الكوارث الطبيعية والسياسية..؟!

 

د-مراد الصوادقي

 alsawadiqi@maktoob.com

يبدو أن هناك علاقة خفية ما بين الكوارث الطبيعية والسياسية , فكلما ازدادت الكوارث الطبيعية في بلد ما قلت الكوارث السياسية . ومن يتأمل بلدا كالعراق يجد أنه يخلو من كوارث الطبيعة لكنه يرزح تحت ويلات الكوارث السياسية. ففي النصف الأول من القرن العشرين كان النهران دجلة والفرات يفيضان كل ربيع ويغرقان الأراضي ويهددان الحياة خصوصا في الوسط والجنوب. وكان الناس في صراع مع هذه الكارثة السنوية التي تحل بالعراق , لكن وضعهم السياسي كان مستقرا وهم أقرب إلى بعضهم البعض في كل شيء. وقد تم السيطرة على الفيضان في النصف الثاني من القرن العشرين وخصوصا في نهاية فترة الخمسينيات التي شهدت آخر الفيضانات الكبيرة, فأعقبتها كوارث سياسية طاحنة لم تهدأ حتى يومنا الحاضر, حيث دخل العراق في صراعات دامية وحروب مدمرة منذ آخر فيضان وحتى اليوم.

قد يستغرب البعض من هذا الربط ما بين الحالتين , لكن واقع الحياة من حولنا يشير إلى أن الأمم التي تتعرض لكوارث الطبيعية هي أكثر استقرارا من التي لا يصيبها الكثير منها. فالعالم الغربي هو أكثر منا عرضة للأعاصير والعواصف الشديدة والهزات الأرضية المتلاحقة, وهو أكثر استقرارا وقوة وتقدما من غيره.

بينما في العراق والكثير من الدول العربية لا نعرف الأعاصير والعواصف الثلجية والمطرية الشديدة ولم تحصل هزة أرضية أو يكون للطبيعة شأن في التحدي والبقاء , وبسبب ذلك فقدنا مهارات الصراع مع الطبيعة وابتكار وسائل البقاء والقوة والصمود. ووجدتنا من أكثر شعوب الأرض خبرة في مهارات الصراع فيما بيننا وتحقيق أعلى درجات الكفاءة في أساليب الانقراض والضعف والضياع والرحيل.

إن الصراع مع الطبيعة يوحد البشر ويجعلهم قريبين إلى بعضهم ويمنحهم الشعور بأنهم بحاجة إلى وجودهم وفعلهم الجماعي الذي يحقق مصلحتهم, ووفقا لهذه الحاجة الغريزية تم بناء المجتمعات والانتقال من حياة الكهوف إلى القرية والمدينة والدولة. إنه ذلك الحس الجماعي الذي أوجدته الكوارث الأرضية وجعلت الفرد البشري يقف أمام نفسه ويرى ضعفه وقلة حيلته لوحده , فدفعته قوة البقاء وحب الحياة إلى أن يكون مع الآخرين من بني جنسه لكي يتمتع بالحياة ويتواصل عبر الأجيال. فالكوارث الطبيعية تمنح الناس الإحساس بمساعدة الآخرين والاهتمام ببعضهم وتشعرهم بمعاني الحياة , فترى الناس في بلدان الكوارث أكثر تبرعا وعطاءا ومساهمة في المشروعات الخيرية والإنسانية المتنوعة.

وفي بلاد الرافدين كان النهران مصدرا لتحدي الطبيعة وتوحيد الناس ولمّ شملهم وتفاعل رؤاهم وتصوراتهم, من أجل أن تتحقق المواجهة الجماعية مع النهرين العظيمين دجلة والفرات. وبعد أن تم أسرهما بالسدود وقلة المياه , فقد العراقيون أهم سبب للوحدة الوطنية والقوة الجماعية, وفعلت بهم عواصف الكراسي وأعاصير الانقلابات وزلازل الحروب ما فعلت , فجعلتهم شذرا مذرا, وناثرتهم في أصقاع الأرض البعيدة وقلوبهم تنزف حبا لوطنهم العراق.

إن الكوارث الطبيعية أكثر رحمة من الكوارث السياسية, لأنها تأتي بقوة ولوقت قصير , فتوقظ الناس من غفوتهم وجهلهم وتمدهم بقدرات الوعي الجديد اللازم لاتخاذ التدابير الضرورية للتقدم والبقاء الأفضل. بينما الكوارث السياسية من الأمراض الخبيثة التي تمتد في المجتمع وتقضي عليه وتدمر أسباب قوته ووحدته وتقتلع جذور قدرته على النمو الجماعي السعيد. فهي تزرع بذور الفرقة وتمنح الكرسي قيمة أكبر من الوطن وتسحق قيمة الإنسان وتحوله إلى شيء ورقم على اليسار.

إن الكوارث السياسية سيئة رغم شعاراتها المضللة , لأن الخطر القائم فيها هو البشر ونوازع نفسه الأمارة بالسوء والشرر. والكوارث الطبيعية حميدة رغم أضرارها الكبيرة , فالخطر فيها هي الطبيعة التي تحنو علينا وتمدنا بأسباب الحياة , وكأنها تريد أن تهذب سلوكنا وتؤدبنا فتغضب علينا بين الحين والآخر . ويبدو أن الناس في العراق قد تعودوا وعبر الأجيال على الاستعداد لكوارث الربيع الفيضانية التي تضرهم وتنفعهم , لأنها تمدهم بالأرض الرسوبية ذات القدرة العالية على الإخصاب والعطاء الزراعي الوفير وبنوعيات جيدة ومتميزة ونادرة. وبغياب هذا الإيقاع الطبيعي مع الحياة على مدى نصف قرن , أصابهم نوع من الاضطراب والتشوش في السلوك أدى بهم إلى الإمعان في تحقيق الكوارث السياسية المتلاحقة وبلا انقطاع أو هدوء. ولازلنا نعيش أعظم كارثة سياسية لحقت بالعراق منذ تأسيس دولته في مطلع القرن العشرين. ولو خيرنا العراقيين بين كوارث الكراسي والأحزاب والانقلابات وكوارث الفيضان لاختاروا الأخيرة, لأنها أرحم وأقل ضررا وأكثر منفعة من كوارث البهتان والخداع والتبعية والتضليل والتدمير المبين.

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com