|
جلال طالباني أحداث ومواقف".. كتاب للصحافي سالار أوسي .. قراءة هادئة لتجربة سياسية غنية وصاخبة
صدر حديثا للكاتب والصحافي الكوردي السوري سالار أوسي كتاب جديد بعنوان "جلال طالباني ـ أحداث ومواقف" (دار أبعاد ـ بيروت ـ 2008)، يتناول فيه السيرة السياسية والحياتية للزعيم الكوردي الأبرز، ورئيس العراق الحالي جلال طالباني. لا يمكن، بأي حال، رسم صورة متكاملة للزعيم الكوردي؛ الأمين العام للاتحاد الوطني الكوردستاني جلال طالباني في كتاب، فهذه الشخصية الإشكالية، التي كانت حاضرة بقوة في مختلف المراحل الصعبة، والمنعطفات الحادة التي مرت بها القضية الكوردية في العقود الأخيرة، وشهدها العراق الحديث، تحتاج إلى مجلدات مطولة لإيفائها حقها، ومعرفة مكانتها الحقيقية ضمن المشهد السياسي الكوردي، والعراقي، والإقليمي، والدولي، فجلال طالباني لم يكن، في أي مرحلة من مراحل النضال الصاخبة؛ الطويلة سياسيا عاديا، ولم يكن ليتوانى عن الجهر برأيه مهما بدا مؤلما، وهذه الجرأة الخارجة عن المألوف السياسي الكوردي وفرت له خصومات كثيرة، وأنتجت انقساما وجدلا، وسجالا حول شخصية واكبت تفاصيل القضية الكوردية، واستطاعت أن تترك بصمة نافرة على مجمل التطورات التي شهدتها هذه القضية، ليس في العراق فحسب، بل كذلك في كل من تركيا، وإيران، وسوريا. علاوة على ذلك، فقد عرف طالباني طيلة سني حياته الحافلة بالمواقف، والأحداث، والمحطات والتحديات...باعتدال في الرأي، وبرزانة في وجهة النظر، وبدبلوماسية عقلانية؛ هادئة بدت عصية على الفهم لدى أوساط المجتمع الكوردي الذي لم ينل من الثقافة والعلم والسياسة إلا القليل نتيجة الظروف السياسية والاجتماعية المعروفة، ونتيجة الاضطهاد الذي تعرض له في تاريخه الحديث والقديم. ولم يكن طالباني يولي اهتماما لتلك الآراء والانتقادات التي توجه إليه. كان يصغي إلى صوت ضميره، ويرصد آلام شعبه، ويمضي بعزم إلى هدف وحيد: الانتصار لشعب مضطهد. وعدم الاكتراث بتلك المزاعم التي تشكك في مواقفه، لم يكن نابعا من تجاهله للقضية التي آمن بها في مختلف الظروف، بل لأنه كان واثقا من صحة ما يبديه من طروحات، وما يقدم عليه من أفعال، ولعل المسارات المتفائلة التي سلكتها القضية الكوردية في العراق في السنوات الأخيرة، والمكاسب والانجازات التي حققها الكورد في عراق اليوم، وتبوأه منصب رئاسة الجمهورية في العراق يدلل على أن مام جلال كان صائبا في مواقفه، ومدركا لخطورة الأحداث، ومتمتعا ببعد نظر ثاقب بعيدا عن الشعارات البراقة، والخطب الرنانة. ومهما كانت الانتقادات التي وجهت إلى شخصه، وهل هي دقيقة أم لا؟، فان أي منصف يحاول قراءة هذه الشخصية من جوانبها المختلفة، لا بد وان يعترف بميزة رئيسة لدى طالباني تمثلت في إيمانه الراسخ بعدالة قضية شعبه الكوردي، فلئن بدرت منه بعض الآراء السريعة والعابرة هنا وهناك، ولئن أقدم على نوع من التكتيك السياسي غير المدروس في هذه المناسبة أو تلك، فان المبدأ الاستراتيجي الرئيس لديه يختزل في القناعة بان الشعب الكوردي لا بد وأن ينال، ذات يوم، حقوقه المشروعة العادلة، وما كفاحه في صفوف الثورة الكوردية، ومشاركته في مؤتمرات المعارضة العراقية، ومحاربته للاستبداد والتسلط والظلم إلا أساليب لتحقيق ذلك الهدف السامي؛ البعيد، وقد تحقق له جزء مما كان يطمح إليه، وهو الآن يسير على النهج ذاته إلى أن تتحقق جميع تطلعات الشعب الكوردي. بهذا المعنى يعتبر الكتاب الذي بين أيدينا بمثابة مراجعة سريعة للتجربة النضالية والحزبية والسياسية والثورية والحياتية التي خاضها طالباني على جميع الجبهات، ففي الفصل الأول يعرض أوسي لنشأة طالباني السياسية، وانضمامه المبكر إلى الحياة الحزبية، ويظهر دوره في إطار الحركة الطلابية داخل تنظيمات الحزب الديمقراطي الكوردي، والمهام السياسية والإعلامية التي اتخذها على عاتقه في تلك المرحلة. وبعدما يتوقف الكاتب، في هذا الفصل، عند الجانب الثقافي في شخصية طالباني، وكتاباته الصحفية والبحثية والتحليلية، وخطابه الفكري والسياسي التجديدي، ينتقل، في الفصل الثاني، ليتناول دوره السياسي والميداني في استئناف النضال الكوردي، واندلاع الثورة الكوردية الجديدة، بعد انهيار ثورة أيلول إثر اتفاقية الجزائر المعروفة عام 1975م. ويعرض الباحث، هنا، لمرحلة ما بعد تأسيس الاتحاد الوطني الكوردستاني، وقراءاته لطبيعة المجتمع الكوردي، ومحاولاته إظهار القضية الكوردية وفق أسس ومبادئ عصرية. في الفصل الثالث يناقش الكاتب ابرز المهام التي اتخذها الزعيم الكوردي على عاتقه، وهو التركيز والحرص على العلاقات العربية الكوردية، وهو ملف لطالما تعرض لسوء الفهم من جانب الراديكاليين في الطرفين، وكان طالباني يسعى، على الدوام، نحو إقناع الطرف العربي بضرورة التعامل الايجابي مع القضية الكوردية، لما في ذلك من مصلحة للطرفين. ويتوسع الكاتب في هذا المجال ليظهر طبيعة العلاقة التي كانت تربط طالباني ببعض الزعماء العرب من أمثال جمال عبد الناصر، وحافظ الأسد، ومعمر القذافي... وسواهم. ويلفت الكاتب الانتباه إلى المبدأ الذي اعتمده مام جلال في علاقاته وتحالفاته، والذي كان قائما على استقلالية القرار السياسي الكوردي، وإظهار الطرف الكوردي كندّ، وصاحب قضية عادلة لا كتابع في بورصة التوازنات السياسية الإقليمية، والدولية. وينتقل الكاتب في الفصل الخامس إلى الحديث عن التجربة التفاوضية لطالباني مع الحكومات العراقية المتعاقبة، وخصوصا نظام صدام حسين، وهو هنا يستعرض طريقة الزعيم الكوردي في إدارة المفاوضات، وحنكته في الصراع السياسي والديبلوماسي، وفهمه العميق لطبيعة النظام البائد، ليختم الباحث الكتاب بفصل يشرح فيه الجانب الوطني لدى مام جلال من خلال تسليط الضوء على دوره، ومكانته في صفوف المعارضة العراقية، فقد عدّ طالباني، في مختلف أنشطة المعارضة العراقية، قطبا رئيسا لا يمكن تجاهل دوره، ومدافعا صلبا عن حقوق الشعب العراقي بصورة عامة، وحقوق شعبه الكوردي بصورة خاصة. لدى الانتهاء من قراءة هذا الكتاب القيم يتبادر إلى الذهن سؤال عفوي: هل يمكن اختزال تجربة سياسية تجاوزت عمرها النصف قرن في كتاب لا يتجاوز عدد صفحاته المئتي صفحة؟ بالطبع الجواب هنا سيكون بالنفي، غير أن الجهد الذي بذله أوسي، والمعلومات والأرقام والوثائق التي أدرجها في كتابه تدفعنا إلى القول بان هذا الكتاب يعد بمثابة وثيقة هامة عن شخصية سياسية كوردية إشكالية، وهو، في الآن ذاته، إضاءة لمرحلة سياسية عاصفة؛ مليئة بالتحولات الدراماتيكية، وقد حرص الباحث على أن يقدم شخصية مام جلال دون أية مبالغات أو مديح مجاني، وينأى بنفسه وبلغته عن تلك العبارات والكليشهات النمطية التي تتسرب غالبا إلى كتابات الباحثين الكورد لدى تناولهم أية شخصية سياسية. نحن هنا أمام نبرة سياسية مختلفة تطمح إلى وضع تجربة سياسية غنية أمام مجهر النقد المنزه عن أي غرض، في سعي جاد إلى قراءة مواقف الرجل على ضوء التطورات السياسية التي شهدتها فصول القضية الكوردية في العراق، ولعل الجانب اللافت في هذا البحث هو أن الكاتب لم ينتم يوما إلى الاتحاد الوطني الكورستاني الذي يتزعمه مام جلال، الأمر الذي أفضى إلى مقاربة حيادية متوازنة لا يعوزها الإعجاب بحكمة مام جلال وحسه السياسي الرفيع الذي استطاع من خلاله أن ينتزع حقوق شعبه، كما أن أوسي لم يلجأ إلى المؤسسات الكوردية بغرض الحصول على دعم ما أو الترويج لنوع من الدعاية السياسية تسبق العمل. لقد عمل بجهد فردي، مكتفيا بتشجيع معنوي تلقاه من مكتب الاتحاد الوطني الكوردستاني بدمشق، ممثلا بمسؤول المكتب عبد الرزاق توفيق، كما وفر له الباحث الكوردي صلاح برواري، والاستاذ محمد عثمان أمين بعض الوثائق والحوارات والنشرات المتعلقة بمام جلال وبالتجربة النضالية لحزبه، والتي وظفها الكاتب في بحث جاء مكثفا، ليضيء جانبا من جوانب شخصية سياسية شامخة؛ تستحق التقدير والثناء.
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |