قصة يوسف ع رحلة حلم من سجن البادية الى عرش مصر - 16 -

 

حميد الشاكر 

al_shaker@maktoob.com 

(( انّ أبانا لفي ضلال مبين ))

******

في اي اتجاه كان يرى ابناء يعقوب ضلال ابيهم عليه السلام ؟.

وهل كانوا يرون ضلاله في العقل والتدبير ؟.

أم انهم كانوا يرون ضلاله في الدين والعبادة ؟.

ثم ما الذي اثار عند ابناء يعقوب قصة ضلال ابيهم المبين ؟.

وهل لانه احب يوسف واخيه كما اعتقدو اكثر منهم استحق صفة الضلال ؟.

أم لانه غفل عن موقع العصبة وحقها في عائلته الكبيرة وقدم عليها الضعف والطفولة ( ونحن عصبة ) فكان من الضالين  ؟.

في قضية اتهام ابناء يعقوب ابيهم بالضلال المبين لم يدخّر المفسرون العظام وسعا في دفع مسألة اتهام ابناء يعقوب لابيهم بالضلال في الدين ، وانما وتقريبا كل المفسرين مجمعون على ان ابناء يعقوب ع كانوا على علم بنبوة ابيهم ، وانه من الصالحين دينيا ، ولكنّ ما أُخذ عليه هو قصوره وعدم حكمته في التدبير العقلي لسياسة العائلة ، ومن هذا كان قولهم (( ان ابانا لفي ضلال مبين )) هو تأكيد على ضلال العقل لاغير في قاموس ابناء يعقوب فحسب !.

والحقيقة انا شخصيا لم استطع ادراك الفرق في كلمات اهل العلم والتبيين القرءاني عندما يقسموا مقولة ابناء يعقوب تلك والتي ينقلها النص القرءاني صراحة ب (( لفي ضلال مبين )) الى ضلال في الدين وضلال في العقل ، باعتبار انه ومن منطلق تفكيري في المسألة : انه ما الفرق بين ضلال الدين وضلال العقل في قصة يعقوب هذه حسب اعتقاد ابناء يعقوب العاقين لوالدهم ؟.

يقول المفسرون : بسبب ان ابناء يعقوب اسباط ، ولهم ادراك في كينونة اباهم يعقوب الدينية وانه نبيا ومن الصالحين ، وعلى هذا لم يتبقى امام فهم النص والمقول فيه الا على اساس توجيهه الى انه ضلال في العقل وليس ضلالا في الدين !.

وهنا اتساءل : هل هناك فرق بين ضلال الدين وضلال العقل في الشريعة السماوية ؟.

نعم كما اعتقد شخصيا وبخلاف مايذهب له المفسرون العظام ، من :ان ضلال العقل في الشريعة السماوية هي اكثر اهمية او اعمق تأثيرا  من ضلال الدين فحسب او هي اكثر نكاية بالانسان من اتهامه بالضلال بالدين نفسه ، وهذا خلاف مايذهب اليه المفسرون في رفع جناية ابناء يعقوب وانهم وتخفيفا لجريمتهم مع ابيهم لم يكونوا يتهمون يعقوب بالدين بل بالعقل ؟!.

ان ضلالة الدين من خلال تصوراتها الشرعية السماوية تخرج الانسان فقط من دائرة الدين  الصحيحة ويعتبر كافرا او غير ملتزم ولامؤمن وضال دينيا فحسب ،لكنه يبقى في شؤونه الانسانية الاخرى انسانا كاملا له حرمة وعنده تصرف ومن حقه الاحترام الاجتماعي ..... وهكذا ، وماعليه في هذه الحالة (حالة ضلاله عن الدين ) سوى العقاب الاخروي امام الله سبحانه وتعالى لضلاله عن الدين القويم ، لكن من حكمت عليه العقول الانسانية انه مصاب بضلال العقل فسوف يجرد تماما، اولا : من التصرف بما لديه دنيويا من شؤون مالية او اجتماعية او سياسية او اجتماعية ايضا ، وثانيا : يسقط عنه عنوانه الانساني باعتبار ان فاقد العقل ليست له الاهلية والصلاحية في المشاركة بالامور البشرية العامة والخاصة ، وثالثا : لايلتفت له لابأمر دنيوي ولابأمر ديني ايضا ، فالتكاليف الشرعية الدينية لاتقام ولاتطلب الا من صاحب عقل واعي ومتحرك ، اما ان حكم على فلان انه لايمتلك عقلا مدبرا ولاهو مالكا لطاقة فكرية مدركة ، وانتابته حالة السفه الشديد ، ودخوله في مرحلة عدم التوازن العقلي وعدم القدرة على التمييز ومن ثم الجنون ...، فمثل هذا الانسان فقد الدين والدنيا معا ، ومن الحق وصفه بضلال الدين وضلال الدنيا ايضا !.

ومن هنا نحن نقول : ان ابناء يعقوب في القصة القرءانية اليوسفية الكريمة كانوا اشدّ اجراما في اتهامهم ابيهم يعقوب بالضلال العقلي منهم ان اتهموه بالضلال الديني !.

فلو فرض انهم اتهموا اباهم بالضلال الديني لقيل عنهم انهم كافرون فحسب !.

اما لوفرض انهم اتهموا اباهم بضلال العقل لحق عليهم القول انهم بالاضافة لكفرهم هو مجرمون ايضا عندما استهدفوا تجريد يعقوب تماما من قدرته العقلية واتهامه بالسفه العقلي ايضا !.

وعلى هذا كنتُ دائما من الذين استشكلوا على مايؤكده المفسرون الكرام من ان ابناء يعقوب لم يكونوا يذهبون الى ضلال الدين في ابيهم يعقوب  بل هم مؤشرون الى ضلال العقل فيه ، اعتقادا من هؤلاء المفسرين انهم بهذا يتخلصون من ورطة ادخال ابناء يعقوب الاسباط في دائرة الكفر ان هم كانوا يذهبون الى اتهام والدهم النبي بالضلال الديني ، وعلى هذا بنى اهل التفسير يقينهم على ان الضلال الوارد على السنة ابناء يعقوب تجاه والدهم هو ضلال عقلي !.

ونحن نقول : ان اتهام يعقوب ع من قبل ابناءه بالضلال العقلي هو اكثر اجرامية من اتهامه بالضلال الديني كما فهمنا !.

نعم لم يلتفت من اراد تخليص ابناء يعقوب من ورطة الكفر انه ادخلهم بمقولته تلك  في حفرة اكبر بكثير من حفرة اتهام الاب بالضلال الديني لسبب بسيط انه لم يدرك او لم يلتفت او لم يسأل نفسه عن الضلال بكلا معنييه وهل الاسوأ عندما نطلقه على الانسان في الضلال الديني او الضلال العقلي ؟.

كما ان المفسرين ايضا لم يسألوا انفسهم ولا ادرك لماذا عن : غاية ابناء يعقوب من تجريد والدهم من توازنه العقلي هذا ؟.

او انهم سألوا ولكن من بعيد ليبرروا حسد يوسف ع وحب ابيه له من دونهم !.

ومثل هذا التفكير في فهم النص القرءاني اسميناه الطرح الساذج مع عظيم الاحترام لاهل الصنعة وعلماء التفسير الكرام !.

لكنّ الحقيقة بمثل هذه الزوايا من قصة يوسف تكشف لنا عن عمق ذكاء وشيطنة ومكر ... اخوة يوسف ، وتفكيرهم الشديد بالوصول الى غايتهم البعيدة بالاستيلاء على ميراث يعقوب وهو لم يزل حيا يرزق ، فلوا اتهم ابناء يعقوب والدهم بالضلال الديني فحسب فهل سيتمكن هؤلاء الابناء من عزل يعقوب تماما عن شؤون الحياة الخاصة والعامة ؟.

أم انهم لايحصلون على شيئ تماما من هذا الاتهام العقائدي الغير مناسب لا لهم ولالغايتهم من حياكة المؤامرة الكبيرة ؟.

فاذن : ان اخوة يوسف وابناء يعقوب لم يتهموا والدهم بالضلال الديني لالسبب توقيرهم وشدّة احترامهم لابيهم يعقوب كما اعتقد صاحب الميزان وغيره ، وانما كان هذا الاتهام وفي جانبه الديني لايخدم اغراض المؤامرة الكبرى وغاياتها البعيدة والتي يبدو ان سبب فهمها هو الذي اثر بشكل مباشر على المفسرين بفهم اسرار القصة وماتحمله من عمق واشارات غاية في اللطافة والنظافة والعمق والحكمة !.

وعليه ففهم الغاية من المؤامرة يدلل على انتخاب ابناء يعقوب لماهية الاتهام لابيهم ويبين غاياته البعيدة ؟.

والان ماهي الغاية التي ارادها اخوة يوسف في اتهام ابيهم بالسفه العقلي وليس الديني  ؟.

الغاية قد ذكرناها انفا وهي بسيطة جدا : تجريد يعقوب من قدرته العقلية واتهامه بالسفه العقلي !.

ولماذا حاول ابناء يعقوب تجريد والدهم من مقدرته العقلية ؟.

للحجر عليه امام المجتمع والاستيلاء على ميراثه في القيادة والسلطة وعزله تماما عن ادارة شأن العائلة !.

وهل كان اتهام يعقوب بالضلال الديني يوفر هذه الغاية أم انه يعجز عن الوصول للغاية ؟.

ابناء يعقوب اذكى بدويا من هذا الفخ الذي لايوصل لغاية ، فاتهام يعقوب بالضلال الديني لايخرج يعقوب من اهلية ادارته لشؤونه الخاصة والعامة ولايجرده من التصرف في شأنه السياسي والاقتصادي ، وغاية مايصل اليه الضلال الديني هو عزله بعد التأكد من صحة الاتهام ورميه بالكفر  !.

أما ان اريد اتهامه بالسفه العقلي فهو المطلوب اساسا من الاستيلاء على ميراثه بالجملة وانتقال هذا الميراث للابناء الكبار اهل العصبة !.

فهل يعني هذا ان اتهام يعقوب بالضلال العقلي كان اكثر خطرا واجراما من اتهامه بالضلال الديني ؟.

بالطبع كان اكثر خطرا واعظم جرما بسبب ان الاتهام بالضلال الديني يجرد الانسان من عقيدته ، اما اتهامه بالضلال العقلي فيجرد الانسان من انسانيته والفرق واضح بين انسان بلا عقيدة وعقيدة بلا انسان !.

والى هنا نصل الى حقيقة ان قول ابناء يعقوب :(( ان ابانا لفي ضلال مبين )) كان حالة مدروسة بكل ابعادها الحقيقية وما تريد الوصول اليه ، وانها ليست كلمة عابرة وعاطفية نفّس من خلالها اخوة يوسف عن امتعاضهم من تصرفات الاب فحسب ، بل هي اكثر من ذالك كلمة اريد منها ان توصل لغاية اشبه بالانقلاب على السلطة الشرعية في العائلة وعزلها عن القيادة لاسباب صحية وعقلية ، ومن ثم الوصول المباشر الى الغاية المراد الوصول اليها من اخذ موقع القيادة والقرار بمصير هذه العائلة الكبيرة نوعا ما ، وانتقالها الى الاخوة الكبار اصحاب العصبة فافهم هذا !.

هذا مايتعلق بشق نوعية الضلال الذي كان يعتقده ابناء يعقوب لابيهم ، وكيفيته ولماذا اختيار هذا النوع على ذاك !.

اما مايختص بسؤال : هل كان الاخوة يرون ضلال الاب نابعا من حب يوسف او اغفال العصبة وتقديم الضعف على القوة ؟.

فأن ابناء يعقوب وبالطبع كانوا يرون ان كلا العنوانين في ضلالة والدهم وارة ، فأمارة حب صبي وهو يوسف وتهيئته لاستلام قيادة العائلة اليعقوبية ،واغفال اصحاب عصبة وادارة وصحبة ودفاع وتضحية وحماية ، كلا الامرين يدلالان على مؤشر خطير جدا بالنسبة لابناء يعقوب المتوثبين حماسا لمابعد ابيهم العجوز !.

فمايعني حسب تفكير ابناء يعقوب تقديم شاب غرٌّ وتهيئته على مايبدو لتسلم الخلافة من بعد يعقوب ؟.

واين يذهب باهل السن والتجربة والصحبة والتضحية والحرب والمشورة اذا كان من يهيئ للقيادة غيرهم من صبيان ال يعقوب ؟.

ولماذا يغفل عن اهل العصبة والعصبية والقبيلة والشوكة بوجود ضعيف من ضعفاء ال يعقوب يتطلع للخلافة بمساعدة ابيه ؟.

وهل من المعقول ان يكون يوسف الصغير منتخبا من قبل الله للقيادة والامامة ، بينما يعزل المشايخ عن سدة الحكم والقيادة ؟.

وهل هذا الا الضلال المبين ؟.

وهل هناك اضلّ ضلالا من ان يكون عنوان القيادة ليس القوة بل العلم والحكمة على مايعتقده الاخوة الكبار  ؟.

ولكنّ بعد كل هذه الاسألة التي يبدو انها دارت في مخيلة ابناء يعقوب وهم يحيكون مؤامرتهم الانقلابية الكبيرة ، يبقى سؤال واحد لاغير وهو : كيف بالامكان قطع الطريق على يعقوب من تسليم القيادة علنا ليوسف الصغير ؟.

أما ان يقتل يوسف او يعزل عن حياتهم !.

وأما ان يقال ان يعقوب بدأ يهجر وغلبه السفه على عقله وحسبنا ما نحن عليه من حال وكفى !.

وهذا ماحصل بالفعل عندما قيل :(( ان ابانا لفي ضلال مبين )) انه العقل عندما ينتابه المرض وتشتدّ عليه السنون ويصل الى الهجر او الخرافة :(( أقتلوا يوسف أو اطرحوه ارضا يخلُ لكم وجه ابيكم وتكونوا من بعده قوما صالحين )) 

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com