العــــراق .. قائمٌ بــذاته
 

سهيل أحمد بهجت

sohel_writer72@yahoo.com

"لا وطـن مع فـقر ولا غـربة مع غنى" – علي بن أبي طالب -

ما هي الفلسفة التي يمكن للعراقيين الإستناد لها في بناء دولتهم؟ معلوم أن كل دولة تستند إلى فلسفة تستطيع بناء نظام متطور حقيقي، بينما نرى غالبية دول العالم الثالث لا تمتلك نظرة فلسفية تختصر البعد القانوني والتبريري للدولة لهذا السبب فإن الدول المتخلفة تعيش صراعا مستمرا ودون نهاية لمسألة التعريف الذي تستند إليه أي دولة من الدول، والدولة المتجسدة في نهاية النظام العالمي – مجسدة في الولايات المتحدة والغرب – هي دولة معرفة الذات وهي الدولة التي فرغت من طرح السؤال والجواب حول مسألة الهوية التي يتعلق بها السؤال، والإنسان الغربي وصل إلى ذاته عبر شعوره الدائم بالاغتراب وهوطرح السؤال السلماني (نسبة إلى سلمان الفارسي) الذي يريد باستمرار أن يحصل على جواب لكل الأسئلة الكونية: أين ومتى ولماذا وكيف ومن هوسبب وجودنا.."!!

بينما مجتمعاتنا مبنية على اليقين الجمودي المناقض لليقين الديكارتي الذي يبدأ في الشك وسيلة للمعرفة والعلم وكخطوة أولى للتأكد من صحة هذا اليقين الذي قد لا يكون إلا وهما وخيالا، ومشكلتنا أننا نقدس "العقل" ولكننا نسلم بكل استنتاجاته دون أن نعرف ماهية هذه المقاييس ومدى موضوعيتها، وما دام المجتمع كتجسيد للفرد لا يعيش حالة اغتراب وسؤال وبحث وشك فليس من الممكن أبدا أن نخرج من الحلقة المفرغة للمآسي والكوارث الاجتماعية والسياسية وكل الجوانب الأخرى، ومن ضمن المآسي التي نعيشها كعراقيين هوتعريف الدولة العراقية وهويتها التي يستند إليه القانون والنظام بل وحتى أصل وشرعية وجود هذه الدولة ومدى قابلية استمرارها.

وحتى لوكانت النصوص المقدسة والتراث الديني يحويان كثيرا من مواقف اليقين وإدراك العقل للإلهي كطرف آخر في العلاقة الكونية، إلا أن اليقين الديني يختلف عن اليقين الفلسفي واليقين الفلسفي بدوره يختلف عن ذلك اليقين العلمي الطبيعي كالرياضيات والكيمياء، إن الفلسفة وحدها قادرة على بناء دولة ونظام قانوني مستندة إلى التجربة الإنسانية التي تستطيع أن تمزج بين اليقين الديني الروحي والعلمي الطبيعي لتتكون فلسفة تستطيع تطوير النظام من دون اعتماد كامل على اليقينين المتضادين الديني والطبيعي، فاليقين الروحي له مجال مختلف كليا عن ذلك الطبيعي والعكس صحيح، لكن اليقين الفلسفي يقوم بعملية الدمج التي تكون فعلا واقعيا ذا أبعاد روحية لبناء الدولة، اليقين الديني لوحده سيعيدنا إلى القرون الوسطى والتعصب الديني والمذهبي الذي سيندفع بعنف تجاه طبع القانون والنظام بلون لفئة وجماعة بعينها، بينما اليقين العلمي الطبيعي سيدخلنا إلى عهد الشيوعية والماركسية والاشتراكية القومية وهوما سيجلب الدمار الأكيد.

إن اليقين الفلسفي هووحده القادر على التعامل مع نسبية اليقينيات الدينية والعلمية الطبيعية من حيث خلق بعد ثالث يزيل التناقض بين النوع والكم في هذه اليقينيات، فالدين هوذوبعد روحي يستدل على قضايا شاملة خارج القانون الطبيعي الكوني الذي هومن اختصاص العلم الطبيعي، ولأن بناء الدولة هوتعامل مع هذين اليقينين المتضادين فلا بد من استعمال اليقين الفلسفي الذي لا بد أنه وحده الذي يمكننا اتخاذه مقياسا لرؤية الإنسان الذي يمتلك بعدين متناقضين هما حاجته إلى البعد الديني لافتقاره إلى الخلود والضمير والبعد المادي الطبيعي الذي ينبغي أن يراعي ظروفه المادية والاجتماعية، فالفلسفة لها هذه الوظيفة الخطيرة والمهمة، ولافتقادنا في مجتمعاتنا مع مسألة تنوع اليقينيات فإن هذه المجتمعات تستمر في البحث عن الجواب النهائي من خلال الدين – والدين وحده لا يمكن له أن يقدم الجواب الكامل – فهناك علوم هي بالكامل خارج وظيفة الدين ولكن مجتمعاتنا مستمرة في خلط الوظائف، فالطب مثلا قد يصل إلى علاج مرض ما بدواء معين والدين بدوره يتحول إلى حجر عثرة فيعتبر أن هذا الدواء حرام ونجس مع العلم أن أحد أهم أسس الدين هوحفظ النفس قبل أن يكون هناك أي نوع من الحلال والحرام وما إلى ذلك، والأمر الآخر هوأن هناك يقينيات رياضية لا يمكن للدين إلا الإستسلام لها.

إن اليقين الفلسفي ليس يقينا من النوع الديني ولا العلمي الطبيعي، فكلا الحقيقتين المتناقضتين الدينية والعلمية تتعاملان مع القضية المنطقية بما يشبه المسلمة البديهية التي لا تحتاج إلى كثير تردد للوصول إليها، لكن بمجرد اختلاطها مع الواقع الإنساني المتشابك العلاقات والمعقد والمتناقض فإنها تصبح أسئلة نكون في حاجة ماسة لمعرفتها، ولأن دولنا الشرقية الإسلامية ذات طبيعة استسلامية ولا تطرح تساؤلات حقيقية لذلك نجد أن هذه الدولة ونخبها الثقافية والسياسية هي ذات بعدين لا ثالث لهما، إما دينية طائفية وقومية عنصرية، وكلا القضيتين بديهيتان في تعريف الدولة والنظام القانوني، وبسبب هذه الفوضى الفكرية القائمة على البديهة فإن النظام القانوني والفكري والاجتماعي وشاملها السياسي يعيش كارثة حقيقية من الركود والجمود، فتناقض الاجتهادات وحتى التفسيرات التي تدخل في ما يتصل بالفرد والمجتمع وتحول الدين إلى جبال من الواجبات والعقوبات وبدون أي حريات، كل هذا كان سببا كافيا في خلق فوضى لا تصدق.

لا بد ها هنا من أن نضع أيدينا على جانب آخر من المرض، فالهوية الإسلامية التي أُلصقت لصقا بالعراق من خلال دستور مليء بالتناقضات خلق فعلا أزمة ولاء تجاه الدولة إذ افترض كاتبوا الدستور مسبقا أن كل العراقيين "متدينون" مع أن الأولى كان فرض نص آخر بدلا من الهوية الدينية هوأن الفرد حرٌّ في التفكير والاعتقاد بما يشاء على أن يلتزم بحريات الآخرين والملكية العامة وفق القانون، وإذا قيل أن هذا ما يتضمنه الدستور فإن الإشكال باقي ما دام العنوان هو"هوية" ذات ضبابية ودخان قد يحرق العيون، فالإسلام هوالآخر كتجسيد لكل أفعال الإنسان متعدد الوجوه والانتماءات وحتى المقاييس، فبدءا من الشيعة الإثني عشرية إلى السنة والوهابية السلفية التفخيخية وانتهاءا بمذاهب أخرى قد تجد طريقا لها إلى العراقيين في المستقبل، من هنا لم يكن العراق إلا جزءا من مشكلة كبيرة بدلا من أن يكون طرفا وهوالجواب عن كل الإشكالات.

الحرية كعنوان ليست أمرا كافيا إذا لم تقترن بفعل واقعي على الأرض، ونحن كمصلحين عراقيين نتهرب دوما من توضيح الحقائق أمام أعين المواطنين تارة بحجة أن مجتمعنا لا يزال متخلفا وطورا آخر بحجة أنه غير جاهز للحداثة، والحقيقة أن الحداثة لا بد أن تأخذ طريقها إلى العراقيين وإن تسببت في سلبيات معينة، لأن مشاكل الحداثة أفضل بكثير من محاسن التخلف والجمود، والتحجج الدائم من قبل رجال الدين خصوصا بالخوف على "أخلاق المجتمع" وتماسكه المزعوم هومجرد تبرير لاستمرار حكم الخرافات الدينية – نموذج إيران وأفغانستان طالبان - والقومية – نموذج عراق البعث ومصر – وفلسفيا أيديولوجيا – نموذج الاتحاد السوفيتي والصين الدكتاتورية – فالحرية مطلوب إيجادها وخلقها في المجتمع ومن ثم يمكن لرجال الدين والمصلحين تربية الإنسان وتوجيهه بإخلاص أكبر نحوالدين كونه سيكون كائنا حرا غير منافق عبر ظاهرة الإكراه.

الدولة العراقية وهي تجسيد للأمة العراقية التي هي انعكاس للذات العراقية – الفرد العراقي – هي شيء قائم بذاته، وبمجرد أن نذكر كلمة عراق فنحن والعالم نستحضر في أذهاننا سومر وبابل وأكد وآشور وألف ليلة وليلة والسندباد وعلي بابا واليهودية والمسيحية والإسلام، فالعراق يعيش حالة اغتراب إيجابي منذ زمن طويل ولكن محيط البداوة والوحشية هوالذي منعه من المشاركة الفعلية في طرح حلول للأسئلة الكبيرة والخطيرة، فالعراقي يمتلك دوما روحا للتمرد والثورة على التقليد والجامد فهويكاد يكون البلد الإسلامي الوحيد الذي شهد صراع المدارس الفكرية العقائدية "الشيعية والمعتزلية والسنية" وحتى داخل المذاهب السنية "المالكية والحنفية" وصراع المدارس اللغوية "المدرسة النحوية الكوفية ضد البصرية"، فالعراقي إنسان باحث ولكن بحثه هذا بحاجة لظروف موضوعية ليتحول إلى إبداع، فلنعرف الهوية العراقية بأنها حضارة إنسانية قديمة قائمة على حاجات الفرد وحقوقه ومقابل كل حق هناك واجبات يستطيع المواطن القيام بها بمجرد أن تقوم الدولة بأداء هذه الحقوق، وعلى العراقيين أن يعوا أن الأمريكيين لم يكونوا ليخسروا أمريكيتهم حينما كانوا ضمن التاج البريطاني لولا أنهم كانوا يدفعون ضرائب من دون مقابل (حقوق) للتاج البريطاني وهوما أدى إلى الثورة ضد البريطانيين، فمع الحقوق يكون الإنسان مالكا لهويته.

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com