|
القانون والتقدم الاجتماعي
فارس حامد عبد الكريم العجرش الزبيدي ماجستير في القانون يرى بعض الفلاسفة بحق، ان الانسان مُبذر بطبيعته لأغلب قواه الخلاقة، حيث ان اغلب قواه تتجه الى الرغبة في البقاء ورغبته في ان يخلف نسلاً شبيها به . ذلك ان ان رغبته في البقاء تدفعه للبحث الحثيث عن لقمة العيش وهذه تأخذ جل وقته، ورغبته في النسل، تجعل من عنايته بأسرته واطفاله وما يترتب على ذلك من قلق على صحتهم ومستقبلهم، تأخذ معظم الوقت المتبقي من يومه . ومع ذلك يبقى هناك احتياطي ضخم من القوى الخلاقة للانسان غير مُستغل،الا اذا صادف ان القوى الخلاقة هي نفسها مصدر رزق الفرد وهي ليست كذلك دائما . وبدون استغلال هذه الطاقات لا يمكن ان تتقدم البشرية ولا ان تُبنى حضارات .(28) ونظراً لوجود هذا الاحتياطي فقد اتاحت الظروف وحسن الصدفة لبعض العلماء والفلاسفة والادباء والفنانين من استثماره في سبيل خلق ثقافة جديدة والمساهمة في بناء حضارة عظيمة . وقد تلعب الصدفة المحضة ً دوراً كبيراً في هذا المجال احيانا عندما تخلق ظروف معينة للمبدع ليتفرغ لابداعه، وهكذا فان تاريخ الابداع يتحدث عن ان بعض المبدعين كان عاطلا عن العمل دفعته الحاجة الى الاختراع والاخر في السجن قادته تأملاته ووحدته الى اكتشاف حقائق مذهلة او كان هارباً من وجه السلطة او من مطاردة دائنيه، او لم يتمكن من تكوين اسرة تأخذ جل وقته . وفي نظر المجتمعات المعاصرة،فان امر بناء ثقافة الامة وحضارتها ومستقبلها لا يمكن ان يترك لمجرد الصدفة، وهكذا سعت التشريعات الحديثة الى خلق افضل الظروف لعمل العلماء والادباء والفنانين مما يجعلهم متفرغين تماماً للبحث والابداع ومن ذلك تأسيس مراكز بحث علمية متخصصة . ووفقاً لغاية التقدم يلعب القانون دوراً جوهرياً في سبيل خلق حضارة افضل واكثر تماشياً مع الطموحات الانسانية. ان غاية التقدم الاجتماعي، غاية نفذت الى النظام القانوني منذ عهد حديث نسبياً، حيث لم تثبت الا منذ النصف الاخير من القرن الثامن عشر، حيث دعا اليها كبار المفكرين والفلاسفة، ومنهم الفيلسوف (كانت Kant) وعالم الرياضيات والفيلسوف الفرنسي (كوندروسيه Condorcet ) (1743 ـ 1749 ) . وعلى سبيل المثل، يلاحظ ان اغلب الدول الصناعية الكبرى لا تملك الموارد الاولية للتصنيع لدرجة ان تنعدم في بعضها تلك الموارد، ومن جانب اخر نجد دول اخرى تملك احتياطيات هائلة من الموارد الاولية ولكنها دول متخلفة . وحسب التصنيف المنطقي المجرد فان الاولى يجب ان تصنف بانها دول فقيرة وتصنف الثانية بانها دول غنية، ولكن الواقع خلاف المنطق فما هو السبب ؟ السبب هو ان تلك الدول بعد انقضاء العهود الاستعمارية التي كانت تستولي فيها على خيرات الدول المستعمَرة، لجأت الى خلق انظمة قانونية متميزة جعلت لها الريادة في المجال العلمي والصناعي، ومن ذلك نظام الشركات المساهمة ونظام الشركات متعددة الجنسية ونظام الرهن التأميني وانظمة حقوق الملكية وبراءات الاختراعات وانظمة قانونية تجارية مثل نظام البيع SIF والبيع FOB وانظمة مصرفية متطورة مثل الحساب الجاري والقرض المصرفي والرهون المصرفية والاعتماد المستندي فضلاً عن قوانين رعاية المواهب وقوانين منح الجنسية للمبدعين من الشعوب الاخرى وغير ذلك من انظمة قانونية، وهذه الانظمة تمثل الاساس القانوني للتطور الهائل الذي شهدته الدول الغربية عموماً، ولولا هذه الانظمة التي مكنتها من استثمار ما يملكه غيرها من موارد لاضحت دولا فقيرة . فشركات انتاج السيارات اليابانية مثلا تعتمد بصفة اساسية على استيراد المواد الاولية من الخارج، كما ان عائدات شركة مايكروسوفت التي تعتمد على استثمار الافكار العلمية بموجب نظام حقوق الملكية وبراءات الاختراع المنظمة قانوناً تبلغ مئات المليارات من الدولارات سنوياً. وحسب احصائيات نشرت سنة 2007 تبلغ قيمة شركة مايكروسوفت في البورصة 293 مليار دولار.وحصل وليام "بيل" جيتس مؤسس ومالك هذه الشركة على درجة فخرية في القانون من جامعة هارفارد التي لم يكمل دراسته فيها. وبلغ إجمالي قيمة أسهم شركة كوكل 200 مليار دولار متجاوزة بذلك جميع الشركات المتخصصة في تقنية الإنترنت والبرامج الحاسوبية باستثناء شركة مايكروسوفت . الا انه لا يمكن للقانون بمفرده ان يكون عاملاً اساسياً في انشاء الحضارات . فالقانون يهيء الظروف التي تتيح للفرد مجالات الخلق والابداع، الا ان مدى فعالية النظام الاجتماعي هي التي توجه الغاية القانونية وجهتها الصحيحة، فالنظام القانوني على سبيل المثل، يمكن ان يهيء تشريعات خاصة بالتربية والتعليم تضمن اذا ما احسن تطبيقها اكتشاف الموهوبين والمبدعين وتطوير وصقل قابلياتهم، ولكن هذا لوحده ليس كافياً اذ ينبغي ان يوضع الموهوب بعد اكتشافه في مكانه المناسب وهذا يعتمد على عوامل السياسة وهذه قد تستبعد غاية القانون لاسباب تتعلق بالمصالح السياسية . والنظام الاجتماعي العادل هو الذي يتيح للنخبة العلمية من ابنائه،، بان تتولى مناصب الصدارة في قيادة المجتمع . وكل نظام اجتماعي لا يضع النخبة في مكانها الذي تستحقه وكان معياره الولاء العشائري او الحزبي لا الكفاءة، ولا يكون للافراد فيه مجال للخلق والابداع، لابد ان ينحدر نحو هاوية التخلف والصراع،ذلك ان تمكين الجهلة والمتملقين والانتهازيين من الوصول الى المناصب القيادية في الدولة يقود حتماً الى الاستبداد والطغيان والفوضى والفساد وعدم الشعور بالمسؤولية فى المجتمع، والشعور بالغبن والاجحاف، وتردي الاخلاق العامة وأزدواجيتها ومَدعاةً لنمو ثقافة القسوة والنفاق والدكتاتورية، وتأليه الذات البشرية التي تفضلت على اولئك الجهلة وسلمتهم مقاليد الامور في البلاد، ومن ثم تكرس كل مصالح الدولة وقوانينها لخدمة اغراضهم غير المشروعة . فقد يؤدي الافراط في الاعتماد على فكرة مراعاة المصالح السياسية، الى هدر المواهب وتدمير الاسس التي يقوم عليها المجتمع . وخير مثال على ذلك هو نظام المحاصصة السياسية المتبع في العراق حالياً، حيث ستكون نتائجه ولا شك كارثية على البناء الثقافي والحضاري اذا ما تم التوسع في تطبيقه، حيث يتم بموجبه استبعاد اصحاب الكفاءات العلمية ليحل محلهم احد ممثلي الجهات السياسية، ومنهم من لا يحمل شهادة علمية اصلاً او يحمل شهادة ولكن لا علاقة لها البتة بالاختصاص والمجال الذي عين فيه قائداً . ان نظام مراعاة المصالح السياسية في الوظيفة العامة معروف في القوانين المعاصرة ويرد كاستثناء على مبدأ مساواة المواطنين امام الوظيفة العامة، ويعرف هذا الاستثناء باسم ( الاختيار المطلق للادارة ) وهو استثناء منضبط قانوناً لان القاعدة التي تحكم الاستثناء هي انه لا يجوز التوسع فيه . وبموجبه يسمح للادارة استثناء بعض الافراد من شروط الوظيفة العامة، وهو عادة شرط مدة الخدمة اللازمة لشغل المنصب، بالنسبة للوظائف السيادية حصراً ومن ذلك استثناء حملة الشهادات العليا والمتفوقين الاوائل في الجامعات من بعض شروط الخدمة العامة وتعيينهم في وظائف قيادية تشجيعاً لهم للانخراط في سلك الخدمة العامة، وكذلك تعيين ممثلي الجهات السياسية في مناصب وزارية وبموجب ضوابط منها ان يكون حاصلاً على شهادة علمية معترف بها واتاحة الطعن بتلك التعيينات امام القضاء من ذوي المصلحة،والقضاء هو الذي يقرر فيما اذا كان المنصب سيادياً بالفعل يستوجب الاستثناء من شروط الخدمة العامة او ان يعتبر المنصب غير سيادي ولا يستوجب الاستثناء . ويلاحظ ان قضاء مجلس الدولة الفرنسي يتسم بالمرونة، فقد استقرت احكامه على اعتبار منصب العمدة ( المحافظ ) غير سيادي ويجب ان يتم وفقا للسياقات الادارية المعتمدة وهي الانتخاب لا التعيين ومن ثم قضى ببطلان التعينات في هذا المجال، الا انه في في البعض الحالات قضى بصحة بعض التعيينات بناءاً على قناعته بالاسباب التي استندت اليها الادارة من ذلك حكمه بصحة تعيين الادارة لعمدة في احد الاقاليم لغرض تهدئة الاضطرابات والفوضى التي عمت ذلك الاقليم . ان الانسان يرنو بطبعه الى التفوق والتقدم وهو اساس كل تطور وغايته النهائية، والقانون الامثل هو الذي يتيح مجالا رحباً لاستثمار الطاقات الانسانية الخلاقة دون فسح المجال امام قوى مضادة للتطور تقوم على التعسف والمصالح السياسية الانانية التي لا غاية لها سوى تحقيق المكاسب الشخصية على حساب نهضة المجتمع وتقدمه . ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ المراجع العلمية : ـ د. حسن علي الذنون، فلسفة القانون، ط1، 1975. ـ د. منصور مصطفى منصور، دروس في المدخل لدراسة العلوم القانونية، مباديء القانون، ج1، 1972. ـ د. عبد الحي حجازي، المدخل لدراسة العلوم القانونية، الجزء الاول، طبعة سنة 1972 . ـ د. صلاح الدين عبد الوهاب، الاصول العامة لعلم القانون ـ نظرية القانون، مكتبة عمان، الاردن، 1968. ـ د. حسن كيرة، اصول القانون . ـ د. عبد الملك ياس، النظرية العامة للقانون، بغداد، 1969 . ـ د. سمير تناغو، النظرية العامة للقانون، 1973. ـ د.عبد الفتاح عبد الباقي، نظرية القانون،ط5، 1966. ـ د. ثروت انيس الاسيوطي، نشأة المذاهب الفلسفية وتطورها ـ دراسة في سوسيولوجيا الفكر القانوني ـ مجلة العلوم القانونية والاقتصادية، العدد الثاني، السنة الثامنة، يوليو 1966. ــ د. حامد زكي،التوفيق بين القانون والواقع، مجلة القانون والاقتصاد، مصر، س1ع5 وس2ع2. ـ شبكة النبأ المعلوماتية ـ تقرير حول شركة مايكروسوفت. http://www.annabaa.org/nbanews/68/236.htm ـ الجزيرة نت ـ تقرير حول شركة كوكل. http://www.aljazeera.net/NR/exeres/14338145-55ED-4DA4-955B-61AA479629F2.htm
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |