|
تجربة الشعب العراقي مع المعاهدات
خالص عزمي ليست هناك دولة على الارض لم تعقد معاهدات او اتفاقات اوعقود ؛ ولكن كثيرا من تلك الدول تعنى تماما بان تكون هذه الحزمة من الارتباطات مبنية على اسس من التوازن والعدالة والمصلحة الوطنية بدءا من ركائزها وحتى ادق تفاصيلها . ويحفل تاريخ العراق المعاصر بسجل ضخم من بنود المعاهدات او الاتفاقيات او الاتفاقات التي ابرمت او التي ظلت مسوداتها في خزائن الدهاليز او أقبية الارشيف تعين الباحثين على الدرس والتتبع او استخلاص العظات والعبر. وتقع تحت العنوان الاول ؛ من تاريخ العراق المعاصر معاهدات واتفاقيات أ وعقود (بمرتبة الاتفاقات التشريعية الملزمة) ؛ كاناغلبها قد أخذ طريقه الى كفتي ميزان غير متعادلتين ؛ اذ يثقل الاولى ؛ تسلط واستحواذ وتجسيد لمصلحة الطرف الاجنبي وحسب، بينما تحمل الثانية منه غبنا وانتقاصا لسيادة البلاد والتعمد في الاهانة . وسواء أكان ذلك الكم من المواثيق في الحقب الاستعمارية قد وقع أم لم يوقع ؛ او صدق عليه أم لم يصدق، فان الشعب العراقي وفي مقدمته شخصياته الوطنية ومنابره الجهيرة وصحافته الملتزمة بمصلحة الوطن لم تدع طريقة الا وسلكتها للتعبير عن رفضها القاطع لكل ما هو ضد تلك المصلحة العليا . وفي مواقف الشعب العراقي من تلك الحالات التي رفضت فيها جميع اوجه المساومة والتنازل والانصياع امثلة كثيرة منها :ـ ان ثورة العشرين الجليلة ؛ لم تشتعل نارها في 30 حزيران 1920 الا بعد ان ادرك الشعب الاعزل مدى الغبن المجحف الذي لحق بالبلاد من جراء سطوة المحتل المتفردة ونكثه لما اعلنه جهارا ( لقد جئنا محررين لا فاتحين ) . اما في عام 1922 فقد عمت البلاد تظاهرات واحتجاجات صاخبة ضد المعاهدة المقترحة ؛ وتقدمت الشخصيات الوطنية ببرقيات احتجاج الى الملك فيصل الاول الذي آزرها من خلف الستار ؛ بحيث ادى ذلك الموقف الى استقالة وزراء الحكومة ؛ بل وأكثر من ذلك ؛ فقد احتشدت الجماهير امام مقر الملك وهاجمت برسي كوكس المندوب السامي وهو يصعد السلم لتقديم التهاني لمناسبة ذكرى الجلوس على العرش بالفاظ لم يسبق لها مثيل وبحضوروتوجيه فهمي المدرس رئيس الديوان الملكي ؛ وكانت لطمة شديدة الى المندوب السامي الذي طالب باقلة رئيس الديوان على الفور. اما معاهدة 1926 فقد تصدى لها الطلاب بشجاعة واستبسال ، ثم تطورت الامور بعدئذ الى مرحلة حرجة وذلك باستقالة رئيس مجلس النواب ثم استقالة حكومة السعدون بكامل اعضائها وهكذا اصبحت البلاد على حافة انفجار سياسي مدمر تحيطها التظاهرات والازمات المتواصلة من كل جانب . وكانت خاتمة تلك السلسلة من الهيجان التراجيدي لتلك المرحلةالعصيبة هي انتحار رئيس الوزراء عبد المحسن السعدون في 13 تشرين الثاني عام 1929مودعا الحياة بجملته المشهورة ( الامة تنتظر الخدمة والانكليز لا يوافقون ) . كان مشروع معاهدة 1930 هو الاخطر والاهم في تلك الفترة من تاريخ العراق المعاصر ؛ فقد جندت الحكومة البريطانية كل امكانياتها لتمريره على اسس تضمن جميع ما تهدف اليه سياستها في البقاء على ارض العراق الى ابعد مدى والافادة المباشرة من خيرات البلاد وموقعها الاستراتيجي ... الخ .في حين ا لشارع يلتهب حماسا ضد هذه المعاهدة الغاشمة ؛ وكانت المعارضة الوطنية بقيادة ياسين الهاشمي تقف بحزم ضد كل تلك المناورات وتطالب بتفسيرعلني للاتفاق المالي والعسكري ؛ وتنادي بذات الوقت بضرورة اصدار قانون التجنيد الاجباري ؛ ليكون ابناء الوطن على استعداد تام للذود عن حياضه . ولكن المعاهدة وبحجة دعم بريطانيا لمبدأ قبول العراق في عصبة الامم ابرمت عنوة وبطريقة شكلية متهاوية مخجلة ؛ فانفجرت التظاهرات في كل مكان ؛ ثم تواصلت صور الشجب بسلسلة من الادانة بعد ذلك ولفترة طويلة؛ ... ومن صورها الصاخبة الرافضة، اضراب الطبقات العمالية والطلبة بشكل متواصل، اعقبتها ثورة الفلاحين في الفرات الاوسط ؛ ثم الانقلاب العسكري بقيادة بكر صدقي؛ فاغتيال الملك غازي الاول ؛ فحركة رشيد عالي الكيلاني ضد الوجود البريطاني واعوانه ؛ ثم تلك المجزرة المروعة التي وقعت في كاور باغي وذهب ضحيتها عدد من عمال النفط في كركوك .... الخ لقد كانت سنوات مجابهة ؛ لم تهدأ فيها البلاد ولم ينل فيها البريطانيون واتباعهم راحة حقيقية. بعدها جاءتهم الضربة الحازمة في وثبة كانون 1948ضد مشروع معاهدة بورتسموث ؛ حينما ثار الشعب العراقي في مدنه وقراه واريافه ؛ فاستطاع و بما قدم من تضحيات ان يسقط تلك المعاهدة بصيغة ثورية شعبية حقيقية راح ضحيتها شهداء بواسل قال فيهم شاعرنا الشامخ الجواهري ممجدا : يوم الشــهيد تحية وسـلام بك والنضــال تؤرخ الاعوام بك والضحايا الغر يزهو شامخا علم الحسـاب وتفخر الارقـام كل هذه الاحداث الجسام وغيرها كانت عبرة وتنبيها حازمين لو كان ساسة تلك الايام يفقهون ويحسبون للشعب حسابه ويحترمون ارادته التي كانت تعبر عنها بوضوح طبقته المثقفة الواعية . . لقد كانت كل تلك المواقف الحازمة الحاسمة ؛بمثابة مقدمة وارهاصات لثورة الرابع عشر من تموز المجيدة التي اطاحت بالمعاهدات والاتفاقيات الجائرة و بحلف بغداد وكل توابعه وتحصيناته . لقد كان ميثاق بغداد ( وهو اهم واخطر وثيقة تعاقدية في النصف الثاني من القرن الماضي )؛ محروسا بالتعهد المضمون من قبل الولايات المتحدة الامريكية وبريطانيا وباكستان وتركيا وايران ومحاطا باطار فولاذي من القوة الاقتصادية والقانونية والعسكرية ومع ذلك فان ا صفحاته السميكة تلك و الموقعة ( بابهامات ) اقوى الشخصيات العالمية واعلاها مركزا دوليا ؛ قد تطايرت مثل ( الريش في الطوى الغاضبة) فجر الرابع عشر من تموز عام 1958. وان ما حدث يوم ذاك ليس بسبب عدم وجود قوى دول كبرى مدججة بالسلاح تحميمعاهدة الحلف، بل لان الشعب العراقي ( شبه الاعزل ) لم يكن راضيا ولا مقتنعا بصواب وفوائد هذا الحلف الذي استند بكل ثقله على قاعدة حماية مصالح الدول الكبرى دون النظر الى مصلحة العراق الحقيقية الاصلية . عليه .... فليس المهم ان تمرر معاهدة عن طريق رسمي شكلي وحسب، وانما المهم ان تقتنع الجهات المتعاقدة تماما بأن الشعـب (وبخاصة قياداته الوطنية المثقفة والواعية) راغب فيها وموافق عليها فعلا ؛ والا فسوف يصيبها ما اصاب ما سبقها من مواثيق وعهود لم يكتب لها البقاء ابدا على الرغم من ان قلاعها قد سورت بجدران فولاذية لم تستطع ابدا الصمود امام زحف و ارادة الشعب الذي صمم وباقتدار على ازالتها من امام استقلاله الوطني . ان العيب ليس في مبدأ المعاهدات والاتفاقيات وما الى ذلك ؛ فليس هناك دولة تستطيع ان تكتفي ذاتيا بامكاناتها دونما اي نوع من التواصل والتعاون مع الدول الاخرى، وانما العيب كله يكمن في تغليب مصلحة الطرف الاجنبي على مصلحة الوطن ؛ ورحم الله الرصافي حينما قال : مواطنكم يا قوم أم كريمـــة تدر لكم منها مدى العمر البان ففي حضنها مهد لكم ومباءة وفي قلبها عطف عليكم وتحنان فما بالكم لاتحسنون وواجـــب على الابن للآم الكريمة احسان
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |