قصة يوسف ع رحلة حلم من سجن البادية الى عرش مصر - 17 -

 

حميد الشاكر 

al_shaker@maktoob.com 

((اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخلُ لكم وجه ابيكم وتكونوا من بعده قوما صالحين ))

(( قال قائل منهم لاتقتلوا يوسف وألقوه في غيابت الجبّ يلتقطه بعض السيّارة ان كنتم فاعلين ))

 **************

 بعد ان قرّر أخوة يوسف ماهية المشكلة في يوسف ع وهي حب الاب الدافع الى توجه الاب نحوه، ونوعيتها الفعلية في القيادة وان يوسف قطب رئيسي في التهديد، وكيفية خطرها في عدم الالتفات الى العصبة من قبل الاب، وحقائقها النهائية في مؤامرة اتهام يعقوب بالضلال المبين، أنتقل الاخوة في الشقّ الثاني من المؤامرة او الجلسة الثانية من المؤتمر الى اتخاذ القرارات اللازمة لمعالجة تلك المشاكل الخطيرة على مستقبل ابناء يعقوب، فكان أول ماطرح من الاراء رأي (( اقتلوا يوسف )) !.

وهو رأي كما ترى وبغض النظر عن ماهية القائل ومن هو اسميا، رأيٌ يذهب الى الحسم والتصفية الجسدية التامّة ليوسف ع، ويعبر عن شورى الجميع، باعتبار ان القتل الجسدي سينهي مشكلة يوسف الى الابد من حيث التخلص من خطره من جهة، ومن حيث انقطاع أمل احلام يعقوب في رؤيته من جانب آخر !.

أما الرأي الاخر الذي طرح من قبل اعضاء مؤتمر الجريمة في حزب العصبة لابناء يعقوب، فهو رأي (( أو أطرحوه أرضا )) وهو عبارة عن نفيه بعيدا في أرض مجهولة بحيث لايتمكن معها من العودة ثانيا الى ابيه والى أهله !.

وهناك من المفسرين من اعتقد ان هذا الرأي الثاني المطالب بطرح يوسف في ارض ما ونفيه بالكامل، هو من الاراء الاكثر رحمة والاقلّ قسوة من الرأي الاول المطالب بالقتل المباشر باعتبار انه الرأي الذي تنازل عن فكرة سفك الدماء مباشرة الى فكرة الاحتفاض بالحياة ليوسف والاكتفاء بتغييب وجهه من حياتهم !.

والحقيقة انه لم يكن النص يشير الى ماذهب اليه هذا التوجه من التبيين القرءاني، وانما التوجيه الصائب للنص ولمضمون الرأي الثاني هو عدم التنازل عن فكرة القتل ولكن باسلوب آخر، وهو الاسلوب الذي يفترض بشاعة منظر الجريمة عندما يقدم أخوة كبار ناضجين عقليا ومسؤولين فعليا عن حماية ال يعقوب بجريمة قتل مباشرة لصبي لاحول له ولاقوة ولاجريمة الا انه اختطف عناية الاب وتوجهه في هذه الحياة، فبدلا من هذا الاسلوب المباشر الذي على بشاعة صورته ربما يختزل بداخله عنصر الضعف البشري ومن ثم بالامكان تعرض قرار التصفية نفسه لهزات عاطفية تعطل من امضائه، بدلا من ذالك كأنما يريد القول :  نغير الاسلوب في القتل ليوسف، وننتقل من تصفيته جسديا وعلى ايدي الاخوة، الى اعطائه ليد الصحراء المهلكة تقتله كيفما شاءت من خلال التهامه بالرمال المتحركة او ذبحه عطشا، او تقديمه وجبة شهية للحيوانات الصحراوية المفترسة، وهذا ماكان مضمون الاقتراح الثاني في (( او اطرحوه ارضا )) باعتباره اختلاف في الوسائل وليس في غاية القتل نفسها !.

وعلى هذا كان قرار القتل لم يزل هو المطروح في الرأي الاول والثاني ولكنّ باختلاف في الوسائل، بل ربما كان الرأي الثاني (( أو اطرحوه ارضا )) أكثر شيطانية منه عن الراي الاول، ففي الطرح الاول يبدو ان هناك الكثير من الهستيريا الانفعالية مضافا اليها التسرع والهوج في الطرح والذي يدلل على اجرامية الطارح بشكل مفضوح ومكشوف للفطرة الانسانية السليمة، لذالك بادر صاحب الرأي الاخر الى الرجوع لعقلنة الجريمة والتفكير بتنفيذها بشيئ من الوعي والبرمجة الهادئه فطرح وببرود اعصاب صاحب الجريمة المتمكن قوله :(( او اطرحوه ارضا )) للتغطية على الكوامن النفسية الشريرة، وكي لايقال ان هناك دوافع نفسية كالحسد والغيرة ومجرد الانتقام من يوسف في طرح المسألة هو الذي يدفع لقتل يوسف مباشرة وباليد الاخوية، ولهذا طُرح رأي :(( او اطرحوه ارضا )) باعتبار انه الوجه الاخر لعملة التخلص من يوسف ولكن بشكل غير مباشر !.

ولهذا السبب بالذات ايضا ومن اجل دفع شبهة الدوافع النفسية البحتة في القيام بمؤامرة اغتيال يوسف، جاء التعقيب على كلا الرأيين بصورة مباشر :(( يخلُ لكم وجه ابيكم )) للتدليل على ان غاية مشروع المؤامرة برمتها هو ليس بسبب كره يوسف الشخصي او حسده المعنوي او الحقد الاناني عليه .... لا، ولكن السبب الرئيسي لأرادة التخلص من يوسف هو أخلاء توجه الاب يعقوب نحو الابناء اصحاب العصبة والقوة، وهو نفس السبب والغاية التي جمعت الاخوة بكليتهم على الاجتماع واتخاذ القرارات المناسبة بشأن يعقوب وابنه يوسف عليهما السلام ؟.

ولهذا قلنا ان الرأي الثاني في مؤتمر الجريمة لابناء يعقوب لم يكن أكثر رحمة من سابقه الا بالشكل والصورة، بل انه كان اكثر قسوة في الجوهر والمضمون من الرأي الاول المطالب بقتل يوسف مباشرة وبلا ادنى تفكير او تخطيط بعيد الغايات !.

نعم وفرّ الرأي الاخر (( او اطرحوه ارضا )) الغطاء النفسي لجريمة القتل في نفس الوقت الذي اكد على ضرورة التخلص من يوسف والى الابد، الا انه الرأي الذي شكل نقطة التقاء على تنفيذ الجريمة اكثر من سابقه باعتبار ان الرأي الاول (( اقتلوا يوسف ))  ربما يكون مدار خلاف حتمي وتدخل فيما بعد شائبة سؤال لماذا يقتل يوسف ؟.

وهل بسبب حسدنا وبغضنا له وحقدنا عليه يكفي كي تكون مبررات واقعية للتخلص منه ؟.... وهكذا !.

بينما كوّن الرأي الثاني (( اطرحوه ارضا )) الارضية التي تخفف او ترفع كل احتمالات الاختلاف على تنفيذ مؤامرة اغتيال يوسف، فليس هناك شبهة انتقام نفسية مباشرة كالقتل المباشر باليد، وليس هناك الا غاية موحدة هي التي تجمع جميع ابناء يعقوب عليها وهي :(( يخلُ لكم وجه ابيكم )) فهي الغاية التي تدفع بيوسف بعيدا واعتباره شيئا ثانويا بمعادلة الاغتيال والتصفية بل واعتباره مجرد ضحية لابد من التضحية بها ليصفو وجه الاب لابناءه الكبار !.

اي وبمعنى آخر : ان التقرير بأن كل مايراد ليوسف في هذا المؤتمر هو ليس للتخلص من يوسف كيوسف الفتى الصغير والاخ للاب غير الشقيق، وانما المراد هو تثبيت مصالح العائلة اليعقوبية، وكيفية ادارتها السليمة، وقيادتها بشكل منتظم،... وكل هذا يقف عقبة في طريقه يوسف من جهة والاب يعقوب من جهة اخرى !.

فأمّا يعقوب فحكم عليه مؤتمر حزب العصبة بالضلال المبين والعجز العقلي والسفه الفكري، بحيث اصبح وجوده من عدمه سواء، بل وجوده افضل للبركة من عدمه باعتبار انه ومهما يكن، ومادام جرّد من كل صلاحياته الابوية القيادية للعائلة يصبح وجوده المؤقت اكثر نفعا من تغييبه، الذي ربما يثير الكثير من اللغط الاجتماعي من جهة، واللغط النفسي ايضا من جهة اخرى، فعندما يقال اخوة قتلوا اخاهم لمصلحة العائلة العليا، ليس كما يقال ابناءا قتلوا اباءهم لأمر ما، وهذا مادفع ابناء يعقوب بالاحتفاظ بالاب حيا في الحياة !.

وأما يوسف فبالأمكان ازالته من الوجود واعتباره ضحية من ضحايا مصلحة العائلة الكبيرة، وعليه فأما ان يقتل بصورة مباشرة وعلى يد الاخوة انفسهم وبضربة واحدة، وأما ان يترك للصحراء تقتله كيفما شاءت، ولاعودة عن قرار نفي او قتل يوسف على الحقيقة باعتبار ان افساد نفسية الاب جاءت وحسب مايعتقد ابناء يعقوب من وراء هذا الصبي الصغير، فهو وان كان وجوده شكل مشكلة لاخوته الا ان تفكيرهم بالتخلص منه لم يكن لمجرد الحسد والحقد عليه بقدر ماكان ارجاع العجلة المتحركة لقاطرة العائلة لوجهتها الصحيحة :(( يخلُ لكم وجه ابيكم )) !.

اتضح المطلوب الان !.

يتبقى ان نناقش نفس الفكرة المستولية على عقلية جميع المفسرين الاسلاميين في قصة يوسف ع الا وهي قصة ( حب يعقوب ليوسف وتسبب هذا بحسد اخوته له ) ففي معرض تبرير ابناء يعقوب لجريمتهم واعطائها الطابع المصلحي والجماعي كي تكون مبررا للقيام بجريمة قتل ونفي، عقب الابناء في مؤتمرهم هذا بالغاية الحقيقية من كل هذا المؤتمر وقراراته الصعبة، الا وهي :(( يخلُ لكم وجه ابيكم )) لكنّ الشيئ الذي يلفت النظر هو مقولة اكثر من واحد من المفسرين الكبار وتبيينه لهذا النص على اساس انه : (تصفوا لكم محبة ابيكم)،باعتبار ان خلُ وجه الاب المشار اليه وغاية الجريمة الذي نفذت، ونهاية حكمة المؤتمر الذي اقيم .... وكل هذه الاشياء التي يتحدث عنها القرءان العظيم بحرقة، ماهي الابسبب ان الاب يعقوب لم يعد يحب ابناءه الكبار ومن هنا اجتمع الابناء ورموا اباهم بالضلال وخططو لجريمة قتل اخاهم .......الخ، كل هذا فقط وبسبب ارجاع حبُّ الاب الذي انفقد على يد يوسف ومن وراء جرائره الكبيرة ؟.

هل هذا معقول ؟.

اختصار كل ماتقدم بعملية حب ساذجة بين اب وابناءه ؟.

ثم لا اعلم من اين استقى المفسرون المحترمون قضية الحب في النص القرءاني الكريم ؟.

هل من :(( يخلُ لكم وجه ابيكم )) ؟.

واين الحب في مضمون ومنطوق هذا النص ليقال في تفسيره : يصفو لكم حب وود ابيكم ؟.

ولا اعلم حقيقة ما ذا يعني : اخوة يقومون بجريمة قتل لاخيهم الصغير الذي هو من المفروض ان يكون احب ابنائه اليه، ثم يفكر هؤلاء الابناء انه بعد قتل حبيب الاب او تغييبه يصفوا لهم حبُ الاب بعد قتل حبيبه وادماء قلبه واستثارة كل مشاعر العنف والغضب في داخله ؟!.

هل هذا الفهم للنص القرءاني معقول ومنطقي من وجهة نظر المفسرين العظام ؟!.

نحن البسطاء وكما نفهم الفعل والنص القرءاني بفطرية، ندرك ان اخوة يوسف اناس يملكون عقلا بشريا، وعندما يقررون القيام بجريمة استباقية من اجل الاحتفاظ بمصالحهم ومكاسبهم العائلية السياسية والاقتصادية فانهم سيدركون وبالقطع ان اباهم ستكون له ردّة فعل طبيعية غاضبة جدا ربما تزيد غضبه عليهم، ولهذا اتخذ هؤلاء الابناء قرار معالجة الاب وعزله ورميه بالضلال كي يسقطوا المصداقية عن كل ماسوف يتهم ابنائه به من تعدي عليه وعلى ابنه يوسف، ثم بعد ذالك قرروا الاتيان بالجريمة من منطلق آخر لاطمع فيه لحب الاب بقدر ارغامه على الانعزال وانتخاب خليفته بالقوة وربما غير بعيد استضعافه واملاء قرار اتخاذ الخليفة عليه من بعده من احد الاخوة الكبار، وعلى هذا جاءت الغاية :(( يخلُ لكم وجه ابيكم )) ليس من منطلق انه ستصفوا لكم محبته، ولكن من منطلق الجهة الاخرى من المعادلة في :(( سيخلُ لكم وجه الاب لتتفردوا به انتم وتقوموا بماتشاؤون من عمل )) اي انه بعد التخلص من يوسف باعتباره الاحتمال الاكبر لوقوفه بجانب والده ان اريد عزله وتجريده من كل صلاحياته باسم الضلال، فليس هناك الا وجه الاب منفردا وعندئذ سيسهل على الابناء التفرد بوجه الاب لخلوه من يوسف وخلوه من كل شيئ !.

اي وعلى هذا الفهم تكون المؤامرة موجهة اولا ضد الاب يعقوب وبعد ذالك تأتي حسبة يوسف ع   التي جاءت متأخرة لتثير القديم والجديد في مشكلة يعقوب مع ابناءه الكثر !.

نحن نفهم هذا الفهم الطبيعي والعقلي لمقولة ابناء يعقوب القرءانية :(( يخلُ لكم وجه ابيكم )) باعتباره الغاية من وراء جريمة القتل او النفي ليوسف من حياة عائلة يعقوب، أمّا ان يأتي المفسرون هنا وهناك ليفهموا النص القرءاني لقصة يوسف بشكل فيه (حوَل فكري)، فنحن غير ملزمين بتزييف المقاصد الحقيقية للنص القرءاني من جهة، وغير مطالبين بتفسير النص القرءاني بشكل يناقض اوله اخره تماما لنقول قام الابناء بجريمة تغضب الاب لتخلص لهم محبة الاب فيما بعد ؟!.

وعلى هذا كان فهمنا لكل القصة بواقعية ومنطقية وتسلسلية عقلية تربط بين اجزاء القصة بشكل يدرك ان للنص القرءاني احترامه وله عمقه التفكيري الذي يدعوا لفهم النص كما يريد النص نفسه، وليس فهم النص كما ارادته العقول التوراتية المتحجرة او العقول التراثية المقيدة او العقول الانية المنغلقة !.

اذن : اولا (( اقتلوا يوسف )) مقترح أول ينمُّ عن روح عدوانية هوجاء لاتفكير لها ولاتعقلن، خشنة اعرابية يصعب مسّها .

ثانيا :(( او اطرحوه ارضا )) عقلية اكثر اجرامية الا انها هادئة واكثر اتزانا لعقلنة الجريمة واعطائها الغطاء المصلحي الكبير كمصلحة الامة تقتضي القيام بهذا الفعل !.

ثالثا :(( يخل لكم وجه ابيكم )) الغاية العظمى من كل المؤامرة، وهو عبارة عن فكرة للنهب والاستيلاء على كل الارث اليعقوبي الكبير، والاستفراد به والدعوة ان لاوريث لخلافته الا ابناءه الكبار الموجودين بغياب يوسف الصديق خليفة يعقوب الحقيقي والحامل للواء الامامة من بعده !.

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com