في ذكرى حروب الطاغية المقبور .. (صرخة باول بويمر!)

 

يوسف ابو الفوز

 haddad.yousif@hotmail.com

باول بويمر ليس جنرالا أو محلل سياسي، او محلل حروب ستراتيجي، انه مجرد جندي عادي، واحد من تسعة عشر طالبا في نفس الصف، تطوعوا للحرب، بتأثير محاضرات معلمهم . وفوق كل ذاك، هو ليس انسان حقيقي من لحم ودم، بل هو خُلق على الورق .  باول بويمر بطل في احداث رواية، ولكنه اشهر من كل الابطال، لانه عبّر عن ماساة ابناء جيله الذين خاضوا غمار الحرب العالمية الاولى، والذين " تحطموا بسبب الحرب، حتى ولو كانوا قد نجوا من قذائفها " مثلما يتحدث عنهم . انه بطل رواية " لا جديد في الجبهة الغربية" للكاتب الالماني المعادي للنازية "اريش ماريا ريمارك" (1898-1970)، الرواية التي طبق صيتها الآفاق وذاعت في الشرق والغرب . صدرت الرواية في شتاء 1928 وتحولت في عام 1930 الى فلم سينمائي بنفس الاسم حصد حينها الجوائز والشهرة، وترجمت الى كل لغات العالم . وان كانت هذه الرواية قد جلبت لكاتبها الشهرة والثروة، فانها ايضا جلبت له عداء النازية الالمانية، التي كان حزبها في نمو سريع . وما ان صار واضحا للكاتب ريمارك ان هتلروالنازية سيتستلمون زمام السلطة في المانيا، حتى كان اول كاتب الماني يصبح منفيا بسبب النازية وهتلر .

النظام الديكتاتوري البعثي المقبور، الذي فاق نازية هتلر، بفاشيته واجرامه، خاض حربا مجنونة، حاول ان يسوقها تحت شعارات الدفاع عن" الجبهة الشرقية " للوطن العربي، واستمرت لثمان سنوات متواصلة، نجد ان الصرخة ـ السؤال الذي اطلقه الجندي الفتي، باول ويمر، بطل رواية ريمارك، ينطق تماما عن لسان اجيال العراقيين، التي عاصرت حروب الطاغية صدام حسين . ويضعنا بطل ريمارك مباشرة امام نتائج حرب صدام المجنونة، التي ظلما تسمى"الحرب العراقية ـ الايرانية "، فلا علاقة للعراق بخطط "القائد الضرورة" ـ حفزه الله ـ  لاكتشاف طرق تؤدي الى القدس . هذه الطرق  مرة تمر عبر عبادان ومرة عبر العبدلي، حتى اوصلته الى تلك الحفرة الشهيرة، بعد ان زحفت عليه جيوش حلفاء الامس . جاءت جيوش الغزو تبحث عن " اسلحة الدمار الشامل " فلم تجد "السلاح "، ولكنها وجدت " الدمار الشامل " كما تقول اخر الطرائف الساخرة عن الرئيس الامريكي جورج دبليو بوش .

كانت حرب الديكتاتور صدام حسين، ضد الجارة ايران، وفي كل مراحلها، حربا قيل عنها بحق انها حرب لا ناقة ولا جمل للمواطن العراقي فيها . كانت العلاقة الوحيدة لابناء العراق بهذه الحرب، انهم صاروا ومجبرين وقودا لها . وقد قيل الكثير بما يتعلق بالاحصاءات عن الارقام المليونية عن ضحايا هذه الحرب، من قتلى ومفقودين ومعوقين، ولكن لم يقل الكثير بعد عما تركته هذه الحرب من تأثير عميق وجذري على كل عائلة، وبالتالي على مقومات واسس بناء المجتمع العراقي وشخصية ونفسية المواطن العراقي .

العراق خلال سنوات الحرب الثمانية صار البلد الاكثر استهلاكا في المنطقة للقماش الاسود، لا ينافسه في ذلك سوى ايران نفسها، فاثواب الحزن ولافتات التعزية صارت مباحة للجميع . كان ثمة عدالة متميزة من الديكتاتور في منح كل عراقي الحق بالتمتع بالحزن ومأساة الموت . كانت التوابيت، ملفوفة بعلم صدام، بعبارة الله واكبر التي كتبها بخط يده، او مكتوب عليها كلمة "جبان " تصل بسخاء لكل زقاق في كل مدينة، ولكل قرية، وكثيرا ما كانت تصل بالجملة، مصحوبة بهلاهل واهازيج رداحي النظام من مطربين وشعراء مأجورين . صار الموت شأنا يوميا . اعتاده المواطن العراقي . لم يعد احد يخاف هذه الكلمة . تراجعت كلمة الحياة بسرعة . ومعها تراجعت منظومة كاملة من القيم والمفاهيم . صارالمواطن العراقي يتناول طعامه مع اطفاله ويتفرجون ـ جميعا ـ على برنامج تلفزيوني مثل " صور من المعركة "، وهو ينقل لهم منظر جثث العدو .

وللهروب من نتائج وتداعيات الحرب الاولى مع ايران، تحرك الديكتاتور ـ بذكاء صميمي ! ـ الى حرب تالية، فأحتل دولة الكويت مشيعا لغة وثقافة الغزو والفرهود. ثم كان ما عرف بحرب تحرير الكويت وطرد قوات صدام منه، والنتائج الكارثية لذلك، التي اكتوى بها ابناء الشعب العراقي . هذا اذا لم  ننس الحروب الداخلية، قمع النظام الديكتاتوري لانتفاضة اذار المجيدة، والحرب المستمرة ضد قوى المعارضة العراقية المسلحة، المقاتلة لنظام صدام حسين في كردستان العراق وفي الاهوار، والحرب العدوانية الشوفينية ضد ابناء الشعب الكردي بما في ذلك استخدام الاسلحة الكيمياوية .

الصرخة ـ السؤال الذي سجله بطل رواية ريمارك  وظل يرن عبر السنين : " لسنين طوال كانت مهنتنا القتل، مالذي سنصبح عليه ؟ "

حين زرت جنوب العراق، شتاء 2004، من بعد غياب 27 عاما، وفي كل البيوت التي زرتها من بيوت الاقارب والاصدقاء، لم اجد بيتا يخلو من قطعة سلاح ان لم يكن اكثر. وفهمت مشاعر صديق لي، مقيم في اوربا،  سبقني بزيارة اهله، حين روى وهو يرتجف كيف ان ابنة اخيه ذات الثلاثة عشر ربيعا كانت تصف له بهدوء وثقة ودراية طريقة صناعة قنبلة في المنزل . وكنت شخصيا اقضي ليلة في بيت احد الاقارب في بغداد حين سمعنا صوتا غريبا على سطح المنزل، فكان اول المتحركين طفل في العاشرة حمل البندقية بخفة وبمهارة وتحرك باتجاه سطح المنزل، قبل ان يسرع ابيه ويبادر لاخذ البندقية!

ويكرر بطل ريمارك: "معرفتنا بالحياة تقتصر على الموت ... مالذي يأتي ...  او يحدث بعده، مالذي سنصبح عليه؟".

هذا ما نراه الان في العراق وصرنا عليه، من حصيلة حروب المجرم صدام حسين . سيادة لغة العنف، وفقدان اطفالنا لبرائتهم، واستهانة بالحياة وعدم اكتراث بموت وآلام الاخرين، وعسكرة للمفاهيم والافكار عند قطاع كبير من الشبيبة ومن ابناء الشعب العراقي. وحين يكون الانسان عاطلا عن العمل، يمكن بسهولة، بسبب حاجته، شراء خبرته في مهنة القتل لتوظيفها في سياقات سياسية متنوعة. واذ تنشط الجماعات السياسية في تشكيل مليشياتها وفرقها الخاصة، تحت لافتات تتلائم مع سطحية الوعي السائد، فانها لا تجهد وتبذل كثيرا في اعداد وتدريب من تجندهم، فهم جاهزون، ومتدربون على مهنة القتل، فمعارفهم في الحياة تقتصر على العنف والموت فقط، والفضل كل الفضل يعود لحروب الطاغية المقبور!

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com