون الاجتباء مدعاة للتراخي عن العمل اوبشارة بالنعيم والترف في الحياة الدنيا لينقطع عملهم وتذوب قواهم وتتتنبل ( من التنبلة ) وتتبلد عقولهم، ولهذا قيل :(( لاتقصص رؤياك )) وقيل فيكيدوا .. وقيل ان الشيطان للانسان عدو مبين، فالاجتباء مثار كيد ليوسف ومثار حرب ومثار تشيطن ومثار عداوة .... وباقي الامتحانات الصعبة  !.

وعليه نعم اي حالة تقصير من قبل اي رسول او نبي عظيم في هذه الحياة الدنيا ( على فرض ) بالقيام بواجب الاجتباء ومسؤولياته، سيكون حتما منعكسا وبقوة على صاحب الاجتباء والاصطفاء الذي اريد منه بذل المزيد من الجهد، ولكنه فشل في امتحان الاجتباء هذا :(( ولو تقوّل علينا بعض الاقاويل لاخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين )) !.

وهكذا يوسف عليه السلام والحكيم يعقوب ع، لم يخطر ببال احدهم لحظة ان هناك ضمانا مطلقا يوفر العناية والاجتباء الدائم لهذا الانسان او ذاك غير ضمان الاخلاص لله والاجتباء له والاختصاص به سبحانه وتعالى، وكما ان الله سبحانه جمعك لنفسه فعلى جميع المجتبين جمع الله سبحانه وحده لأنفسهم  فحسب، وكأنما لكل انسان ولكل نبيّ ولكل مجتبى ربه الخاص به سبحانه وتعالى الذي يجتبي عبده وعبده يجتبيه :(( وكذالك يجتبيك ربك )) فرب يوسف هو من اجتباه، فهل يستطيع يوسف ع ان لايجتبي الا ربه ؟ !.

لا ... بالقطع لايفكر يوسف الصديق للحظة ان يلتفت لغير ربه، ولهذا قدم الحكيم يعقوب ع في تأويله للرؤيا بترتيب الخطوات العملية ليوسف  من المرتبة الاولى الى المرتبة التي تليها الى التي بعدها في الترقي والتصاعد، فهو : اولا ذكر ( وكذالك يجتبيك ربك ) باعتبار انها مرحلة اولى في خطة العمل الرسالية ليوسف ع، وعلى يوسف ان يبذل من المجهود والعبادة والاخلاص والانقطاع لله سبحانه مايثبت جدارته باجتياز امتحان الاجتباء الالهي ذاك، ثم وبعد ذالك تأتي مرحلة :( ويعلّمك من تأويل الاحاديث ) وهي المرتبة الارقى عند الله سبحانه وعندك يايوسف من مرحلة الاجتباء النظري القائم على الحب والاخلاص والاجتباء والاصطفاء المتبادل بين الله سبحانه ويوسف ع،فهي المرحلة الاكثر رفعة من مرحلة الاجتباء فحسب والتي يترتب عليها التعليم الالهي ليوسف، اي دخول الله سبحانه وقربه من يوسف درجة ارفع لتكون العلاقة مع يوسف ع ارقى من علاقة الاجتباء التي توحي بالبعد، والتي وان كانت منزلة عظيمة هذه المنزلة المسماة اجتباءا، الا انها تشبه ارسال رسالة من غائب تعلمك بأن المرسل يجتبيك ويخصك بنفسه ويذكرك بالخير، أمّا مرحلة ومنزلة ومرتبة وخطوة  ((ويعلّمك من تأوي الاحاديث )) فهي رتبة توحي بالاحتكاك المباشر والصلة الدائمة والعلاقة الحميمة الصاعدة والنازلة بين استاذ وتلميذه وعلى تواصل مستمر في حلقة الدرس والتعليم هذه !.

أليس يبدو ان منزلة التعليم هي ارقى من منزلة الاجتباء ؟.

صحيح لاتعليم بلا اجتباء، لكن يوجد اجتباء بلا تعليم !.

 وكم هم الذين يجتبيهم الله سبحانه وهم غير ملتفتين الى اجتباء الله لهم او ملتفتين ولكن من طرفي خفي، ولكن قليل أولئك الذين يدركون تماما انهم مجتبون من قبل الله سبحانه، بتعليم الله سبحانه واخباره المتكرر عزوجل لهم من خلال التعليم والاحتكاك والصلة العلمية بينهم وبين الله عزت قدرته !.

ومن هنا يقال كل معلّمٌ من قبل الله سبحانه فهو مجتبى له سبحانه بالقطع، ولكن ليس كلّ مجتبا له سبحانه فهو معلّم منه جلت اسمائه وتعالت صفاته ؟!.

أمّا المرتبة الثالثة التي رتبها يعقوب في تأويله لرؤيا يوسف ع، فهي مرتبة ومنزلة :((ويتمّ نعمته عليك ...)) وهي كما ترى المرتبة الاعلى على الاطلاق في عالم الرسالة والنبوة  كما يفهم من كلام الحكيم يعقوب ع، باعتبار انها عدل ل:((كما اتمّها على ابويك من قبل  ابراهيم واسحاق)) ومعروف ان ابراهيم قد امتحنه الله سبحانه وتعالى بكلمات فاتمهن في قوله سبحانه :((واذ ابتلي ابراهيم ربه بكلمات فاتمهن قال  اني جاعل للناس اماما قال ومن ذريتي قال لاينال عهدي الظالمين)) فهل كان تمام النعمة ليوسف هو جعله اماما للناس، ولهذا جعلت الامامة من اتمام النعمة وكمال الدين ؟.

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com