|
3 تبا لنا ما أغبانا .. ياألهي؟
علي بداي حين كنت صغيرا، الفاني اخي الكبير ذات مرة باكيا لاني سمعت من اصدقائي الاكبر سنا، ان العراق لايستطيع صنع (ابرة خياطة)، وكانت ابرة الخياطة بتقديري اسهل الاشياء، فاحدث هذا النبأ الصاعق اختلالا في توازني، وجرحا عميقا في نسيج احساسي (الوطني) الغض، فكيف ومتى سيكون بامكان العراق صنع ماينافس الصواريخ الروسية؟ وبناء مايناطح ناطحات السحاب الامريكية؟ متى سنصل الى القمر والنجوم ان كنا للان لانجيد صنع ابرة الخياطة؟ وبحكمة، حاول اخي ان يمتص اعصار الحزن والقنوط الذي داهمني قائلا دون ان تواجه عيناه عيني المتسائلتين: استمع لي.. لماذا يجهد العراق نفسه بصناعة الابرة اذا كان يستطيع استيرادها من الخارج بكلفة تقل عن كلفة صناعتها بكثير ؟ بسطر من الكلمات، رفع اخي مكانة الوطن من اسفل الحضيض الى قمة العلو، نحن اذكياء اذن ونعرف اصول اللعب ! ولكن بعد هذا التطمين المؤقت، ظل السؤال يكبر معي، والشكوك تتلاطم في أعماقي بان اخي، اراد حرف انظاري عن رؤية المأساة التي لم تكن تتناسب مع حداثة سني انذاك، وفيما بعد، حين كبرت واطلعت على حدود التخلف الهائل الذي نرزح به، بقيت ابحث بين ثثايا الشعارات، عما يجعلنا نفتخر بانفسنا خارج حدود المالوف من موضوع الحسب والنسب والكرم والجود والى ماذلك، مالذي يميزنا عن غيرنا من بني البشر لكي نرفع عقائرنا منادين بكوننا اصحاب "الرسالة الخالدة"؟ اين موقعنا في عالم اليوم، وبين امم اليوم؟ وذات يوم اخر، كان البكاء وحده لايكفي حين استمعت لاحد الامراء البدو يخطب ببعض عشيرته المالكة قائلا:. "لماذا ندوخ انفسنا بانشاء مصانع ومعامل، ثم ستكون طبقة عاملة، وواحد ايار،واحتجاجات، واضرابات، ثم صراع طبقي وفي النهاية احزاب شيوعية وتهديد بثورة حمراء اي اننا سنكون تحت رحمة هؤلاء العمال الذين ان جاعوا يوما لن يتورعوا عن اكتساحنا اكتساحا مثلما فعل لينين بال رومانوف، لقد حبانا الله ثروة النفط، دعوهم يخرجونه لنا من باطن الارض ياخذوا حصتهم، ويعطونا مانستورد به كل شئ..نعم كل شئ! " هكذا اذن، تتحول اقصوصة اخي التي حاول بها ان يهدأ جنوحي الوطني المبكر، ويضمد كبريائي المجروحة، تلك الارجوحة التي حاول ان يهزها منشلا اياي من وحول الواقع وقذارته الى عوالم النوم السعيدة وان كانت مؤقتة، تتحول على يد هذا الامير الى نظرية لبناء مجتمعات الرخاء الرخو، مجتمعات الاستهلاك والسمنة التي ان اغلق "ماكدونالد" ابوابة امامها ماتت جوعا، وان اضربت " الكوكا كولا " شلت قدرتها على التفكير. تذكرت كل ذلك، وكلمات المتحدث الاوربي تخترق أسماعي: " ومنذ زمن لايعرف، يحتفل العراقيون بايقاد شعلة لاهبة تضيئ السماء،ولشدة اعتزازهم بهذه الشعلة يعتبرونها من معالم تطورهم، فيذكرونها في كتب المدارس كمعلم من معالم الوطن. في البصرة فقط، يحرق العراقيون 700 مليون متر مكعب يوميا من الغاز في الهواء الطلق، هذا الغاز الذي يسير معامل اوربا، ويضئ بيوتها وطرقاتها، يطلقه العراقيون ليس احتفالا باولمبياد، او استذكارا لواقعة تاريخية. بل دليل الكرم العربي، اوعملا بمبدأ اصرف مافي الجيب ياتيك مافي الغيب، لطرد الارواح الشريرة ربما او للاشئ، فقط انقيادا لقانون الاستمرارية والان ستوقع شركة شل اتفاقا مع العراقيين لاستثمار هذه الثروة." شركة شل البريطانية الهولندية، ستدلنا على الطريق اذن، ستأخذ بأيدينا نحن صغار السن غير الراشدين، والذين لم نتبين بعد، وبعد قرابة القرن من ابلاغنا بالخبر السعيد كوننا ننام على بحيرات غاز ونفط، مايعنيه هذا الاكتشاف بالنسية لنا. شركة شل الامبريالية التي حاربناها فيما مضى من الزمان، ستقول لنا ياعراقيين... يااخلاف بابل وسومر واشور، يا احفاد القعقاع وعنترة، وياورثة اوراق التاريخ المغبرة، يامدافعين لثمان سنين عن البوابة الشرقية للوطن العربي، ويااباء امهات المعارك، وخالات الحواسم، ياناطحي بعضكم، وياغارقين بدماء وشتائم بعضكم، هكذا سنستخرج لكم غازكم من اعماق ارضكم. فاعطونا مالنا وتمتعوا بالنوم الذي انتم تشتهون!! ليس لكم في هذه الدنيا المعاصرة الا ان تسمعوا.. وتطيعوا فما انتم فاعلين؟ المأساة التي تعكسها هذه الحقيقة مأساة مركبة، تحتاج من ان نتوقف اولا لنمعن النظر الى أعماقنا فاذا مااخرجنا الامبريالية والصهيونية مؤقتا من المعادلة ( باعتبارها المتهم الجاهزوراء الجرائم التي نرتكبها يوميا بحق انفسنا واجيالنا القادمة)، سنرى ان اعماقنا تزخر بكم متلاطم من كائنات وعظايا مخيفة، عشائرية، ودينية، وعنصرية، مخلفات من عصر نوح، وزمن الطوفان، وبعض من تراب معارك الاولين في سفين والجمل، اقوام تتعارك، وقصائد تركض خلف بعضها هاجية مرة ومادحة مرة اخرى، كلام وكلام...وكلام ..وكلام..... مأساة..... تشير الى هشاشة تفكيرنا، ومحدودية عقول الذين حكموا بلادنا منذ قرن من الزمان، ولكنها، اكثر من كل ذلك، وهذا مايصدم، تشيرالى سلبيتنا كشعب تخلى طوعا عن مستقبله مقابل شعارات هي ليست سوى كلمات. نحن في العراق رفضنا السبيلين، لم نشأ بفعل ثقل تراثنا الثوري ان نتحول الى وجهة مجتمعات ماكدونالد والكوكا كولا وهذا صواب، لكننا اصبحنا طريدي الشعارات، واللافتات، واليسقط واليعيش ولم نلحق خلال 100 عام، ان نتعلم مبادئ صنع الابرة، لقد اثقل هذا التراث كواهلنا وبرهننا اننا نعاني منه اكثر من يكون حافزا لنا للتقدم، وها نحن نقف عاجزين حتى عن ارتداء ملابسنا بانفسنا. نحن كنا اولا نحرق الغاز ونطلقه في الهواء لمدة قرن كامل فيما بيوتنا ترتجف بردا شتاءا وتحترق حرا صيفا، ومعاملنا (على بساطتها ) تشكو نقص الطاقة، وثانيا اننا طوال هذه الفترة التي بنت اوربا خلالها نفسها وتهدمت جراء حربين مدمرتين ثم عاودت بناء نفسها، لم تتمكن عقولنا الجبارة من التفكير بانشاء مؤسسة لتعليم الناس كيفية ترويض غول النفط والغاز الذي يطاردنا، نخرج في الشوارع كالمجانين نصفق لقرار تاميم النفط ولانسال كيف سنتعامل مع هذا الكائن الاسطوري المنتفض في اعماق ارضنا؟ من سيخرجه؟كيف سنطوعه؟ ياللعار الذي بللني عرقا، حارا، لزجا، وانا اسمع الشقراء تلفظ جملتها كانما تنعى حضارة هوت: العراقيون يشعلون 700 مليون متر مكعب من الغاز كل يوم منذ قرن ....قربى لوجه الله!!!
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |