هل سينهض العراق من كبوته مرة أخرى يوماً ما؟

 

د.جواد بشارة / باريس

jawadbashara@yahoo.fr

هل سيعود العراق في المستقبل المنظور إلى ما كان عليه قبل دخوله نفق الحروب والدمار والمآسي، وإفرازه لملايين الأرامل واليتامى والنازحين والمهجرين والمنفيين والفقراء والمعدومين؟ وهل سيستعيد العراق عافيته ويصبح دولة رفاهية ورخاء وأمان كجيرانه، في وقت يمر فيه العالم اليوم بأخطر أزمة مالية واقتصادية في تاريخه الحديث منذ أزمة الكساد الاقتصادي العالمي الكبير بين 1929 و 1933 من القرن المنصرم؟. كثير من المؤسسات المالية والبنوك وشركات التأمين معرضة للإفلاس أو أعلنت إفلاسها فعلاً في أمريكا وبعض دول أوروبا. ويتساءل الشعب الأمريكي على لسان مثقفيه وإعلامييه وبعض السياسيين الشرفاء فيه، لماذا سوء الإدارة والإسراف والتبذير والفساد والإنفاق غير المبرر بينما شعوبنا بحاجة لكل دولار أو يورو ينفق خارج مكانه الصحيح؟ فإذا لم ينجح الأمريكيون من انتشال القطاع المالي من وهدته سيتعرض النظام المالي العالمي برمته للانهيار وستحل الكارثة بالجميع، والعراق ليس بمنأى عن هذه العاصفة التي تتقاذفه بحكم ارتباطه بأمريكا وبالدولار الأمريكي وبالسوق النفطية العالمية. لقد انتهت فترة ولاية بوش الثانية ولم يعد بإمكانه فعل شيء يذكر. لم يبق أمام العالم سوى أن يختار مرغماً بين جون ماكين الجمهوري وباراك أوباما الديمقراطي ولكل منهما رؤية تختلف قليلاً أو كثيراً عن الآخر فيما يتعلق بالوضع المستقبلي للعراق من جميع النواحي، وخاصة الاقتصادية والعسكرية، لاسيما فيما يتعلق بالوجود القانوني للقوات الأمريكية في العراق وما يرافقه من ملابسات وإشكالات تمس الإستراتيجية الأمريكية العليا والسيادة العراقية في آن واحد.

الإستراتيجية الأمريكية في العراق تتواصل ولكن في سياق ظرف عالمي ومناخ استراتيجي جديدة نابع من التوترات الدولية الجديد التي نجمت عن عودة روسيا للمسرح الدولي بقوة من خلال أحداث جيورجيا العسكرية، ومعارضة روسيا لتوسيع الحلف الأطلسي، وتحسسها من نصب منظومة الدرع الصاروخي بالقرب من حدودها في بولونيا وجمهورية التشيك وأوكرانيا وجيورجيا ذاتها التي يريدون ضمها للحلف، وبالطبع الأزمة الاقتصادية الخطيرة التي تمر بها الأسواق المالية العالمية، وأخيرا من خلال بروز ظاهرة تعدد الأقطاب الدولية، والتدهور المستمر، بما يشبه الانحدار نحو الهاوية، في الشرق الأوسط خاصة مع تعسر العثور على حلول مرضية للملف النووي الإيراني وما سيترتب عليه من تداعيات خطيرة، والطريق المسدودة التي وصلتها عملية السلام في الشرق الأوسط رغم التحسن النسبي في صيرورة الحوار غير المباشر الدائر حاليا، وبوساطة تركية، بين إسرائيل وسوريا،حيث تتجه الأنظار باتجاه مركز جاذبية دولي جديد وشامل ذو ملامح آسيوية.

 كانت إستراتيجية التأثير الأمريكي في الشؤون الدولية، وبالأخص فيما عرف بـ " الشرق الأوسط الكبير" ـ والذي يمتد من حوض البحر المتوسط إلى آسيا الوسطى ـ تنحو نحو تحقيق هدف زرع وسائل وأدوات وتجهيزات تكنولوجية متطورة جداً للسيطرة، لكي تتحكم بكل شيء: بالقوانين وأنماط المعيشة والثقافات والأذواق والمواد والسلع الاستهلاكية والتأثير على المؤسسات الاقتصادية والمالية والعسكرية، وكذلك احتواء مؤسسات المجتمع المدني الخ... والتي من شأنها أن توفر للزعامة الأمريكية الدولية عدة مجالات للتحرك والمناورة والتخطيط. من هذا المنظور، يمكننا أن ندرس ونحلل وندرك أبعاد المنطق الاستراتيجي الأمريكي الذي كان وراء قرار تغيير النظام في العراق بأسلوب القوة العسكرية والحرب والاحتلال بذريعة تقديم درس للآخرين لتفادي ظهور نظام آخر مماثل معادي للولايات المتحدة الأمريكية ولخططها الإستراتيجية في المنطقة، ويشكل خطراً على المصالح الحيوية الأمريكية. بيد أن هذه الإستراتيجية تواجه بتحدي ناشئ عن التعنت الإيراني، وعدم امتثال طهران لقرارات المجتمع الدولي التي تهدف إلى منعها من الحصول على السلاح النووي، وتهديدها لطرق الإمدادات بالطاقة والبترول والغاز الطبيعي وكافة المحروقات التي تعتمد عليها الدول الصناعية اعتماداً كلياً. من هنا فكرت الإدارة الأمريكية الحالية، وربما ستفكر مثلها الإدارة القادمة، سواء أكانت أكثر اعتدالاً أو أكثر تشدداً منها، بضرورة تعزيز وزيادة الوجود العسكري في المنطقة في مختلف القواعد الأمريكية الثابتة، في السعودية وقطر والبحرين والكويت والعراق وأفغانستان وتركيا، إلى جانب القوة الإسرائيلية الحليفة بالطبع، بغية ضمان منع إنتشار أسلحة التدمير الشامل والأسلحة المحظورة دولياً كالسلاح النووي والأسلحة البيولوجية والجرثومية والكيمياوية. وأخيراً بغية منع حصول التوسع الآسيوي، لاسيما الصيني منه، وبسط تأثيره في كل زوايا الكرة الأرضية. لذلك يتعين علينا دراسة وتحليل الإستراتيجية الأمريكية من هذا المنظور الشامل والبعيد الأمد. إبتداءاً من فترة الدعم والتأييد الأمريكي والغربي للنظام العراقي السابق في سنوات الثمانينات وأثناء الحرب العراقية ـ الإيرانية، إلى بدء عملية عاصفة الصحراء، والتي أعقبها حصار كامل وعقوبات اقتصادية دامت 12 سنة، وانتهت بعملية حرية العراق، والغزو والاحتلال وإطاحة النظام الدكتاتوري سنة 2003، حيث طبقت الولايات المتحدة الأمريكية نظرية "الفوضى الخلاقة" أو "التدمير الخلاق" التي تسبق إعادة البناء والاستقرار والبدء من جديد ومن الصفر، قبل سحب جزء كبير من القوات مابعد عام 2011. ويمكن لأمريكا أن تسمح لنفسها بشن هجمات ذات كثافة منخفضة ومحدودة جغرافياً وعلى أمد بعيد في العراق وما يحيط به، بأسلوب الضربات المحددة الأهداف سلفاً التي سميت بالعمليات الجراحية التي قد تفرضها الضرورة الميدانية والعسكرية لإخماد التمردات العسكرية المسلحة، واستئصال الجماعات الإرهابية، ووقف الهجمات الإرهابية. 

أي عراق تتمنى الولايات المتحدة الأمريكية انبثاقه من تحت الركام؟

 راهنت الولايات المتحدة الأمريكية على خيار إعادة البناء من الصفر تقريباً وإعادة توزيع الأوراق في المشهد العراقي البالغ التعقيد، وذلك يعني إعادة بناء الدولة العراقية على أساس فيدرالي، إتحادي، وطوعي مرن. وأتفق الكونغرس والإدارة الأمريكيين على هذا الخيار حتى قبل شن الحرب، إلى جانب خيارات أخرى وضعت على الرف ومنها خيار تقسيم العراق إلى ثلاث دويلات الذي قدمه السيناتور جوزيف بايدن المرشح لمنصب نائب الرئيس مع باراك أوباما الديموقراطي. لم يكن تطبيق هذا الخيار بالأمر الهين أو السهل على الحكومة الأمريكية بسبب ما ارتكبته جيوشها من أخطاء فادحة في الممارسة العملية والميدانية، وتعاملها مع الواقع العراقي المتداخل والمعقد والمتخم بالتراكمات والاحتقانات التاريخية من منظور الانقسام الطائفي والعرقي والإثني والديني والمذهبي، ومن فوق وبدون مراعاة لخصوصياته، وإتباع صيغة المحاصصة حسب النسبة السكانية لهذا المكون أو ذاك من مكونات الشعب العراقي. إن عملية فرض القانون والأمن بالقوة التي اتبعتها الإدارة الأمريكية والحكومة العراقية مؤخراً أعطت ثمارها النسبية، وسوف تتيح لواشنطن القدرة على إحتواء وكسب الفعاليات الاجتماعية والسياسية الموجود في العراق اليوم لتثبيت قواعد لعبة سياسية جديدة قائمة على التوازن في القوى، والتوافق في المواقف، وخلق موازين وعلاقات قوة سياسية ـ عسكرية، بين مختلف الأطراف، بغية ضمان تأييدها وموافقتها على إبقاء الدور الأمريكي في العراق على ماهو عليه، كحكم بين الأطراف المتنافسة أو المتصارعة على النفوذ والحظوة. أي مأسسة العلاقات مع الجهات العراقية لاسيما العشائر، والمؤسسات الدينية، الشيعية منها والسنية، والقوى السياسية العلمانية والدينية، الرئيسية والثانوية، الفاعلة والمؤثرة منها والهامشية، الداخلة أوالمشتركة في العملية السياسية أوالمقاطعة لها، من أجل تشكيل الخارطة الجيو ـ سياسية للدولة الفيدرالية العراقية القادمة التي ستكون حتماً موالية وحليفة لأمريكا لأمد طويل. العمود الفقري لهذه الإستراتيجية يستند إلى مقولة إضعاف المركز وتقوية الأطراف. من هنا يمكننا فهم وإدراك معنى قول السفير الأمريكي الحالي في العراق ريان كروكر وتأكيده أمام الكونغرس الأمريكي بتاريخ 10 أيلول 2007:" بأن بغداد قوية لم تعد بمثابة الدواء الناجع أو الترياق لكافة أمراض ومآسي ومشاكل العراق اليوم" وأشار في مؤتمر صحافي عقده بعد جلسة الاستماع له في الكونغرس، إلى "أن الممارسات الميدانية المحلية تؤطر وتؤثر بقوة على المشهد السياسي العراقي". فالذي تريده أمريكا هو إعادة بناء الدولة العراقية من الأسفل، أي من المجتمع ومؤسساته، وتشجيع المناورات السياسية المحلية والتجارب في الحقل الاجتماعي على حساب إعادة بناء وترميم جهاز الدولة المركزي السابق وأدواته القمعية أو السلطوية كالجيش وقوى الأمن الداخلي العراقية التي كانت تحمي الأنظمة السابقة ضد شعبها. المشكلة التي واجهتها الولايات المتحدة الأمريكية في إستراتيجيتها التجريبية هذه أنها لقيت معارضة مسلحة من قبل فئات قوية تمثلت بعناصر مسلحة إسلاموية متشددة ومتطرفة موالية لتنظيم القاعدة الإرهابي، وبقايا أجهزة المخابرات والجيش الصدامية التي تحن لعودة النظام السابق، وعناصر الجريمة المنظمة والمافيات التي انتعشت بظل غياب الدولة المركزية القوية القادرة على قمعها ومعاقبتها، وكذلك ازدياد وانتشار مختلف أنواع الميليشيات المسلحة الخارجة على القانون، وهي  تشكيلات عسكرية، أرعبت الشارع العراقي وقمعته بقوة السلاح، وعلى رأسها ميلشيات جيش المهدي بقيادة مقتدى الصدر، مما أرغم القيادة الأمريكية على تغيير إستراتيجيتها الميدانية، وزيادة عديد قواتها المقاتلة في العراق، وشن حملة سياسية ـ عسكرية ضد التمردات المسلحة، أي كان جنسها ونوعها ولونها وارتباطاتها وامتداداتها الداخلية والخارجية، والمستهدف بالطبع ليس تنظيم القاعدة وحده فحسب، بل جميع القوى المناوئة للوجود الأمريكي، من صداميين وتكفيريين ومتشددين شيعة وسنة، وجماعات خاصة مسلحة موالية لإيران الخ..، وكل من يعلن معارضته ومحاربته للمصالح الأمريكية وللكواليس الحكومية الممسكة بالسلطة اليوم في العراق. وكان لابد من خلق حالة من التوازن بين السلطة المركزية في بغداد والسلطات الفيدرالية في المحافظات. إن مركز الثقل والجاذبية لهذه الإستراتيجية لا يتمثل فقد بمكافحة المتمردين المسلحين، بل بمجمل حركة المجتمع العراقي. درست الولايات المتحدة الأمريكية تجارب الشعوب الأخرى التي مرت بظروف الاحتلال والتمرد العسكري المماثلة، مثل فيتنام والجزائر، وأرادت تفادي المسار الكلاسيكي لتبعات الحرب التقليدية والحرب القذرة التي تحث الأفراد والجماعات المنظمة إلى التحول إلى مقاتلين أو مجاهدين أو إرهابيين ـ وكلها تسميات وتصنيفات نسبية ـ مما يرغم القوة الحاكمة أو قوة الاحتلال إلى تبني صيغة إرهاب الدولة لمكافحة هؤلاء المتمردين الذين تسميهم إرهابيين، وذلك بضرب مناطق نفوذهم وحاضناتهم الاجتماعية واللجوء إلى أقسى أنواع القسوة والقوة والتعذيب الجسدي والنفسي، وإتباع أساليب شراء المولاة والذمم والتحالفات. فعدو الأمس يمكن أن ينقلب بين ليلة وضحاها إلى مناضل وحليف اليوم، وذلك بفضل الدولارات والأسلحة وممارسة السلطة والنفوذ بحرية وبلا خوف أو تهديد، ومن هنا نشأت ظاهرة الصحوات ومجالس الإسناد. وتحول زعماء العشائر من خاضعين لسطوة الجماعات الإرهابية إلى قادة ميدانيين يتمتعون بالسلطة والحظوة والمال والسلاح مقابل مواجهتهم للعناصر الإرهابية المتطرفة بدلا عن القوات المحتلة أو القوات الحكومية.

 وهكذا، بعد مرحلة إنحلال الدولة واختفاء سلطة القمع والردع ومؤسسات القانون والقضاء وانتشار الفوضى والنهب والسلب والخطف والسرقة وسيادة شرع الغابة، جاء دور أمراء الحرب وقادة الصحوات والميليشيات التابعة لأحزاب السلطة لتخلق واقعاً آخر من المواجهة بين مختلف المكونات العراقية. الصراع في العراق ذو شقين متوازيين: الأول هو محاولة الولايات المتحدة الأمريكية أن تخلق على الأرض علاقات وموازين قوى تناسب خيار الفيدرالية المرنة والطوعية الملائمة لدوام وبقاء واستمرارية النفوذ الأمريكي في هذا البلد. والثاني تكالب القوى السياسية العراقية بمختلف ألوانها وأطيافها على احتكار السلطة وترسيخ نفوذها وفرض الأمر الواقع من خلال التحكم بمفاصل السلطة والمناصب السيادية والحساسة في قمة هرم الدولة.

 العراق يمر بمرحلة انتقالية وماتزال الشخصيات والقوى السياسية الرئيسية، التي ملأت الفراغ في السلطة بعد سقوط نظام القمع الصدامي، هي التي تهيمن على المركز السياسي، لكن القوى السياسة العراقية لم تعثر بعد على المعادلة التي تتيح لها جميعاً العثور على صيغة توافقية مقبولة من الجميع، بل تتصارع وبشراسة اليوم سواء داخل المؤسسات السياسية كالبرلمان والحكومة والقضاء، أو في الشارع وداخل المجتمع ومؤسساته، أو عبر المجابهة العسكرية من خلال عمليات فرض القانون والأمن، وكل جهة تتصرف وفق ماتمليه عليها مصالحها الخاصة والضيقة التي لاتلتقي بالضرورة مع المصلحة العليا للوطن، بل وربما تنافيها وتتعارض معها. وكلما غابت الدولة عن الشارع ولم تتحمل مسؤولياتها الاجتماعية والتربوية والخدماتية، سارعت القوى المنافسة لها محلياً لمليء الفراغ وتقديم ما تستطيع تقديمه مما يصلها من معونات ومساعدات خارجية تقدمها دول الجوار لها، ليس لسواد عيونها أو محبة بها، بل بغية زيادة وترسيخ نفوذ تلك الدول وتدخلاتها في الشأن العراقي الداخلي وتوجيه مساراته وفق مايناسب مصالحها الحيوية، حتى و كان ذلك على حساب مصلحة الوطن العراقي العليا، لذلك تتعمد في تقوية الأطراف والفروع في المحافظات لكي تتحدى سلطة المركز كما حصل في البصرة والديوانية وديالى والموصل ناهيك عن شمال العراق وغربه. السيطرة على المركز من قبل إحدى القوى، أو من قبل تحالف معين من بعض القوى يعني في نهاية المطاف ديمومة واستمرار وتثبيت نفوذها في الأطراف والمحافظات. ولاننسى أن للعراق اليوم ثلاث مراكز للنفوذ والسلطة بعد انهيار المركز القمعي المهيمن في زمن الاستبداد البعثي، ألا وهي: المركز السياسي في بغداد، والمركز الاقتصادي وعصب الحياة العراقي في البصرة، حيث يتم انتاج 90% من الثروة النفطية العراقية، والمركز الديني في النجف. ولايجب التقليل من تأثير العوامل الخارجية ومراكز التأثير الدولية والإقليمية على العراق ونخص منها بالذكر أمريكا وإيران وتركيا وسوريا والعربية السعودية ولكل منها سياسة ومخططات منافسة ومناوئة للأخرى على أرض العراق.

 المعطيات الجيو ـ سياسية في المنطقة تغيرت كلياً بسبب الوجود العسكري الأمريكي في العراق ودول الخليج وتركيا وأفغانستان مما يشكل تطويقاً حقيقياً لإيران الأمر الذي سيجبرها على الإذعان والتفاوض إن آجلاً أم عاجلاً. إلى جانب ذلك تتخوف طهران من نوايا واشنطن، التي وضعتها في قائمة دول محور الشر، في زعزعة استقرار إيران وتمزيق نسيجها الاجتماعي الهش والمتعدد الأعراق والمذاهب والجنسيات والإثنيات ـ عرب وفرس وأذربيجانيين وبلوشت وطاجيك وتركمان وأكراد، سنة وشيعة وبهائيين الخ... ـ كما تخشى في نفس الوقت من تقوية مركز المرجعية الدينية الشيعية في النجف واستعادتها لمكانتها الرائدة والعريقة على حساب مرجعيات إيران في قم وطهران ومشهد وغيرها مما سيفقدها نفوذها الشيعي والمذهبي لدى شيعة العالم في الخليج والهند والباكستان وأفغانستان والعالم العربي والإسلامي. ومما زاد من مخاوف إيران وخلق مايشبه الهستيريا في نفوس قادتها، هو تعزيز وتدعيم وزيادة القوات الأمريكية البرية والبحرية عبر إرسال مزيد من القوات المقاتلة وحاملة طائرات ثانية إلى الخليج، ومبيعات الأسلحة المتطورة لدول مجلس التعاون الخليجي مثل منظومة صواريخ باتريوت من طراز باك3 PAV3المضادة للصواريخ، والرادارات الحساسة التي ترصد انطلاق الصواريخ المعادية على مسافة أربعة آلاف كيلومتر ، والعتاد الموجه والذكي، وآخر ما أنتجته المصانع العسكرية الأمريكية من طائرات وصواريخ ومضادات أرضية وجوية، بغية ردع محاولات التدخل الإيرانية في الشؤون الداخلية الخليجية والعراقية، وصد التهديدات الإيرانية التي يعلنها محمود أحمدي نجاد، ولحث إيران على التخلي عن طموحاتها النووية، وإجبارها على الدخول في حوار ومفاوضات بناءة مع جيرانها ومع الولايات المتحدة، وهذه الأخيرة تسعى جاهدة لكسب ود طهران وإقناعها بأن مصلحتها تكمن بقبول سلال المحفزات الدولية المعروضة عليها، وتطبيع علاقاتها مع دول الجوار، والتركيز على التنمية السلمية كشرط مسبق لعودتها إلى أحضان المجموعة الدولية ورفعها من قائمة الدول المساندة للإرهاب.

 الصراع في العراق فريد من نوعه. فهو ليس حرباً أهلية بالمعنى المتعارف عليه علمياً، أي ليس صراعاً مسلحاً بين مناطق، أوبين مجموعات إثنية، دينية، طائفية، مذهبية. والمعارك المسلحة ليست تمرداً شعبياً ضد نظام قائم، و ليست انتفاضة عامة وشاملة ضد قوة أجنبية محتلة. وإنما هي مجابهات بين فرقاء في حالة من القطيعة مع إعادة بناء الدولة، وإعادة تحديد الهوية الوطنية، مع وجود تدخلات سافرة ومشخصة، كالهيمنة الأمريكية، وتأثيرات دول الجوار وتدخلاتها المتعددة الأشكال. والحال أن هذا التواجه والتربص بين مختلف القوى والمكونات يتيح للولايات المتحدة بأن تبدو وكأنها حد أو ساتر فاصل بين الأطراف المتقابلة والمتصارعة، لايمكن الإستغناء عنها، وتعمل على فرض الاعتدال على الجهات المتطرفة منها. ولكن، ومن الآن إلى بضعة أشهر أخرى قادمة، في بداية العام القادم 2009، عندما سيتم طرح موضوعات شائكة، كمراجعة بعض بنود الدستور وتعديلها، وطلب توضيحات دقيقة بما يتعلق بمسائل الفيدرالية، ووضع كركوك النهائي، وقانون النفط، وعندما يتم التطرق إلى جدولة إعادة انتشار القوات الأمريكية والأجنبية الأخرى، وتجري معالجة لموضوع حساس يتعلق بوضع العلاقة المستقبلية  الاستراتيجية الأمريكية ـ العراقية، آنذاك من المحتمل أن تزداد حدة التوترات والخصومات بين مختلف الأطراف العراقية مع تفاقم متوقع للعنف وتشابك الميليشيات والعصابات المنظمة إذا لم تنجح الحكومة العراقية في ترسيخ قوتها وهيبتها وقدرتها الرادعة وهذا ليس بالأمر اليسير.  

العامل الذي يمكنه أن يكبح صعود وتيرة العنف هو الإمساك بالجانب الأمني والتحكم به ونشره في كل مكان وفي نفس الوقت خلق فضاءات إنسانية لتوفير المعونات والمساعدات للسكان ومنع وصول تلك المساعدات من جانب مجموعات طائفية وعنصرية تمييزية، سواء أكانت عشائر أو ميليشيات. فالدولة إما غائبة أو مقصرة، ولايمكنها إنكار إحصائيات نشرتها الأمم المتحدة، تتعلق بالأوضاع في العراق، حيث تجاوز عدد المهجرين خارج العراق المليونين ونصف المليون شخص، وبنفس القدر عدد النازحين قسرياً عن بيوتهم داخل العراق، و 54% من السكان يعيشون بأقل من دولار في اليوم، و 40% من العراقيين فقط يصلهم الماء الصالح للشرب، وهناك 3 ملايين أرملة أو مطلقة في العراق تعيش بدون معيل، وأكثر من مليوني طفل يتيم، وتفاقم ظاهرة أطفال الشوارع المتشردين، وتفشي أوبئة كالكوليرا، وتردي  المستوى الثقافي والتربوي، فالنظام التعليمي شبه مشلول ويعمل ببطء شديد حيث يعاني العراقيين من نقص المدارس والتجهيزات المدرسية. العنف والعمليات الإرهابية والتفجيرات انخفضت في بغداد لكن عمليات الاغتيال والقتل ما تزال مستمرة في كثير من أنحاء العراق بما فيها بغداد إلى جانب ديالى والأنبار والموصل حيث سقط مابين 150000 و 650000 ضحية مدنية، وإن أخطر ما أفرزته الأوضاع الشاذة في العراق هو تدمير شعور الانتماء الوطني والاعتزاز بالمواطنة والولاء لوطن إسمه العراق بسبب غياب العدل والمساواة والإنصاف وحماية الدولة للمواطن من التعسف وانتهاك الكرامة الذي يتعرض له يومياً. يتعين على قوات التحالف الدولية أن تعيد التوازن السياسي والقضائي والاقتصادي وذلك، بتدعيم البنى التحتية، والخدمات العامة، واستعادة شرعية الدولة ودولة القانون. فنقل السيادة من قوات التحالف إلى العراقيين منذ سنة 2004 كان شكلياً. ففي الواقع، ما يزال القرار السياسية والاستراتيجي بيد الأمريكيين. ورغم الاستقلالية الظاهرة عند أعضاء الحكومة العراقية، من وزراء ووكلاء ومدراء عامين، يراقب مكتب المساعدة للعراق الانتقالي،   IraqTransitionAssistance Office  التابع للحكومة الأمريكية، عن بعد، طريقة عمل المسؤولين العراقيين ويراقبهم ويتجسس عليهم، من رئيس الوزراء إلى أصغر مدير في وزارة أو مؤسسة حكومية عراقية، خاصة في الوزارات السيادية كالدفاع والمالية والنفط والخارجية والداخلية. تسعى الولايات المتحدة الأمريكية بكل قوتها إلى جر العراقيين لإنجاز ملفين جوهريين هما توقيع الاتفاقية الإستراتيجية المشتركة التي تنظم وتشرعن عمل ووجود القوات الأمريكية في العراق، وتحفظ المصالح الأمريكية الحيوية والعليا في المنطقة، وإقرار قانون النفط والغاز، وهما ملفان صاغهما خبراء أمريكيون متمرسون من موقع القوة وعدم التكافؤ، وهما قطعاً ليسا لصالح العراق على المدى البعيد، حتى لو افترضنا أن لهما فوائد آنية على المدى القصير. فإذا تم تمرير قانون النفط كما هو بصيغته الحالية، وبدون تعديل، فإنه سيخضع ثلثي الثروة الوطنية المؤكدة والمحتملة إلى هيمنة الشركات الأجنبية العملاقة، وفق اتفاقات الشراكة على مدى يتراوح من20 إلى 35 عاماً. فمسألة النفط جوهرية ومركزية بالنسبة لاستقلالية السيادة العراقية، ليس فقط من جهة العائدات المادية المهمة والضرورية لإعادة إعمار وبناء البلد فحسب، بل لأنها تتحكم بالنقاش الدائر حول الفيدرالية والمصالحة الوطنية. فمن الضروري تحديد وتوضيح مفاهيم ومصطلحات تتعلق بتقاسم الثروة الوطنية، وتوزيع الصلاحيات، والتبادلات الاقتصادية، ومحاربة الفساد، وعقلنة الاقتصاد النفطي، ونصب العدادات الدقيقة والحديثة على الآبار، وضمان أمن الحقول والأنابيب النفطية، وتحديث البنى التحتية لهذا القطاع الحيوي، ومنح العراقيين حرية القرار على مستوى الوزارات والمؤسسات الوطنية. فوزير النفط العراقي مراقب على نحو دقيق وذكي وغير مباشر من قبل خبير من وزارة التجارة الأمريكية منذ تموز 2008. هناك بديل أفضل لمفهوم تقاسم الثروة النفطية يتلخص بضرورة التوصل إلى توافق وطني بشأن الخيارات والآليات النفطية بين مختلف المناطق العراقية المنتجة للنفط حالياً، والتي يمكن أن تنتجه في المستقبل القريب، من خلال الإدارة الوطنية والمشاريع الوطنية التي تحظى بقبول الجميع، وتحقيق التنمية المستدامة، وتوفير البنى التحتية الفورية المؤقتة الضرورية لاستمرار عملية الانتاج ريثما يتم تهيئة بنى تحتية متينة وثابتة تسهم في زيادة الانتاج أو رفع القدرة الإنتاجية واتباع سياسة نفطية خارجية موحدة ووطنية في جميع مناطق العراق. ولكن للأسف فإن الخلافات بين مختلف الأطراف المشاركة في العملية السياسية، لاسيما تلك المتعلقة بعملية إعادة بناء الدولة على أسس جديدة، وترسيخ المصالحة الوطنية، وتباين التفاسير والاجتهادات، مازالت قائمة رغم الدعم والتأييد الدوليين اللذين تتمتع بهما الحكومة العراقية الحالية، لكن هذا الدعم والتأييد لن ينجح في محو تلك الخلافات في الرؤى المتناقضة، بل يمكننا القول أن الولايات المتحدة تشحذ تلك الخلافات دن أن تسمح لها بأن تطفو على السطح، لكي تستثمرها لإدامة وجودها وإقناع العراقيين بالاعتماد عليها في تماسك وحدتهم وتوازنهم. لقد أضحى العراق موضوعاً مركزياً في الحملة الانتخابية الرئاسية الأمريكية واندفع المرشحان الجمهوري والديموقراطي في سباق من المزايدات اللفظية وسيل من الاتهامات المتبادلة بشأن صواب أو خطأ التدخل العسكري الأمريكي في العراق حيث يحذر المرشحان في الحديث عن تحقيق انتصار في العراق. كل واحد منهما، وكذلك الرئيس بوش، يلقي الكرة في ملعب القيادة العسكرية الميدانية في العراق، باعتبارها الوحيدة المؤهلة لتقرير ما إذا كان بوسع العراق وجيشه وحكومته ضمان الأمن الوطني، والسماح بسحب القوات الأمريكية من هناك دون الإخلال بالمعادلة الأمنية أو خلخلة التوازنات القائمة. تمت ترقية الجنرال بيترايوس لقيادة المنطقة الوسطى للشرق الأوسط وآسيا الوسطى التي تضم العراق وأفغانستان وتسليم قيادة القوات الأمريكية في العراق إلى معاونه الجنرال ريموند أوديرنو وكلاهما يقول أن الوضع مازال هشاً وقابلاًً للانتكاس، و يجب عدم التسرع بسحب القوات من العراق، فهناك مخاطر أخرى تتربص بالعراق، والعدو الإرهابي يمكنه أن يعود بسرعة إلى الساحة إذا حدث فراغ في القوة العسكرية الرادعة المتمثلة بالقوات الأمريكية. بينما تحدث روبير غيتس وزير الدفاع عن دخول أمريكا في مرحلة نهاية اللعبة في العراق ووصف باتريوس بالرجل الذي لعب دوراً تاريخاً في عودة الاستقرار والأمن في العراق. فبين 2005 و 2007 كان 3000 عراقياً يسقطون شهرياً ضحايا الإرهاب والتفجيرات وإنعدام الأمن واستفحال الفوضى وغياب القانون. في حين انخفض العدد إلى أقل من 500 في عام 2008. وقد تمكن بيترايوس من إنهاء التمرد السني ضد الوجود الأمريكي، وكسب تعاون العشائر في ما سمي بالصحوات لاستئصال تنظيم القاعدة الإرهابي. وبينما كانت القوات الأمريكية والعراقية تتلقى أكثر من 3000 هجمة في الأسبوع بين 2005 و 2006 إنخفض عدد الهجمات إلى 800 سنة 2007 و إلى 400 سنة 2008. وبعد أن حل بول بريمر الجيش العراقي قامت الحكومة العراقية الحالية باستعادة وإرجاع العسكريين النظاميين العراقيين ممن لم تلطخ أياديهم بدماء العراقيين إلى الخدمة في تشكيلات الجيش العراقي الجديد وقوى الأمن والشرطة حيث تجاوز عددهم النصف مليون. ولم تفلح محاولات المتعصبين والمتشددين التكفيريين في إشعال فتيل الحرب الطائفية، رغم الهجمات الدموية ضد المواطنين الشيعة الأبرياء، ورغم ضعفهم إلا أن أتباع القاعدة في العراق مازالوا قادرين على تسديد الضربات الدامية كما يعتقد بيترايوس، ومازالت عمليات التطهير ومطاردة الإرهابيين والخارجين على القانون مستمرة ومتواصلة في جميع أنحاء العراق، مما أجبر مقتدى الصدر بالتخلي عن طموحاته القيادية عبر ميليشياه المسلحة المعروفة بجيش المهدي المتهم بارتكاب جرائم بشعة ضد السنة المدنيين،وإصدار أمره بتجميد نشاطاته العسكرية والهروب إلى قم في إيران بذريعة مواصلة العلوم الدينية لنيل درجة الاجتهاد. فالعراق وأفغانستان يمران بإنعطافة حادة ولكن باتجاهين متعاكسين بعد أن انسحبت معظم العناصر المسلحة المتطرفة الأجنبية التابعة للقاعدة من العراق وعودتها إلى أفغانستان. سيكون للاتحاد الأوروبي دور أساسي ومؤثر في العراق لو كثف من استثماراته ومساهماته في إعادة ترميم وبناء البنى التحتية، ورفع مستوى القدرة الانتاجية للعراق من الطاقة، خاصة وأن العراق سيكون جاراً للاتحاد الأوروبي لو أتيح لتركيا الانضمام إلى هذا الاتحاد يوماً ما. وبالمقابل يمكن للاتحاد الأوروبي التأثير على تركيا لتغيير موقفها المتشدد من المسألة الكردية ومسألة تقاسم المياه بصورة عادلة ومنصفة، وهذه كلها يمكن أن تساعد العراق على النهوض من كبوته وهو حلم وأمل الجميع.

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com