قصة يوسف ع رحلة حلم من سجن البادية الى عرش مصر - 25 -

 

حميد الشاكر 

al_shaker@maktoob.com 

(( وأوحينا اليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لايشعرون ))

 ******

 في ظاهرة هي من أغرب الظواهر التأريخية الانسانية على الاطلاق، تطالعنا قضية (( الوحي والنبوة )) هنا وهناك من حياة البشرية على اساس انها من الظواهر العجيبة والغريبة في نواميس وقوانين العالم البشري في القديم وحتى الوقت الحاضر، فهي ظاهرة غرابتها تكمن بأنها وان كان لها وجود متكرر في حياة الانسانية هنا وهناك، الا انها ومع ذالك الوجود  هي ايضا ليست منتج اجتماعي صرف !.

أي هي : لم تكن ظاهرة اجتماعية من ظمن الظواهر التي تنتجها ماكنة الاجتماع الانساني المتحركة، بل هي ظاهرة معجزة تظهر فجأة في المجتمعات الانسانية لتحتك بحركة المجتمع وتتفاعل معها وتأخذ وتعطي لها .... ومع هذا كله تكون من اهم صفاتها وماهياتها الحقيقية انها ظاهرة الاهية وليست انتاج ظاهرة اجتماعية، ولهذا كان حول ظاهرة الوحي والنبوة في القديم وحتى اليوم الكثير من الاخذ والرد في صدقيتها وحقيقتها وهل هي ظاهرة فوق الطبيعية ام انها ظاهرة اجتماعية مئة بالمئة ؟!.

وعلى اي حال نحن لسنا بصدد دراسة هذه الظاهرة وطرح الادلة على مصداقيتها او عدم واقعيتها بمسمياتها اللاهوتية، ولكننا بصدد الاشارة الى انها ظاهرة وجدت ومازال فعلها الاجتماعي قائم الى هذه اللحظة، وهذا الوجود الفعلي هو مايدفعنا للقول انها ظاهرة اجتماعية لها وجود قصصي واسطوري وقانوني واخلاقي وفكري ونفسي وروحي ....... الخ  داخل المجتمعات الانسانية بقوّة، ولهذا اخذناها على اساس انها مسلمة من مسلمات الوجود المجتمعي التي تستحق الدرس والسؤال عن ماهيتها وحقيقتها اللغوية والفكرية ايضا ؟!.

فماهي ظاهرة الوحي لغويا وفكريا ؟.

ولماذا عند دراسة هذه الظاهرة تأريخيا نجد فيها الكثير من الالغاز الاسطورية ؟.

وماهي العبرة والحكمة في قصة يوسف عندما يوحى اليه في غيابات جبّ مغيّبة ؟.

ان أصل الوحي في المنشأ هو :(( الاشارة السريعة )) ويكون باساليب متعددة تؤدي غرض الايحاء او ايصال المعنى المقصود للمتلقي، فمرّةٌ يكون الوحي بالكلام، ومرّةٌ بالرمز، ومرة بالتعريض، او يكون بصوت مجردا من التراكيب، او بكتابة، او بنفس الاشارة المتعارف على انها لغة الانسانية قبل الكلام والكتابة ...، وعليه فكل هذه الاساليب تصلح لأن تكون ادوات متعددة لمعنى الوحي بصورة عامة، فهي عملية  على هذا الاساس لا تتجاوز كونها عملية ايحاء غرضها ايصال المقصود للمتلقي فحسب وافهامه للمراد  فحسب !.

ثم قيل في الوحي على اساس كيفيته الاتصالية مع هذا او ذاك من المتنبئين من انه ايضا متعدد الصور النازلة، فمنه ماينزل به ملاك على شكل بشر او على شكل آخر، ومنه مايكون الهاما يلتقطه الانسان النبي بملاكاته العقلية والروحية  الادراكية الفطنة والعجيبة، ومنه مايكون سماعا وعن طريق الحاسة السامعة كصوت يفهم مقاصده متلقيه فحسب  !.

ولكل من هذه الاساليب والمعاني الايحائية لها ايضا كيفياتها وازمانها وأماكنياتها المختلفة ايضا في حياة اي نبي من انبياء الله سبحانه وتعالى، فمرّة تقوم عملية الوحي بالاشتغال والانسان الرسول نائما، ومرّة وهو راكبا، او اخرى وهو مسافرا او عاملا او متعبدا او مقاتلا او .....الى اخر هذه الصور الانسانية التي يكون عليها الانسان في شؤون حياته الاجتماعية الطبيعية الممارسة يوميا وفي اماكن وازمان مختلفة في ليل او نهار في ظهيرة او غروب ... وهكذا !.

والخلاصة : ان لظاهرة الوحي والنبوة وكمشروع دراسة عدّة زوايا وجوانب تستحق الدرس والبحث، ولكنها كلها تعتبر من ضمن الظاهرة الاجتماعية على الاجمال، لكنّ ليس باعتبارها منتج اجتماعي مئة بالمئة ولكن باعتبار انها منتج الاهي متفاعل مع منتجات الظاهرة الاجتماعية الانسانية الطبيعية، ومن هنا كان منشأ اللغزية والاسطورية في جوانب كثيرة وزوايا متعددة من زوايا هذه الظاهرة الموجودة انسانيا والمحيّرة تفسيريا هذا !.

نعم نحن هنا نريد ان نسلط الضوء على جانب وحيد من جوانب كثيرة اخرى لهذه الظاهرة الا وهو جانب (( بداية الوحي )) باعتباره ظاهرة من ضمن ظواهر الوحي اللاهوتية، ونسأل حوله : لماذا تكون بدايات الوحي اللاهوتية وحسب ماتقصه الكتب الدينية المقدسة بشكل عام من انها بداية فجائية غير معلومة الوقت والمكان او الزمان ؟.

ولماذا لم تقتصر مثلا بأماكن العبادة فحسب باعتبار انها أماكن مقدسة وطاهرة ؟.

وكيف لنا تفسير ظاهرة بداية الوحي لانبياء كثر بصيغ متعددة وبأشكال مختلفة ؟.

فهنا رسول ونبي يرجع بعائلته من غربة في ايام شاتية وفي الطريق يأنس ضوء نار، فيأمر أهله بالمكوث لحين عودته من خبر الضوء على امل ان يرجع بقبس من نار يدفئ به عائلته ويطبخ لهم بعض الطعام، وفي ذهابه للاكتشاف يفاجأ بعملية وحي لاهوتية عجيبة تغير له جميع التوقعات البشرية، ومن ثم ليرجع لاهله بقبس النبوة بدلا من قبس النار الطبيعية كما حصل لموسى كليم الله ع ؟.

وآخر من الانبياء والرسل لديه برنامج تأمل وتعبد في جبل يخلو به مع نفسه في غار متعالي على الارض، يذهب ويرجع منه بحياة روتينية هادئه، وليس له هدف وغاية من هذا الانقطاع عن المجتمع الا الهدوء والتأمل وحب حياة الصمت والقرب من الطبيعة، وفجأة وفي ليلة من الليالي يفاجأ بظاهرة الوحي وهي تقتحم عليه حياته بشكل رهيب، وليس بالحسبان، ليمسي متأملا ويصبح رسولا ونبيا بوحي يهبط عليه فجأة او يظهر بحياته ب (( أقرأ )) لتتغير  بعد ذالك  حياة هذا الرسول بشكل كبير، كما حصل لرسول الانسانية الاعظم محمد بن عبدالله ص ؟.

واخر من الانبياء يأتمر عليه اخوته، ويحيكوا مؤامرة وحشية للاطاحة به واغتياله، ويخططوا لفعلهم وينفذوا الفعل، وعند وصول قصة هذا الانسان البريئ الى النهاية والقائه في جبّ مخيف، وتوقعه للموت المحقق، وبدلا من ان يفارق الحياة بالفعل يجد نفسه بين يدي الله سبحانه وبوحي منه يهبط به الى قعر الجب بسلام وأمئنان يقول له:(( لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لايشعرون )) كالذي حصل بالفعل ليوسف بن يعقوب ع ؟.

ان هذه الظواهر من بدايات الوحي الالهية ولعدة من الانبياء والرسل من الصعب ادراك مغازيها ومراميها الواقعية التي تذهب اليها بالواقع، ولكن ليس من الصعب الاحاطة بوحدة الظاهرة نفسها، وانها تلتقي في جانب وتختلف في جوانب متعددة، ومن ضمن جوانبها الاتفاقية هي المفاجئة الزمانية والمكانية في ظاهرة الوحي والنبوة هذه !.

نعم ادرك يوسف من خلال رؤياه ومن خلال تأويل يعقوب والده لهذه الرؤية واخباره انه  : (( وكذالك يجتبيك ربك  ...)) كمرحلة اولى من صدق الرؤيا، ولكن هذا الادراك اليوسفي بقي معلقا في الزمان والمكان الذي لايعلم عنهما احد من العالمين حتى جاء الزمان والمكان نفسه ليوسف ولم يذهب يوسف لهما على التعيين، وهذا هو سرّ قوله سبحانه وتعالى (يجتبيك ربك ) فالاجتباء على هذه المعرفة هو انتخاب الاهي يختص الله سبحانه وتعالى بزمنه ومكانه بالتحديد، وماعلى الانسان الا المفاجئة المكانية والزمانية التي تتحرك نحوه لتعلمه برسالته ونبوته الالهية هذه، ولهذا كان زمان ومكان يوسف للوحي والاجتباء هو الجبّ، وكان زمان ومكان موسى للاجتباء والوحي هو صحراء سيناء، وكان زمان ومكان محمد العظيم ص للاجتباء والوحي غار حراء .... وهكذا، اختلفت وتعددت الاماكن والازمنة لوحي ونبوة الرسل والانبياء، لكنها اتفقت واتحدت بشكل المفاجئة للانسان الرسول على اي حال !.

لكنّ لماذا المفاجئة في اعلام الرسل برسالتهم ؟.

او ماهي الغاية والهدف والحكمة والعبرة من كون زمان ومكان الايحاء خاص بالاجتباء الالهي للانسان الرسول ؟.

الحكمة هي القول لنا نحن من آمن برسالات الرسل والانبياء، ان هذه العملية وكدليل على انها ليست من ضمن الظواهر الانتاجية لحركة الاجتماع الانسانية، انها تأتي بلا توقع يذكر لهذا الرسول او ذاك مما يعني لادراسة ولاتخطيط مسبق من قبل هذا الرسول او ذاك لحركة رسالته، فليس محمد ص ولا موسى ع، ولاكذا يوسف، من اراد ان يكون نبيا رسولا او شاء الظواهر الاجتماعية وتطلبت قائدا بمنزلة رجل الاهي لذالك اعتقد هذا او ذاك انهم انبياء ودرسوا وفكروا وخططوا كحاجة اجتماعية ليكونوا قادرة رساليين ...!.

لا .... ليس هذا هو الواقع، وانما الواقع والدراسة والبحث في حياة معظم الرسل والانبياء تدلل على ان ظاهرة الوحي كانت فجائية في زمانها ومكانها لمعظم الرسل، وكان انتخاب الله سبحانه للمكان والزمان الذي يوحي به للرسول بيد الله سبحانه وحده، لتكون هذه العملية برمتها دليل على انتخاب الله للانسان وليس انتخاب الانسان لله سبحانه وتعالى كي يكون موحي اليه فافهم !.

صحيح بعد ان ينتخب الله ويجتبي هذا الانسان او ذاك، يكون الرسول الانسان ايضا منتخبا ومجتبيا لربه ايضا، ولكن ياتي اجتباء الرسول لربه بعد اجتباء الرب له بصورة تفوق كثيرا حالة الرسول الانسان قبل عملية الاجتباء الالهي هذه !.

هذا هو سرّ المفاجأة في المكان والزمان الايحائي بالنسبة لنا نحن المؤمنين بالرسل والانبياء، مع يقيننا ان هناك عبادة واتصال وارتباط وحب بين الانسان وربه قبل الاجتباء كالذي كان موجودا بين يوسف وربه قبل الاجتباء، لكن بعد الاجتباء تضاف الى هذه العلاقة الحميمية بين الانسان وربه مسؤولية حمل الامانة والارتقاء الى مرتبة الاجتباء، وهذه العملية مختلفة تماما عن مجرد الاتصال بين يوسف وربه، ولهذا قال له يعقوب والده :(( وكذالك يجتبيك ربك ..)) !.

هل علم يعقوب مكان وزمان اجتباء الله ليوسف ع ؟.

لا ... بالطبع لانه من مختصات الرتبة الالهية العظيمة فهو من يجتبي عباده وبالزمان والمكان المناسب !.

ربما والانسان مقذوفا بمنجنيق بين سماء مبنية وتنور من النار الارضية يوحي الله ويجتبي من عباده رسول مكرم كأبراهيم عليه السلام عندما قذف بالمنجنيق الى جهنم النار المستعرة، فعرض له جبريل بالوحي الك حاجة ؟.

قال : اما لك فلا واما لله فنعم ؟.

وربما والانسان مولودا لتوه يجتبيه الله سبحانه وتعالى ليكلّم الناس في المهد ويعلن اجتباء الله له كما حصل لعيسى روح الله عليه السلام؟!.

وربما والانسان في جبّ أظلم كيوسف ع ؟.

انها حكمة الله سبحانه التي لاتحدها حدود وعظمته التي لاتحيط بكنهها العقول !.

أُوحي ليوسف في قعر جبّ مظلم : (( لتنبئنهم بأمرهم هذا )) لتنبئن اخوتك في المستقبل بأمر مؤامرتهم وكيدهم ووحشيتهم هذه، فلاتبتأس على القوم الجاهلين !.

ولاتكن في خشية من موت او ضياع، فأنت الان مجتبىً لدينا وقوي أمين !.

وربما بالحق فقدت الاب يعقوب من حياتك، ولكنك الان بكنف مربيك ومجتبيك الجديد الله سبحانه وتعالى !.

وهذا اول صدق ماأخبرك به يعقوب من اجتبائنا لك يايوسف، فاستعد ل (( يعلمك من تأويل الاحاديث )) ومن بعده ل :(( ويتم نعمته عليك وعلى ءال يعقوب ..)) كان يوسف يحدث نفسه !.

فياترى هل يعلم اخوتي بما اوحي اليّ من قبل الله سبحانه وتعالى الان ؟.

(( وهم لايشعرون )) !.

وهل سيعلم اخوتي في المستقبل عندما انبئهم بخبرهم هذا ؟.

(( وهم لايشعرون )) !.

نعم انهم لايشعرون بنول الوحي للحظة وسوف لن يشعروا في المستقبل ايضا !.

والا هل من المعقول ان يكون اخوة يوسف يشعرون بشيئ ؟.

(( واذا قيل لهم لاتفسدوا في الارض قالو انما نحن مصلحون الا انهم هم المفسدون ولكن لايشعرون ))

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com