|
قصة يوسف ع رحلة حلم من سجن البادية الى عرش مصر - 27 -
حميد الشاكر
((وجآءو أباهم عشاءً يبكون )) ***** عادة ماتأتي المصائب ليلا لاأعلم لماذا وربما لانه ستّار العيوب، ولكنّ في قصة أخوة يوسف كان الليل يعني شيئا أكثر من كونه ساترا وجالبا للمصائب، فهم جاءوا أباهم يعقوب عشاء يبكون ليخبروه أكذوبة أكل الذئب ليوسف وفي نيتهم الكثير من التفكير في المجيئ عشاءً للشيخ العجوز يعقوب فياترى لماذا جاء اخوة يوسف اباهم عشاء يبكون ؟. و هل كان من الممكن ان يأتوا ابيهم في صباح اليوم الثاني لأخباره بكارثة أكل الذئب ليوسف ؟. واذا كان بالأمكان ذالك فلماذا هذا العزم على مجيئهم في ظلمة الليل يبكون الخبر ؟. ان أخوة يوسف من الذكاء المتشيطن بحيث ترشحوا لمحاولة قتل نبي او تغييبه من الوجود علنّا، وقليل هم هذه او تلك من العصابات التي تجرأ على مثل هذه الافاعيل الخطيرة في قتل نبي او وصي او امام عظيم او تغييبه من الوجود، ولهذا قلنا بأن هذه العصابة من ابناء يعقوب يملكون فكرا بدويا هادئ التفكير وعميق الغايات ولكن مع الاسف في الشأن البدوي العصبوي الشيطاني، وليس في التفكير الرحماني الانساني، ومن هنا قلنا بوجوب التأمل عميقا في كل حركة وكل سكنه وكل كلمة وكل صورة .... ينقلها النص القرءاني في هذه القصة وفي غيرها من القصص القرءاني العظيم !. نعم العشاء والليل والظلمة أكثر مناسبة لطبيعة جريمة ابناء يعقوب واكثر مناسبة لاختيارهم كي يكون هو الغطاء الطبيعي لستر جريمتهم هذه لاسباب منها : اولا : يعتبر نقل النص لمفردة (عشاءً ) ذا حكمة جميلة فهي كلمة اولا :مشتقة من العشو وهو شدّة الظلمة وغياب الرؤية فيها، ولهذا قيل عن عاجزي السير ليلا من ضعيفي البصر بانهم يعشون، او للانسان الذي يعجز عن ايجاد طريقه ليلا لعجز وقصور الباصرة عنده انه ( اعشى ) ويعشي ليلا، كما ان لمفردة (عشاء) ثانيا : ايضا لطيفة ان فيها دلالة على الليلة المظلمة تماما او التي ليس فيها ضوءا قمريا او اخر صناعيا، فهي ظلمة على ظلمة، مركبة من ظلمة الطبيعية اساسا، ومنتقلة الى ظلمة الباصرة الانسانية لاصحاب قصور الباصرة العضوية كذالك ايضا !. ثانيا : ان يعقوب الشيخ العجوز الذي كانت تذكر المصادر التاريخية انه كان يربط حاجباه بسير من جلد لرفعهما الى الاعلى كي يرى شيئا من طريقه في النهار، هو وبطبيعة هذه الحال رجل عجوز يعشي في نهاره قبل ليله، فهو رجل ضعيف النظر لطبيعة السن وشيخوخة العمر وعلى هذا يعتبر يعقوب انسانا ساكنا تماما في اي ليل يذكر، واي عمل في حالة يعقوب هذه لابد ان يؤجل الى نهار مبصر لاسيما ان كان هذا العمل محتاج الى حركة يعقوب الشخصية والذاتية ففي مثل هذه الحالة فوجوب الانتظار لضوء النهار يصبح امرا حتميا ليرى يعقوب مالايستطيع رؤيته في العشاء !. ثالثا : عندما قرر ابناء يعقوب انتخاب العشاء وظلمته غطاء لستر جريمتهم المنكرة فكانوا يستهدفون اشياء عديدة، لاسيما ان كان الامر متعلق بأبيهم يعقوب ع، ففي مثل هذه الحالة يكون الليل له اكثر من معنى معتبر في عقل وادمغة ابناء يعقوب، فهو رجل عجوز متعلق بيوسف، وما أن يسمع بخبر أكل الذئب ليوسف من قبل ابنائه حتى يصر على ارادة رؤيته للجريمة بنفسه، وعلى هذا واذا كان العجوز هو بطبيعته عاجزا عن الرؤية ليلا فانه حتما سيستسلم للامر الواقع، ولايطالب باكثر من الاستبيان من ابنائه، بعكس ما لو جاء الابناء نهارا اباهم يبكون، فان يعقوب في هذه الحالة لايتنازل عن الاستنفار والحركة والمطالبة بأخذه الى موضع الجريمة ومكان اقبار يوسف حسب رواية اخوته !. لكن في الليل يتوجه الموضوع بالنسبة ليعقوب في اتجاه اخر، فهو على الاقل يدرك عجزه ووجوب سكونه في الليالي العاشية بالنسبة له، فكان المجيئ عشاء بالنسبة لابناءه شيئا حيويا في هذه النقطة ليقطع يعقوب الامل بالخروج والطلب او ربما التأكد حتى الصباح !. وهذه النقطة بالذات لم يلتفت لمغزاها صاحب التفسير الكبير الفخر الرازي، ولم يلتفت لحكمة القرءان في نقل مفردة (عشاء يبكون ) فطفق يسأل الاسألة السخيفة الكثيرة حول : لمَ لم يبالغ يعقوب في التفتيش والبحث سعيا منه في تخليص يوسف ع عن البلية والشدة ان كان في الاحياء، وفي أقامة القصاص ان صح انهم قتلوه ؟. ثم سأل الفخر الرازي حول : فما السبب في انه ع (يعقوب ) مع شدّة رغبته في حضور يوسف ع ونهاية حبه له لم يطلبه مع ان طلبه كان من الواجبات، فثبت ان هذا الصبر ( صبر جميل ) في هذا المقام مذموم عقلا وشرعا ؟!. ثم اجاب الفخر الرازي على تلكم الاسألة بالقول : الجواب عنه ان نقول لاجواب عنه !. الا ان يقال ان الله سبحانه وتعالى منعه عن الطلب تشديدا للمحنة عليه وتغليظا للامر عيله ... انتهى !. والحقيقة ان هذه الاسألة وتلك الاجوبة من قبل بعض المفسرين الكبار هي ما أعتبرناه اوهاما واساطيرا نُسج على منوالها الكثير من الخرافات التراثية في فهم القصص القرءاني، بل والكثير ايضا من سوء الادب والفهم مع النص القرءاني وماينقله عن الانبياء العظام عليهم السلام جميعا، والا مامعنى مقولة الرازي انفا : ( فثبت ان الصبر في هذا المقام مذموم عقلا وشرعا ؟. وهل يصح مثل هذا الادب السيئ في التفكير مع ( صبرٌ ) وصفه الله بالجميل ؟. ثم وبعد هذا وللتدليل على انغلاق فكره عن الوعي ذكر الفخر الرازي جوابا على سؤاله السفيه ذاك بانه : الجواب لاجواب !. وكأنما أعجز الفكر البشري هذا الرازي في اسألته صاحبة القيمة العديمة في الكثير من تفسيره، وكان يكفيه بدلا من هذا التنطع الذي لاموجب له بفهم النصوص القرءانية ان يدرك ماقلناه حول الحكمة من قوله سبحانه (( جاءؤ اباهم عشاء يبكون )) ليفهم ان النص القرءاني نفسه قد اجاب على سؤاله الفلتة كما يعتقد : وان يعقوب لم يخرج لطلب يوسف واستبيان امره ليس بسبب التقصير في الطلب ولاهو بسبب ان الله سبحانه امره بذالك، وانما كان السبب الطبيعي والذي ليس بحاجة الى تفلسف وكلامية هو لان يعقوب شيخ كبير ولاتساعده امكانياته الانسانية الصحية على الحركة ليلا، ولهذا السبب انتخب ابناء يعقوب ايضا مجيئ اباهم عشاء يبكون، لادراكهم انه سيطالب بالتفحص في شأن قصتهم عن يوسف والذئب ان اتوه صباحا او في باقي النهار المبصر، فكان من ضمن تفكيرهم ما استشكله الرازي على يعقوب بعدم الطلب، فتأكد لدينا ان ابناء يعقوب اكثر ذكاء بكثير من علماء مثل الرازي وغيره فافهم !. نعم كانت نقطة قطع الطريق على يعقوب بأن يطالب بالفحص واخذه لموقع الحادثة في يوسف والذئب، هي النقطة التي التفت اليها ابناء يعقوب في قرارهم المجيئ ليلا لابيهم عشاء يبكون !. رابعا : وكذالك من ضمن حسابات اخوة يوسف وقرارهم بالمجيئ عشاء يبكون لابيهم، هو حساب ان الليل المظلم يستر الكثير من المعائب، ومن ضمنها ستر الظلام لمرآة الوجوه الكاذبة !. ففي حالة كالتي ستمر على يعقوب وابناءه، وفي قصة ملفقة يريد ابناء يعقوب الصاقها لجريمة تغييب يوسف في الجبّ، او كعلم في الجنايات الاجرامية لكشف حقائق بعض الجرائم الكبرى .....، يكون لوجه المجرم وصفحات قسماته المتعددة كلام غير ماينطق به لسانه ان كان كاذبا، وكم من مريب قالت قسمات وجه خذوني، وكم نظرة عين بعيون مجرم تتحدث بكلام ينبئ بشيئ لايقبل الشك صدق او كذب حديث لسان الجانّي او البريئ !. من هذا كله انتخب اخوة يوسف الليل غطاءا كي لاتفضحهم السنة وجوههم وتنقل ليعقوب شيئا مغايرا لما تنطقه السنة افواههم الكاذبة، فعندئذ علا صوت اللسان في نفس الوقت الذي انزوى فيه لسان الوجه !. في الليل يبكي الجاني بصوت عال جدا كي يغطي على لسان وجهه المفضوح جدا !. ولهذا قال القرءان متحدثا عن ابناء يعقوب انهم :(( جآءو اباهم عشاء يبكون )) !. لماذا جاءو يبكون ؟. الجواب : لتغطية الصوت على الصورة اولا، ولابد ان يشغل الصوت او البكاء سماع يعقوب العجوز الذي يعشي بصره في الليل، لكن اذناه سليمتان وقلبه واعي وجوارحه سليمة ثانيا !. ولابد ان يكون في حالة ابناء يعقوب الصوت وعلوه ببكائهم هو المعبّر عن فجيعتهم الكاذبة، ليشغلوا يعقوب الحكيم عن التصفح بوجوههم واستنطاق ضمائر عيونهم لصدق او كذب الحادثة !. ولابد ان يكون البكاء هو المعبّر عما في دواخل اخوة يوسف من تمثيل للفجيعة، بدلا من تعبير الوجوه والعيون عن تلك الفجيعة !. لابد ...... فكان الليل هو المطلب لاخوة يوسف وابناء يعقوب في ستره للغة الوجوه، واظهاره للغة الصوت والنواح والبكاء وباقي غوغائية السفهاء التي تعبر عن الصخب بدلا من التعبير بالصمت وحكمة اهل الحضارة في لغة الاشارة !. ولماذا عشاء ؟. للتمويه على صاحب النظر البصري العجوز يعقوب الذي لايكاد يرى طريقه ليلا، فكيف له ان ينظر بقوة لعيون ابنائه وتغير ملامح وجوههم ليستبين الصدق من الكذب !. ان ابناء يعقوب يدركون لحظة الحسم النهائية في اللقاء مع ابيهم، ويدركون اهمية هذه اللحظة بالذات، ولذالك هم كانوا على استنفار كامل في اهمية انتخاب المكان والزمان الذي به يفاجئون والدهم العجوز يعقوب بخبر اكل الذئب ليوسف ووجوب انقطاع الامل باسترجاعه من هذا المصير !. لكنّ ما كان يشغل ابناء يعقوب هو الكيفية التي من خلالها تمرير الكذبة على اساس انه صدق مطلق بدون ان يكون ليعقوب الاب التفات الى اي حركة او اشارة او ملمح وجه من الوجوه يشير بغير هذه الكذبة، فكان الليل هو المخلص لابناء يعقوب من هذه الورطة !. كما ان الليل هو الوحيد الذي يضمن اقعاد يعقوب عاجزا عن الطلب والبحث عن يوسف في الليل المظلم، فهو وان طلب فلايستبين شيئا على الاطلاق في دعوة يكون البصر هو الاساس في صدقها وكذبها على الحقيقة، فمايفعل عجوز في ليلة مظلمة حتى وان فكر بالعون فان لامعين الا اصحاب التهمة، وهل كان متهما في يوم من الايام هو الدليل على جريمته ؟. فليس هناك امام يعقوب في هذه الحالة الا الصبر الجميل !. نعم الا الصبر حتى مجيئ النهار واندلاع الصباح بنطق تبلجه، وعند هذا الوقت تكون الروح قد بردت ووقع المفاجئ قد خفّ، ولهيب الغضب قد انطفأ، وحرقة اللوعة قد قيدت ......الخ، فبعد النوم يبرد الانسان وتهدأ مشاعره وتذهب ثورة الغضب وتنطفأ نار الحيرة ........، ولهذا قرنت المصائب الكبيرة مع الليل دائما، كما قرنت الجرائم ايضا في ليلها المظلم، وقرن مع الليل اسرار لاتعد ولاتحصى !. ان كثيرا من جرائم السلاطين واقضيتهم بقتل خصومهم تكون ليلا لتدلل على عدم عدالة هذه الاحكام وفساد سيرتها !. انتهى
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |