جذور التجسس الامريكي والقادة السياسيين العراقيين
 

محمود المفرجي

almifarji55@yahoo.com

انزعاج سياسي شديد شهده البيت السياسي العراقي نتيجة تقارير اثارتها صحفية امريكية نشرت قبل ايام، افادت بتجسس الاجهزة الاميركية على القادة العراقيين في مقدمتهم رئيس الوزراء نوري المالكي حيث قال كتاب وضعه بوب وودورد الصحافي في "واشنطن بوست" ان عمليات التجسس اثارت قلق كبار المسؤولين الاميركيين كما نقلت عنه الجمعة صحيفة "واشنطن بوست".

وبطبيعة الحال ان عملبة التجسس هذه ليس جديدا، فقد سبقتها عمليات اخرى منها ما كشفت عنها صحيفة "لوس أنجلوس تايمز" التي اكدت ان الادارة الأمريكية أن واشنطن تتجسس على الجيش العراقي وترصد تحركاته بواسطة قمر صناعي أطلقته من قاعدة "كيب كانافيرال" خلال مارس الماضي.

هذا ما عدى الفضيحة التي تفجرت في‏16‏ ديسمبر الماضي التي كشفت عن شن الولايات المتحدة برامج سرية للتنصت علي مواطنيها اضافة الى عملية التنصت التي امر بها الرئيس الأمريكي السابق نكسون على لجنة اعادة انتخاب الرئيس كانت وراء اجباره علي تقديم استقالته من البيت الأبيض عام‏ 1974‏ هربا من محاكمته بتهم الخيانة وعرقلة العدالة واساءة استخدام السلطة وكان نكسون قد حاول ايضا تبرير ما قام به دون الحصول علي اذن قضائي بدعوي انه كان من شأنه تعريض الأمن القومي للخطر إلا انه يظل تقريبا الرئيس الأمريكي الوحيد الذي اضطر للاستقالة من منصبه‏.

وبدلا من ان تكف الادارات الامريكية عن هذه الحالة، استمرت في شن برامج تنصت سرية علي المواطنين أشهرها علي الاطلاق برنامج اشيلون الذي بدأ عقب الحرب العالمية الثانية ويعتقد انه مازال قائما حتي اليوم وكان البرنامج قد أنشأ من قبل وكالة الأمن القومي الأمريكي الـ‏NSA‏ وتحول خلال فترة وجيزة إلي نظام تجسس عالمي يعني اسمه السري مجموعة مصفوفة من الجند وهم في الواقع مجموعة من العملاء مهمتهم مراقبة وتحليل اي مكالمة هاتفية أو فاكس او رسالة الكترونية او رسالة برقية مباشرة ترسل من أي المواطنين إلي أي مكان في العالم‏.‏

وكذلك نظام اشيلون الذي انشيء عام ‏1984‏ ولم يتم الكشف عنه إلا في‏23‏ مايو‏1999‏ القادر على اعتراض سبيل أكثر من‏3‏ مليارات اتصال يوميا وكان قد صمم في بداياته لمراقبة الاتصالات الدبلوماسية والعسكرية للاتحاد السوفيتي وحلفائه من الكتلة الشرقية ولكنه اليوم يستخدم لمراقبة الإرهابيين واتصالاتهم وايضا تجار المخدرات واستخبارات دول أخري‏,‏ وتردد مؤخرا انه يستخدم للمراقبة والتنصت علي المواطنين الأمريكيين‏.‏ ومن أعضائه جميع الدول المتحدثة بالانجليزية التي شكلت تحالفا استخباريا يدعي‏UKUSA‏ وتنطق يوكوزا وهذه الدول قد وضعت محطات تجسس الكترونية وأقمارا صناعية لالتقاط حركة مرور الاتصالات اللاسلكية واشارات الأقمار الصناعية والموجات اللاسلكية الصغري واتصالات الهواتف النقالة وكل عضو في تحالف‏UKUSA‏ لديه مهام محددة لمراقبة اجزاء مختلفة من العالم‏.‏

وعلي الرغم من انكار كل من الولايات المتحدة وبريطانيا لاستمرار هذا البرنامج حتي الآن إلا أن استراليا ونيوزلندا وهما من بين الدول اعضاء في هذا التحالف الاستخباري قد أكدتا استمراره كما ان مدير الـ‏AIC‏ السابق جيمس ويلزي قد اعترف بأن هذا النظام قد استخدم للتنصت علي اتصالات مواطنين أمريكيين لاسباب مرتبطة بكونهم غير محبوبين أو انضموا لمؤسسات سياسية أو احيانا دون اسباب معينة مما اعتبر انتهاكا للتعديلات الأولي والرابعة والخامسة علي الدستور الأمريكي‏.‏

وفي مايو‏2001‏ قام البرلمان الأوروبي بوضع تقرير عن برنامج اشيلون قال فيه إن مواطني الدول الاعضاء في هذا التحالف الاستخباري استخدموا بشكل روتيني شفرات في اتصالاتهم من أجل حماية خصوصيتهم‏,‏ وفي ابريل‏2004‏ قرر الاتحاد الأوروبي انفاق‏11‏ مليون يورو من أجل تطوير نظم اتصالات مؤمنة وفق مشروع اطلق عليه اسم‏SECOQC‏ وهو نظام يعتقد انه لايمكن اختراقه من أي برامج تنصت أو تجسس في العالم‏,‏ وكان برنامج اشليون قد استخدم مؤخرا في مراقبة الاتصالات عبر الهواتف النقالة في باكستان لمطاردة خالد شيخ محمد قبل ان يتم القبض عليه في الأول من مارس‏2003.‏

قبل احداث الحادي عشر من سبتمبر والتشريع الذي تلاه كانت وكالات الاستخبار في الولايات المتحدة ممنوعة بشكل عام من التجسس علي الاشخاص داخل الولايات المتحدة وكانت استخبارات الدول الغربية الأخري تواجه منعا شبيها من مراقبة مواطنيها ومع هذا فقد تردد أن برنامج اشيلون وتحالف الـ‏UKUSA‏ قد وجد مخرجا للتحايل علي هذا الحظر من خلال منح المملكة المتحدة فرص التجسس علي مواطنين داخل أمريكا ومنح أمريكا تسهيلات للتجسس علي البريطانيين في المقابل وتردد فيما بعد أن الرئيس بوش منذ عام‏2002‏ قد وسع من نطاق برنامج اشليون ليتضمن مراقبة والتنصت علي الأمريكيين وكان هذا سبب الجدل الذي نشرت تفاصيله في صحيفة نيويورك تايمز لكونه أمر بالتنصت علي الشعب الأمريكي‏.‏

كان قد تزامن مع اشيلون برامج تنصت وتجسس اخري تابعة لبرنامج ضخم سمي الفوضي وقد امر بانشائه الرئيس ليندون جونسون وتفرع منه ما عرف بمشروع ميريماك الذي تم العمل به تحت قيادة قسم العمليات المحلية الـ‏DOD‏ التابع لوكالة الاستخبارات المركزية وكانت مهمته جمع معلومات من خلال مراقبة والتجسس علي اتصالات الجمعيات المناهضة للحرب خلال الحرب علي فيتنام وقد ارتبط به مشروع آخر توءم هو مشروع المقاومة وكان الهدف منه ايضا مراقبة المواطنين وجمع معلومات عنهم خلال السبعينيات خاصة عن الطلبة الجامعيين الذين شكلوا جماعات مناهضة لسياسات الولايات المتحدة الخارجية‏,‏ وقد فضح البرنامج عقب ظهور تفاصيل فضيحة ووترجيت عندما نشرت تفاصيله صحيفة نيويورك تايمز‏..‏ حيث اتضح ان المشروع ادي إلي جمع ملفات عن أكثر من‏13‏ الف مواطن أمريكي تتضمن جميع تفاصيل حياتهم اليومية‏.‏

وفي الستينيات كان هناك مشروع شامروك وهو نوع من النباتات الطفيلية ـ الذي كان الغرض منه مراقبة والتنصت علي اتصالات بعض الافراد من خلال تتبع مكاتب البريد والتلغراف حيث كان يتم فحص أكثر من‏150‏ الف رسالة شهريا وتطبع وتحلل من قبل عملاء وكالة الأمن القومي وقد استمر البرنامج حتي عام‏1975‏ عندما طالب الكونجرس بالتحقيق في المشروع مما ادي إلي ايقاف الـ‏CIA‏ له قبل ان يتم شن تحقيق موسع عن تفاصيله وكان هناك ايضا مشروع منارة المشروع الشقيق لمشروع شامروك تحت إدارة وكالة الأمن القومي والـ‏CIA‏ ومكتب التحقيقات الفيدرالية وقد تضمن استخدام ما أطلق عليه قوائم المراقبة التي قيل ان الهدف منها مراقبة انشطة المخربين الأمريكيين وكان من ابرز الشخصيات التي وضعت في تلك القوائم وتمت مراقبتهم المعارض الزنجي المسلم مالكوم اكس والنجمة جين فوندا والمناهض للتمييز العنصري مارتن لوثر كينج من بين افراد اخرين ضمتهم القائمة تعدوا ‏75‏ الف أمريكي‏,‏ إضافة إلي نحو‏1690‏ منظمة في الفترة ما بين‏1952‏ و‏1974‏ وقد دافع البيت الأبيض وقتها بان من حقه حماية الأمة من انشطة المخربين ومع هذا فان المحكمة العليا الأمريكية لم تقر بهذا الحق وتم انهاء البرنامج عقب شن مجلس الشيوخ للجنة تحقيقا استخباراتيا موسعا عام‏1975.‏

واليوم مع استمرار حرب الإدارة الأمريكية ضد الإرهاب وتحولها إلي إيجاد ادوات أمن قومي ضخمة يبدو أن الإدارة قد عمدت إلي اقتباس واضح ان لم يكن انتحالا لأفكار اورويل في روايته‏1948‏ حيث تستغل الدولة وضعها باعتبارها في حال حرب دائمة ومستمرة ضد عدو غامض ومتغير لتكون مبررا لزرع الخوف والكراهية داخل نفوس المواطنين وتبربر ممارسات النظام المستبدة‏.‏

بعد كل هذه الفضائح الكبيرة التي مارستها الاجهزة الاستخباراتية الامريكية، هل من المعقول ان لا يعرف القادة السياسيين العراقيين انهم مراقبون من قبلها، لاسيما انهم يعرفون جيدا ان الولايات المتحدة هي من وضعت يدها على كل شيء على الارض في العراق بعد التغيير مباشرة، وان المؤسسات العراقية بنيت تحت انظار اعينها.

الا انه ردة الفعل هذه التي ابداها السياسيين العراقيين كانت نتيجة ان هذه الفضيحة وضعت امام انظار العراقيين ولم يبقى طريق امامهم الا ان يعلنوا امامهم الرفض والاستنكار والمطالبة بالتحقيق بهذا الامر.

ان هذه الفضيحة النكراء يجب ان تنعكس ايجابيا على اداء السياسيين العراقيين في طريقة التعامل مع الولايات المتحدة الامريكية، التي لا يمكن ان تدع الحبل سائبا لهم وان يتحركوا بحرية دون مراقبة او تجسس، حيث ان هذه القضية ليست بالقضية الهينة بل هي قضية محورية اذا لم نقل انها قضية مصيرية تتعلق بالامن الوطني العراقي الذي لابد له ان يكون مغلقا على العراقيين فقط، فلا يمكن للقادة العراقيين ان يثقوا بالولايات المتحدة بعد ان علموا ان تحركاتهم مراقبة.

وهذا الامر يجب ان يكون في امهات الامور التي يجب ان يضمنها العراق في مفاوضاته مع الادارة الامريكية بخصوص الاتفاقية الامنية او ما تسمى بالـ/استراتيجية/، وان يقوموا بالضغط على هذه الادارة بان تكون قواتها تحت امرة القوات العراقية وان تكون اجهزة الاتصال تحت ارادة عراقية.

وهناك قضية مهمة اخرى يجب ان يفعلها السياسيين العراقيين متمثلة بادامة الضغط الاعلامي عليها وابرازها وفضحها امام الرأي العام العالمي، وان لا يكتفوا بالتصريحات الاعلامية التي بدرت من بعض السياسيين، انما يجب ان تتحول الى موقف رسمي معلن يطالب الادارة الامريكية بتوضيح الامر والاعتذار رسميا.

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com